أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حمدي سيد محمد محمود - توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في شؤون -غير المؤمنين- وآثارها الحضارية والإنسانية














المزيد.....

توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في شؤون -غير المؤمنين- وآثارها الحضارية والإنسانية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 14:35
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


د.حمدي سيد محمد محمود
شكلت العصور الوسطى الكاثوليكية لحظة مفصلية في التاريخ الأوروبي المسيحي، حيث تبلورت فيها مفاهيم "الحق في التدخل" و"التفوق الروحي والسياسي" على غير المسيحيين، عبر منظومة فكرية ولاهوتية عميقة امتدت من كتابات الفلاسفة واللاهوتيين إلى السياسات البابوية الفعلية. وكان من بين أهم الشخصيات التي وضعت الأسس الفكرية لهذه الهيمنة توما الأكويني (Thomas Aquinas)، الفيلسوف واللاهوتي الدومينيكاني الذي يعتبر من أبرز ممثلي الفلسفة المدرسية (Scholasticism). فقد أعاد الأكويني إنتاج الفلسفة الأرسطية داخل الإطار اللاهوتي المسيحي، مما أضفى على العقيدة الكنسية بعدًا عقلانيًا ومؤسسًا، وأتاح للكنيسة أدوات فلسفية لتبرير سيطرتها على غير المؤمنين.

أولا: فلسفة توما الأكويني كأساس للتدخل الديني والسياسي

في مؤلفه الأعظم الخلاصة اللاهوتية (Summa Theologica)، قدم توما الأكويني رؤية متكاملة للكون تقوم على نظام تراتبي صارم للخير، حيث يُعد الله مصدر الخير المطلق، وتُقاس كل الكائنات والمجتمعات بمدى اقترابها أو ابتعادها عن هذا الخير. وفي هذا السياق، أقر الأكويني بوجود ما سماه بـ"القانون الطبيعي"، وهو القانون الذي يمكن للبشر، عبر العقل، اكتشافه، بغض النظر عن انتمائهم الديني. لكن هذا الاعتراف الظاهري بالعقلانية العامة لا يعني المساواة بين الأديان أو الثقافات، بل كان الأكويني يرى أن القانون الطبيعي يجب أن يُترجم عمليًا إلى خضوع للكنيسة وللتعاليم المسيحية، لأن اكتمال العقل لا يتحقق إلا عبر الإيمان.

إن رؤية الأكويني تؤسس إذًا لفكرة مفادها أن "الخلاص" لا يكون إلا في كنف الكنيسة، وبالتالي يصبح من المشروع، بل من الواجب، أن تُمارس الكنيسة سلطة روحية وزمنية على المجتمعات "الوثنية" التي ترفض الإيمان المسيحي. وهنا تظهر العلاقة الخطيرة بين اللاهوت والسياسة، حيث تتحول العقيدة الدينية إلى أداة للهيمنة والسيطرة، ويُعاد إنتاج مفهوم "الآخر" كمخلّف ومتخلف وجب إخضاعه أو استئصاله.

ثانيًا: الدعوات البابوية كترجمة عملية للفكر اللاهوتي

منذ بداية القرن الحادي عشر، بدأت الدعوات البابوية تتخذ طابعًا أكثر هجومية، لا سيما مع إطلاق البابا أوربان الثاني الحملة الصليبية الأولى عام 1095، والتي مثلت أول تجسيد صريح لفكرة "الحق المسيحي في التدخل العسكري ضد غير المؤمنين". وقد وُظفت خطب الباباوات، والرسائل البابوية (bullae papales)، كوسائل تعبئة وحشد، وغالبًا ما كانت تستند إلى تصورات روحية ترى في غير المسيحيين خطرًا وجوديًا يجب إزالته. وكان يُشار إلى المسلمين بـ"الوثنيين" أو "أعداء الصليب"، كما نُظر إلى اليهود باعتبارهم قتلة المسيح، وإلى الوثنيين في إفريقيا وآسيا وأمريكا باعتبارهم شعوبًا جاهلة تعيش في ظلمات الخطيئة.

لم تقتصر الدعوات البابوية على الجوانب الدينية، بل كانت مصحوبة بخطط سياسية وعسكرية محكمة. فقد تم توزيع الأراضي المغزوة بين الإقطاعيين الصليبيين، وتم إنشاء ممالك صليبية (مثل مملكة القدس)، وتم فرض الضرائب الكنسية على السكان المحليين، إلى جانب حملات تنصير قسرية.

ثالثًا: نتائج هذه الهيمنة على الشعوب غير المسيحية

أدى هذا التداخل بين اللاهوت والسياسة إلى نتائج كارثية على الشعوب التي استُهدفت بالتبشير الإجباري والحروب الصليبية. في المشرق العربي، تعرضت مدن كبرى مثل القدس وأنطاكية وطرابلس لعمليات تدمير ونهب وقتل جماعي، حيث وثقت بعض المصادر الغربية المعاصرة مذبحة القدس عام 1099، والتي قتل فيها الصليبيون عشرات الآلاف من المسلمين واليهود داخل المدينة. أما في شبه الجزيرة الإيبيرية، فقد ساهمت حركة الاسترداد (Reconquista)، المدعومة كنسيًا، في طرد المسلمين واليهود أو إجبارهم على التنصر، وانتهت بمحاكم التفتيش التي مارست أقسى أشكال العنف الديني.

لكن الكارثة الكبرى تمثلت في العالم الجديد، بعد اكتشاف كولومبوس للأمريكتين في أواخر القرن الخامس عشر، حيث أصدرت الكنيسة عبر الفاتيكان وثائق تمنح الملوك الكاثوليك (خصوصًا في إسبانيا والبرتغال) "الحق في احتلال أراضي الوثنيين"، شريطة تحويلهم إلى المسيحية. وقد أدت هذه السياسة إلى إبادة حضارات كاملة مثل حضارتي الأزتك والإنكا، وفرض اللغة والثقافة المسيحية الأوروبية على شعوب بأكملها، مع سلب أراضيهم واستعبادهم تحت غطاء التبشير.

رابعًا: الإرث اللاهوتي في خدمة الاستعمار الحديث

لقد استمر هذا الإرث في التأثير على العقل السياسي الأوروبي حتى العصر الحديث، حين تحوّل الخطاب الديني القديم إلى خطاب "التمدين" و"رسالة الرجل الأبيض" في الحقبة الاستعمارية الحديثة. فقد أعاد الأوروبيون استخدام مفاهيم توما الأكويني، وإن بطريقة علمانية، لتبرير احتلالهم لأفريقيا وآسيا. فالآخر "البدائي" أو "المتخلف" – سواء كان مسلمًا أو بوذيًا أو هندوسيًا – أصبح موضوعًا للتنصير أو الإصلاح أو إعادة البناء.

لقد مثّل فكر توما الأكويني والدعوات البابوية في العصور الوسطى أحد أخطر نماذج التحالف بين اللاهوت والسياسة، حيث تحوّل الدين إلى أداة لتبرير الغزو والقهر والهيمنة الثقافية. ولم تقتصر نتائج هذا التحالف على القرون الوسطى، بل امتدت آثاره إلى العالم الحديث، وأثرت في تشكيل نظريات السيادة، والمركزية الأوروبية، ونمط التوسع الكولونيالي. وفي ضوء هذا التاريخ، تبدو مراجعة هذا التراث ضرورة أخلاقية وفكرية لفهم جذور العنف باسم المقدس، وإعادة التفكير في العلاقة بين الدين والسلطة في التاريخ الإنساني.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا
- نيتشه و مابعد الحداثة: من موت الإله إلى تشظي المعنى
- العلمانية والإسلاموفوبيا: جدلية التنوير والإقصاء
- الذكاء الاصطناعي في مواجهة تغير المناخ: أمل تقني في معركة مص ...
- عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام
- مستقبل القواعد العسكرية الأجنبية في الوطن العربي في ظل التحو ...
- الحرية بين العقل والإيمان: قراءة مقارنة في الفلسفة الإسلامية ...
- المقاومة التنظيمية وإعادة تشكيل الثقافة المؤسسية: تحديات وسب ...


المزيد.....




- ما الذي تغير في الخليج بين زيارة ترامب الأولى والثانية؟ خبير ...
- نتنياهو: لا وقف لإطلاق النار مقابل الإفراج عن الرهينة عيدان ...
- برج ترامب في دمشق وسلامٌ مع إسرائيل.. هكذا يحاول أحمد الشرع ...
- احتفال ألمانيا وإسرائيل بذكرى علاقاتهما الدبلوماسية الستين
- -أكسيوس-: عيدان ألكسندر هو الأمريكي الوحيد على قيد الحياة بي ...
- جندي أوكراني منشق يكشف خفايا التجنيد القسري: استدعاء مرضى وم ...
- الهند تعيد فتح 32 مطارا أغلقتها خلال التصعيد مع باكستان
- تحذير هام.. -دواء قاتل- يباع كمكمل غذائي في أمريكا
- ترامب يؤيد بيان حلفاء كييف المتضمن عقوبات جديدة ضد روسيا إن ...
- الجيش الروسي يتسلم دفعة جديدة من مقاتلات -سو-35 إس- (فيديو) ...


المزيد.....

- برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية / رحيم فرحان صدام
- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حمدي سيد محمد محمود - توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في شؤون -غير المؤمنين- وآثارها الحضارية والإنسانية