محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8328 - 2025 / 4 / 30 - 16:06
المحور:
القضية الفلسطينية
في الركن الجنوبي من خارطة الوجع، هناك مدينة لا تنام؛ ليس لأنها تضجّ بالحياة، بل لأنها مأهولة بالموت المستمر.
غزّة، ذلك الاسم الذي كلّما تلفّظ به التاريخ، سالت من حروفه دماء.
مدينة تعرفها السماء جيداً، وتحفظها الملائكة في سجلات الشهداء.
يُولد الأطفال على وقع الانفجارات، ويتعلّمون أبجدية الصبر قبل الحروف.
يُربّتون على رؤوس إخوتهم المتناثرة، ويكملون لعبهم عند أطراف المقبرة، كأنّ شيئاً لم يكن... وكأنّ كلّ شيء كان.
غزّة لا تُشبه المدن... بل تُشبه الجبال في صلابتها وهدوئها قبل العاصفة، لكنها أيضاً تتفوّق على الجبال؛ إذ لا جبل يُقصف كلّ يوم ويصمد، إلا غزّة.
إنّها الفكرة التي لا تموت، والصوت الذي لا يخنقه الرماد.
أهل غزّة لا يبحثون عن الخلاص في المطارات، بل في آيةٍ تُتلى على الشفاه:
"وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ".
هناك، حيث تُقتل الأشجار وتُنسف المآذن، يبقى الإيمان جذعاً لا يُقتلع.
شهداؤها ليسوا أرقاماً، بل نجوماً على جبين السماء.
يُبعثون صفوفاً إلى الجنّة، رؤوسهم بأيديهم، وقلوبهم معلّقة بالوعد:
"رَبَّنَا آتِنَا مَا وَعَدتَّنَا"... فيأتيهم الردّ الإلهي: "صَدَقَ عِبَادِي".
ما يحدث في غزّة ليس مقتلةً فحسب، بل امتحانٌ للعالم.
هناك يُغربل الحقّ من الباطل، ويُعرّى وجه النفاق.
هناك تسقط الأقنعة، وتبقى الحقيقة وحدها واقفة، كأنّها قبّة صلبة وسط الحطام.
في كل نخلةٍ شهيدة، في كل زيتونةٍ محترقة، في كل طفلٍ بلا ظلّ، هناك رسالة خفيّة:
أن غزّة ليست على هامش الزمان، بل في قلب الوعد؛ في قلب سورة "التين"، في قلب سورة "الزلزلة".
وفي نهاية الحكاية، لا يُسدل الستار في غزّة... بل يُسدل على وجوه الأطفال وهم ينامون تحت الركام؛ لا فرق بين وسادةٍ وحجر.
لا تنتهي القصة هنا، لكنها تُكتب كلّ يومٍ بمداد الدم، وتُوقَّع بأسماءٍ صغيرةٍ لا تسعها القبور.
غزّة لا تموت، لكن من فيها يُقتل مرّتين: مرةً بالصاروخ، وأخرى بصمت العالم.
تبكي غزّة، ولا تجد من يمسح دمعتها سوى الله...
تئنّ الأرض، وتشهق السماء، وتظلّ الجبال شاهدةً أن من هناك، لا يُشبهون أهل هذا الكوكب.
هم أبناء الضوء؛ يولدون من الظلّ، ويعودون إليه أنبياء بلا نبوّة، وشهداء بلا جنازات.
هكذا تبقى غزّة: لا تنكسر، لكنها تنزف.
لا تنهزم، لكنها تتوجّع.
مدينة لا تموت، لكنها تدفع ثمن الحياة... كلّ يوم.
[محمود كلّم] كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنينِ السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟