|
راحت السكرة وجاءت الفكرة
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1810 - 2007 / 1 / 29 - 12:07
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كنت قد اتفقت مع الزميلات، والزملاء، في »العدد الأسبوعي« علي الاعتذار عن عدم الكتابة هذا الأسبوع لإحساسي بإرهاق شديد وحاجتي إلي الراحة بعد حرق الأعصاب المستمر من جراء متابعة الأوضاع العبثية لعالمنا العربي التعيس. لكن حديثاً عابراً مع مندوبتنا لدي وزارة الصحة جعلني أعتذر عن الاعتذار، وأغير رأيي فوراً لأكتب السطور التالية علي أمل أن يكون لها صدي حتي ولو لدي بضعة قراء أو حتي قارئ واحد. أما فحوي هذا الحديث.. فهي أن زميلتي قد نبهتني إلي خطورة نقص الدم في المستشفيات العامة والخاصة وبنوك الدم. وأن هذا النقص ــ إذا ما استمر ــ يمكن أن يؤدي إلي كارثة حقيقية. بل إن بعض ملامح هذه المصيبة »القومية« بدأت تلوح في الأفق. ومن هذه الملامح المؤلمة أن الأطباء قرروا تأجيل إجراء الكثير من العمليات الجراحية نتيجة عدم وجود احتياطي كافٍ من الدم. بل إن عمليات القلب المفتوح قد وصل إليها شبح هذا التأجيل ــ رغم خطورة مرور كل ثانية إضافية ــ وأن نسبة العمليات المؤجلة في شهر يناير الجاري وصلت إلي 40 ــ 50%. والسبب في كل ذلك هو توقف التبرع بالدم بصورة تكاد تكون شاملة بعد اللت والعجن في قصة أكياس الدم المعيبة. ولا شك أن قصة هذه الأكياس قصة مفجعة. ولم تخطئ الصحافة وجميع وسائل الإعلام عندما تناولتها وسلطت عليها الأضواء، فرسالة الإعلام والصحافة أن تحاول كشف الحقائق وتنوير القراء والمشاهدين والمستمعين بالأخطار المحدقة بهم. فما بالك وأن موضوع أكياس الدم يتعلق بحياتهم، حيث إن كل واحد منا معرض لدخول غرفة العمليات في أية لحظة، وبالتالي فإنه ربما يحتاج إلي نقل دم. فإذا كانت عملية نقل الدم غير آمنة في أي مرحلة من مراحلها فإنها يمكن أن تودي بحياة الإنسان فوراً، أو علي الأقل تعريضه لخطر جسيم والعياذ بالله. لكن يجب أن نعترف أيضاً بأن هذه التغطية الصحفية والإعلامية قد جنحت، أحيانا، إلي »التهويل« الشديد، وربما وقع بعضنا في أخطاء مهنية. منها مثلاً عدم التمييز بين عيوب صناعية في الأكياس وبين تلوث الدم، واستسهل البعض إطلاق اسم »أكياس الدم الملوث« علي أكياس الدم المعيبة. ونتيجة لذلك انتشرت حالة من الهلع في صفوف المصريين، انتشار النار في الهشيم، وتداعت مع متابعة وقائع قضية الأكياس، أو القرب إياها، ذكريات كل قضايا الفساد التي وقعت علي رءوس المصريين في السنوات القريبة والبعيدة، وتحت وطأة هذا الإرث الثقيل كان طبيعيا أن يكون رد الفعل الأول للغالبية العظمي منا هو التوقف الجماعي عن التبرع بالدم، من منطلق أنه طالما أن الأمور بهذا »البوظان« الشامل والفادح، وبهذا »الفلتان« الذي ليست له حدود، فما هو الضمان لئلا أفقد حياتي أو أصاب بمكروه أثناء عملية تبرعي بدمي؟ وإذا نجوت بمعجزة أثناء عملية التبرع فما الضمان ألا يفسد الدم الذي تبرعت به أو يصاب بالتلوث، وبدلاً من أن ينقذ مريضاً محتاجاً يودي بحياته ويعجل بأجله؟! وساعد علي ذلك أن الحملة الإعلامية لم يقم بها صحفيون فقط، بل كانت مصادرهم الأساسية من الأطباء. وهؤلاء انقسموا انقساما عجيباً. ما بين »تهويل« و»تهوين« زاد الطين بلة وزاد الجماهير العادية ــ مثلي ومثلك ــ حيرة وتشوشاً وإحباطاً. فها هو الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء، ورئيس لجنة الصحة بمجلس الشعب ــ أي أكبر راس طبية في البلد ــ يقول بكل حزم إن القضية بأسرها لا أساس لها وأن الهدف من إثارة كل هذه الزوابع هو الرغبة في تحطيم صناعة المستلزمات الطبية الوطنية لمصلحة الشركات الأجنبية. بينما أساتذة كبار أيضا في معاهد طبية ومراكز مرموقة جداً يؤكدون ــ بل ويقسمون علي المصحف والإنجيل ــ أن أكياس هاني سرور تمثل تهديداً للصحة، بل قد تسبب الإصابة بالسرطان! وها هو النائب حيدر بغدادي الذي فجر القضية تحت قبة البرلمان ينتشر علي كل شاشات الفضائيات والقنوات التليفزيونية المصرية وغير المصرية وتقدمه كثير من وسائل الإعلام باعتباره »البطل« المنقذ الذي لم يتراجع عن القيام بواجبه أمام الإغراءات المالية والتهديدات بالقتل. بينما رأي البعض أنه ليس فوق مستوي الشبهات، بل تقدم أحد الأشخاص ببلاغ إلي النائب العام يتهم فيه النائب ذاته بالتربح وتكوين ثروة تناهز ثلاثة ملايين جنيه بينما كان حتي الأمس القريب »موظفاً غلباناً« يعيش علي فيض الكريم! فماذا يصدق المواطن العادي؟! ومن يصدق؟! ولماذا يضحي بدمه في حدائق الشيطان هذه التي تغيب فيها الحقيقة وتضيع فيها المصداقية؟! وربما تبدو هذه المعادلة الذهنية منطقية لأول وهلة. لكنها ليست كذلك إذا نظرنا إلي الأمور بدرجة أكبر من التمعن والتدقيق. فإذا كانت هناك »لخبطة« وأخطاء، وحتي خطايا« كشفت عنها فضيحة الأكياس إياها. وإذا كانت هذه الفضيحة تستدعي المحاسبة وتقديم المذنبين، مهما كانت أسماؤهم أو مناصبهم، إلي العدالة. فإن التوقف عن التبرع بالدم ليس هو الحل، بل إنه بمثابة جريمة أخري. هي بالتأكيد ليست جريمة قانونية، ولا تقع تحت طائلة أي تشريع، أو قانون عقوبات. لكنها جريمة أخلاقية. بل أمضي أبعد من ذلك لأقول إنها جريمة ضد الإنسانية. فالإنسان كائن اجتماعي، لا يعيش بمفرده، وإنما يوجد بغيره. وبدون هذا التضامن الإنساني بين الناس لانقرضت البشرية. وعندما امتنع أنا اليوم عن التبرع بلتر من دمي، وتمتنع أنت عن التبرع غدا بلتر من دمك، فمن ذا الذي سينقذ ابني أو ابنتك من خطر محدق لا قدر الله بعد غد؟! وصحيح أن هناك أمورا سلبية كثيرة، أكثر من الهم علي القلب، في مؤسساتنا الصحية وغير الصحية. لكن الأوضاع لم تصل بعد إلي أوضاع الغابة. ومجرد الحديث عن فضيحة الأكياس إياها ــ حتي مع افتراض حدوث تجاوزات في هذا الحديث ــ يعني أن هناك عيونا لاتزال يقظة، وضمائر لاتزال حية، ومعايير للصواب والخطأ لاتزال تفرض نفسها حتي علي المنحرفين أو من لديهم استعداد للانحراف. ولعل من »محاسن« الكشف عن هذه الفضيحة انها جعلت النائم يستيقظ، والمتسيب يتحوط، واللص يكمن ولو إلي حين. ولهذا فإنه يمكن توقع أن تكون الرقابة علي عملية التبرع بالدم وضمان سلامتها في أفضل أحوالها اليوم. وبالتالي.. فإن المنطق، فضلا عن اعتبارات التآخي والتضامن الإنساني، يحث المصريين عن التخلي عن هذا الموقف السلبي الذي اتخذوه في أعقاب تلك الحملة التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وأن يعودوا إلي جوهرهم الأصيل، وأن يتبرعوا بدمائهم.. التي يمكن أن تنقذ حياة بشر يحتاجوننا اليوم.. ونحتاجهم غداً. فهل نفعل؟!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لبنان .. فى مفترق الطرق
-
-الحمار- يهزم -البروفيسور- .. في جامعة المنصورة!
-
التعذيب .. يا حفيظ 2
-
الرابحون والخاسرون فى اضراب لبنان
-
رجاء النقاش .. مكتشف المواهب
-
رؤية بديلة للتعامل مع الجماعة »المحظورة«
-
اعتذار عمارة وعذر الأوقاف
-
6 + 2 + 1 لا تساوي تسعة!
-
حوار الطرشان
-
خطة بوش الجديدة : كثير من اللغو المفخخ
-
استراتيجية بوش المسمومة
-
الملابسات حول التعديل الدستوري بين »التهويل« و »التهوين
-
إنفتاح دستورى وانغلاق حزبى
-
خليل كلفت
-
بداية .. ونهاية
-
سبحان مغير الأحوال: علاوى ومبادرته المثيرة 2-2
-
سبحان مغير الأحوال: علاوى ومبادرته المثيرة!
-
حكومة »ديجيتال« تستخدم أسلحة العصر الحجري
-
المجتمع الأهلي.. فى إجازة
-
جهاز حماية المستهلك يحتاج إلى حماية
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|