عبد الرحمن جاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1807 - 2007 / 1 / 26 - 05:51
المحور:
الادب والفن
أيمكنني أن أجلس جواركِ؟ نهدتُ وأنا أستمع لـ"لميس" تحدّث المرأة المسنّة الجالسة على مقعدٍ في حديقة الصنائع. المراة لم تنبس ببنت شفة، أشارت بيدها فحسب. جلسنا، صرنا ثلاثة، أنا ولميس وهي. اقترب بائع كعك. "أتريدين كعكاً؟" سألتها لميس متحرشة بها، وأنا المتفرجة أكاد أموت قهراً، ما شأني أنا بهذه المرأة الصامتة. "نعم"، وافتر فاهها عن فمٍ بلا أسنان، يبسم وجهي-وجه لميس فتقفزني "بفرح" لنحضر كعكتين وأكاد أسأل إن احتسبتني لميس موجودة، مع أنني من أدفع. يد المرأة قديمة، تمتد لتأخذ كعكتها-هكذا شعرت- أظافرها وسخة خشنة –أخافتني- وتأكل بنهم. أأحضر ما تشربينه؟ لميس تعود لسخافاتها وتجرني لإحضار عصيراً لإمرأةٍ لا تعنيني.
- لم يبق معنا مالٌ للعودة إلى المنزل.
- لدينا قدمين.
"شكراً حبيبتي"، وأدعيةٌ تهطل، والمرأة العجوز تسألني عن اسمي، فتجيب لميس.
***************
المسافةُ طويلةٌ للغاية، التعب يكاد يقتلني، ولميس "المُتْعَبة" تحفّزني أكثر على المسير، وتسليني. تخبرني أن عالم لميس بلا طرق، بلا أماكن، إن أردت الذهاب إلى مكانٍ أتي إليكِ. لا نحتاج وسائل نقل، الأماكن كلها بمتناول يديك. وأنا المتعبة أصغي بسأم وأقنع بأن الطريق يقصر.
أشرف كان يقول لي دائماً كل خطوة للأمام، أكان في عقلك أو من جسدك، تجعل الطريق أقصر، والوقت أقصر، والحياة أحلى. عقلي كان يركض، وجسدي يمشي، وقلبي نائمٌ يحلم!
***************
أتريد أن تعلّمني الحقيقة؟
لا تتعب نفسك!
أنا لا أرى الشيء من خلالك،
بل أراك فقط من خلال الشيء!
(فريدريتش فون تشيللر)
***************
أصل المنزل. فتخرج العناكب لتحيتي. كأن الشمس لا تدخل منزلنا. كأن والدي لا تحبه الشمس، ولا أمي، ولا حتى إخوتي الصغار. بين الشمس وبيننا صراعٌ مستميت. تغلق الستائر، تغطى الفتحات، وتصير الشمس عدواً غير مرغوبٍ فيه. لميس كانت تجن داخل المنزل، في مدينة العتمة تلك. تبدأ بالصراخ داخلي، والأغطية التي تحجب الضوء تريح والدي، وتغضب أمي، لكن الصمت دائماً كان حليف أمي، أما إخوتي/نحن فلا صوت لدينا لكي يُسمع.
يجلس والدي للصلاة، هو يكره الضوء، ويصلّي "لنور السماوات والأرض"، تتهجد أمي لمدح الإله ذاته، وضوء الكهرباء الشاحب يغرق النهار في ليلاه. لميس التي تكاد تمزقني لتخرج، تفتح الستارة لدقائق، تشم رائحة الشمس، ثم تعود لإغلاقها خوفاً من يدٍ عابرة قد تسرق شيئاً من عتمة المنزل. فيصبح منزل العتمة، بلا عتمة. ويصبح والدي بلا عمل!
***************
#عبد_الرحمن_جاسم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟