أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حمدي سيد محمد محمود - حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر














المزيد.....

حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8341 - 2025 / 5 / 13 - 11:31
المحور: قضايا ثقافية
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تشكل ثقافة التسامح إحدى الركائز الأساسية لقيام مجتمعات مدنية سلمية، تعددية، وإنسانية. فهي لا تعني فقط قبول الآخر على مضض أو التعايش الشكلي، بل تنبع من قناعة داخلية راسخة بأن الاختلاف جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني، وأن التنوع الإثني والديني والثقافي واللغوي ليس تهديدًا، بل مصدر غنى وتجدد حضاري. التسامح بهذا المعنى ليس موقفًا سلبيًا أو حياديًا، بل هو فعل إيجابي، يتضمن احترام الكرامة الإنسانية، وقبول الآخر كذات مستقلة تستحق الاستماع والتقدير، بصرف النظر عن خلفيتها أو عقيدتها أو توجهها. في السياق العربي، كان للتسامح في بعض فترات التاريخ دور بارز في تشكيل نماذج حضارية راقية، كما في العهد الأندلسي أو في تفاعل المسلمين مع أهل الكتاب، إلا أن هذا التراث لم يُستثمر بما يكفي في صوغ وعي جماعي حديث قادر على مواجهة التحديات الراهنة.

تراجع ثقافة التسامح: أزمة بنيوية في الوعي الجمعي العربي

رغم الموروث الديني والثقافي العربي الذي يشدد على قيم الرحمة، والعفو، والحوار، فإن المجتمعات العربية المعاصرة تشهد تراجعًا ملحوظًا في ثقافة التسامح، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. هذا التراجع ليس نتيجة طارئة أو عرضية، بل يُعبر عن أزمة بنيوية عميقة في البنية الذهنية والثقافية والاجتماعية. ومن بين أبرز أسباب هذا التراجع:

1. الاستبداد السياسي وإغلاق الفضاء العام: حيث عززت الأنظمة السلطوية ثقافة الإقصاء والولاء الأعمى، فتمت محاصرة التنوع الفكري والديني والسياسي، وأُقصيت الأصوات الحرة التي تدعو إلى الحوار والانفتاح. في ظل غياب الحريات، تتحول الدولة إلى أداة قمع، لا تحتمل التعدد، فيتم تجريم الاختلاف وتجذير ثقافة "الأنا ضد الآخر".

2. الخطاب الديني الأحادي: شهدت العقود الأخيرة تصاعدًا في الخطابات الدينية المنغلقة، التي تؤسس لعقيدة الإقصاء واحتكار الحقيقة، بدلاً من تجذير القيم العليا التي يدعو إليها الدين، كالرحمة والتعارف والبرّ. وغالبًا ما جرى توظيف الدين لخدمة أجندات أيديولوجية أو سلطوية، ما ساهم في تكريس رؤية ثنائية: مؤمن وكافر، نحن وهم، مما يقوض إمكانيات التعايش السلمي.

3. الانقسامات الطائفية والهويات القاتلة: ساهمت التدخلات الخارجية، إلى جانب الانهيارات الداخلية، في تأجيج الصراعات الطائفية والعرقية، كما هو الحال في العراق وسوريا ولبنان واليمن. هذه الصراعات أعادت تشكيل الانتماء الجمعي على أسس طائفية ضيقة، وأضعفت الهوية الوطنية الجامعة، لصالح هويات جزئية مسيّسة، تتغذى على الكراهية والخوف.

4. الإعلام المنقسم والمنحاز: بدلاً من أن يكون الإعلام وسيلة لتعزيز التسامح وبناء الوعي النقدي، أصبح في كثير من الأحيان أداة لبث السموم الطائفية والتحريض على الآخر المختلف، سواء عبر القنوات التقليدية أو منصات التواصل الاجتماعي. الإعلام الموجه ساهم في تشكيل صورة سلبية عن المختلف، فصار يُختزل في صفات نمطية تشويهية.

5. المدرسة والجامعة كبيئات إنتاج للتمايز لا التسامح: النظم التعليمية في العديد من الدول العربية لا تزال تفتقر إلى مناهج حديثة تكرّس قيم المواطنة، والحقوق، والتعددية، وتدريب العقل على النقد والتفكير المستقل. وبدلاً من ذلك، يتم تلقين الطلاب سرديات مغلقة، تعتمد على التقديس والتلقين، مما يعمق الانغلاق المعرفي ويحول دون تقبل التنوع.

نحو استعادة ثقافة التسامح: رؤية إصلاحية

إن استعادة ثقافة التسامح في المجتمعات العربية تتطلب رؤية متكاملة، لا تقتصر على إصلاح قانوني أو مؤسسي، بل تمتد لتشمل إصلاحًا في بنية الوعي والعقل الجمعي. ينبغي إعادة الاعتبار للتربية على القيم الأخلاقية الكونية منذ المراحل الأولى من التعليم، وتعزيز دور المثقفين والفنانين والمفكرين في نشر ثقافة الحوار وقبول الآخر. كما يتطلب الأمر شجاعة سياسية في فتح المجال العام، واحترام حرية التعبير، ومحاربة خطاب الكراهية بكافة أشكاله، وتقديم نماذج مجتمعية ملهمة لتجارب التعايش السلمي. فالتسامح لا يتحقق بمجرد التنظير، بل يحتاج إلى ممارسة يومية، وتواطؤ ثقافي عميق لبناء مجتمع لا يرى في الاختلاف تهديدًا بل فرصة للتكامل.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إعادة بناء العقل العربي: من التلقين إلى الإبداع المعرفي
- مسارات الفكر العربي: من النهضة إلى العولمة... تأملات في التط ...
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد العربي: من وعود التحديث إلى تهديد ...
- النهضة المؤجلة: لماذا أخفقت مشاريع تجديد الفكر العربي؟
- المعرفة السياسية وأسئلة المعقولية: قراءة في أسس علم السياسة
- ما بعد العلمانية: انهيار السردية العلمانية وصعود التعددية ال ...
- العربي بن مهيدي: أيقونة الموت واقفًا وذاكرة الثورة التي لا ت ...
- سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إل ...
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...


المزيد.....




- لماذا لم يتناول ترامب القهوة خلال زيارته للسعودية؟
- الكرملين يكشف سبب رفضه مشاركة أوروبا في المفاوضات مع أوكراني ...
- إطلالة جريئة لميغان ذي ستاليون تخطف الأنظار بحفل -غولد غالا- ...
- الخارجية الجزائرية تصدر بيانا حول التطورات في ليبيا
- الخارجية الهندية: مسألة كشمير يجب حلها على مستوى ثنائي بين ا ...
- -فيها كل عناصر السعادة، وكل عوامل الانفجار-... ماذا نعرف عن ...
- ألمانيا تحلّ جمعية لأصحاب نظريات المؤامرة والفكر المتطرف
- نتنياهو: الجيش الإسرائيلي سيدخل غزة قريبا بكل قوته لسحق -حما ...
- -وافل- و-خلايا نحل-!.. اكتشاف هياكل غامضة على الكوكب الأحمر ...
- طرق فعّالة لتخفيف نوبة الهلع


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - حمدي سيد محمد محمود - حين يغيب الآخر: أزمة التسامح في الوعي العربي المعاصر