هاني عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8327 - 2025 / 4 / 29 - 13:16
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إن أقدم مؤسستين للمعرفة الإنسانية هما: التعليم (المدارس والجامعات) وحفظ المعرفة والتراث الإنساني (المكتبات). إن غاية التاريخ هي إدراك الماضي كما كان لا كما نتوهم أن يكون، وليس التاريخ مليئاً بالأساطير، بل أن الأساطير مليئة بالتاريخ.
جميع الحضارات عرفت التعليم وعرفت كيف تحفظ معارفها، فقد تدرج لديها التعليم في مستوياته المختلفة، حيث ازدهرت فيها مؤسسات للتعليم العالي كانت المدماك الأول في تأسيس الجامعات.
إن الدارس لتاريخ ظهور الجامعات كمؤسسات تعليم عالٍ يواجه مأزقاً إشكالياً ومعرفياً يتمثل في السؤال الجوهري: هل الجامعات الحديثة هي امتداد لمؤسسات التعليم في الحضارات القديمة أم هي نتاج أوروبي خالص ظهر في العصور الوسطى؟ لا يوجد جواب أحادي مقنع بل هناك فرضيات كل منها مبني على حقائق ووثائق يعتبرها مركزية في دعم فرضيته. ويتفرع عن هذا السؤالِ الرئيسي أسئلة فرعية أخرى لا تقل أهمية، ومنها ما دور الحضارة العربية (وهنا استخدم هذا المصطلح بدل الحضارة الإسلامية لأنها كتبت بالعربية واتفق مع د. رشدي راشد مدير مركز تاريخ العلوم والفلسفات العربية في العصر الوسيط في باريس في هذه التسمية) التي قدمت الكثير في مجال العلوم والفلسفة وهل يمكن اعتبار مؤسسات التعليم العالي فيها كنواة لجامعات اليوم.
هناك آراءٌ مختلفةٌ في هذا المجال. ويجيبُ علماءُ الإسلامِ البريطانيين بأن العربَ ابتكروا الجامعةَ وأن مؤسسات التعليمِ الإسلامية كانت مصدرَ فكرةِ تنظيمِ الطلابِ الأجانبِ في أممٍ وأنها مصدرُ الإجازةِ لمؤهلِ التدريسِ والزي الأكاديمي. وهنا يتم الخلطُ بين الفعلِ الماضي والفعلِ اللاحق، فهو لا يبينُ ما إذا كانت الأشكالُ اللاحقة قد انبثقت من الأشكالٍ السابقة وكيف انبثقت.
أما الأكاديمي العربي في أمريكة جورج مقدسي فقد درسَ بالتفصيل نظام التعليم والكليات الإسلامية في كتابه The rise of colleges, institutions of learning in Islam and the west ووجد تقاربات كبيرة بين نظام التعليم الإسلامي والأنماطِ الغربية لتنظيم التعليمِ وانتقالها من خلالِ الترتيبات المؤسسية مثل الجامعات. وقد خلص مع ذلك إلى أن الجامعةَ هي نتاجُ القرنِ الثاني عشر للغرب المسيحي ليس فقط في التنظيم ولكن أيضاً في الامتيازاتِ والحماية التي تلقتها من البابا والملك، ولكن الوضعَ مختلفٌ في الكليات المستمدة من النماذج الإسلامية، فلم تكن الجامعات القديمة منظمةً بكليات ولها برامجَ مُحددة وتمنح درجاتٍ علمية.
ونعود قليلاً إلى الوراء لنقول أن أوروبة بدأت تغرقُ في عصورِ الظلام عندما سقطت الأمبراطورية الرومانية تحت ضرباتِ البرابرة، ففي عام 476م قام القائدُ الجرماني من البرابرةِ ويُدعى أودواكر Odoacer بعزل الأمبراطور الروماني الصغير رومولوس أوغستولوس ولم يتم تعينُ أي أمبراطورٍ جديدٍ في الغرب وبذلك انتهت رسمياً الإمبراطورية الرومانية الغربية، ويعدُ هذا الحدث من أهم التحولات التاريخية في أوروبة حيث بدأت العصورُ الوسطى فيها.
أدى ذلك إلى تدهورِ اللغة اللاتينية وتدهورِ التعليمِ وانتشارِ الأمية بين السكان واقتصر التعليمُ المتواضعُ على رجال الدين الذين عجزوا عن شرحِ أسس الديانة المسيحية فانتشرت أعمالُ الشعوذة والسحر وحلت محلَ العلم الحقيقي.
برزَ على المسرح الأوروبي في أواخرِ القرن الثامن وأوائل القرن التاسع شارلمان الذي أراد توحيدَ أوروبة سياسياً وعسكرياً وثقافياً ودينياً وقام بنهضة تعليمية عُرِفت بالنهضة الكارولنجية والتي كانت البداية للحركات الثقافية في أوروبة. أدرك مبكراً – وهو الأمي قراءة وكتابة - أن المعرفةَ والتعليمَ هما عمادُ الأمبراطورية ونشرُ الدين المسيحي. ويعتقد البعضُ أن علاقةَ شارلمان مع الدولة العباسية زمن هارون الرشيد قد أعطته صورةً عن الحضارة الإسلامية بحيث أدرك أن العلمَ والمعرفةَ هما الطريقُ للتقدم والتخلصِ من الجهل. من هنا، اهتم بإنشاء المدارسِ (المدرسة القصرية في قصره بآخن). بدء بجمع العلماءِ والمفكرين وتطوير مناهجِ التعليمِ وإعادةِ نسخِ الكتبِ الكلاسيكية، كما اهتم بتحسين مستوى رجالِ الدين حتى لا يسيئوا تفسيرَ النصوص المقدسة حيث رفعَ من مكانةِ الكنيسة كجهةٍ تعليميةٍ وثقافية. ومن اعماله أيضاً إصلاح الكتابةِ والخطِ وإحياءِ العلومِ والفنونِ ونشرِ اللغة اللاتينية.
بدء بإنشاء المدارسِ المرتبطةِ بالأديرة والكنائسِ وكانت هذه نواةً لما سيصبحُ لاحقاً نظاماً تعليمياً. كانت هذه المدارسُ تُدرس الفنونَ السبعة: الثلاثية Trivium وهي النحو والبلاغة والمنطق، والرباعية Quadrivium وهي الحساب والهندسة والموسيقى والفلك. وهذه أصبحت الأساسَ للمناهج الدراسية في الجامعات.
مع الزمن بدءَ التعليمُ ينتقل من الأديرة إلى المدارس الكاتدرائية في المدن الكبيرة والتي أصبحت مع الزمن أكثرَ تنظيماً وارتباطاً بالحياة المدنية.
وبوفاة شارلمان انطفئ وهجُ هذه النهضة ولكنها أصبحت كاجمر تحت الرماد بحاجة لاحقاً إلى من ينفخُ تحتها ليعيد وهجها.
يمكن رصدُ النواةِ الأولى لهذه الحركةِ النشيطة بالتطورات التي بدأت في الظهورِ بحلول القرن العاشر فقد شهدت القارة الأوروبية تغييراً في مناخها حيث بدأت فترةٌ دافئةٌ ميزت العصرَ الوسيط، وقد حدثت تغيرات جوهرية في المجال الزراعي. فقد استبدل الفلاحون الثورَ بالحصان في العمل الزراعي وأُدخِلَ تحسينٌ على الطوق المستخدم للحصان. أما المحراث فقد طرأ تحسينٌ عليه بحيث بدأ يحفرُ عميقاً في التربة وأصبحت الأراضي الزراعية لا تسنزفُ بزراعتها بشكلٍ مستمرٍ بل تتركُ موسماً دون زراعة. ورافق هذا التطورُ زيادةً في الإنتاج الزراعي الذي لا بد من المتاجرة بالفائض فيه، ولذلك طرأ تطورٌ على وسائلِ النقل والطرق، فقد استُبدِلت الجسورُ الخشبيةُ بجسور حجرية، وتم استبدالُ العربةِ بعجلتين بعربة ذات أربع عجلات. أدت هذه التحسينات إلى انتعاش التجارة وتبادل السلع.
بدأت المدنُ الأوروبية تستعيدُ ألقها من جديد فشرعت في تحسين نظامها القانوني وتطويرِ تشريعاتها وزاد عدد سكانها وظهرت طبقةُ التجارِ والحرفيين وهذه التغيرات الإجتماعية والإقتصادية شكلت الحاضنةَ المناسبةَ والشروطَ الضرورية لإنشاء الجامعات الأوروبية بالمفهوم الحديث. وفي هذا المجال يقول د. جوزيف نسيم "ليس هناك فيما سبق في التاريخ القديم أيامُ اليونان والرومان القدماء ما يدل على وجود مثل هذه الفكرة الجامعية التي عرفت لأول مرة في القرون الوسطى".
وما أن هل القرن الحادي عشر حتى طرأ تغييرٌ على مفهوم الحريةِ المتعلقة بالأفراد، حيث بدأ يظهرُ نظامُ القنانة حيث اُعتبِر العاملون في الحقول ونسج الصوف أقناناً وليسوا عبيداً. ويختلف المؤرخون متى أصبحت العبودية نظام قنانة وما هو الشكل القانوني لهذا النظام الجديد، الذي اعتُبِر نظاماً أكثر مرونة من ناحية الرقابة الإقتصادية والإجتماعية. إن هذا التغييرَ في النظام الإجتماعي ترك أثره الإقتصادي على السكان في أوروبة.
اختارَ الأقنانُ الذين تحرروا من نظامِ العبودية العيشَ بجوار القصور والحصون والأديرة حيث كانوا يعملون صيفاً في فلاحة الأرض وفي الشتاء يمارسون بعضَ الأشغالِ الخفيفة مثل صناعةِ الأواني الفخارية والجلودِ وأعمالِ الحديد ويبيعون إنتاجهم في أقرب سوقٍ محلي، وهكذا بدأت تتشكلُ مجتمعات جديدةٌ حيث أصبغَ الأقطاعيون عليها الحمايةَ لأنها كانت تدرُ دخلاً إليهم، ومما ساعد على نمو هذه المجتمعات التجارُ الجوالون الذين كانوا يؤمونها لبيع بضائعهم. وفي هذا الصدد لعبَ اليهودُ دوراً رئيسياً في السيطرة على التجارةِ الأوروبية بحيث أن لفظَ يهودي أصبح مرادفاً للفظ تاجرٍ وبدأوا تدريجياً الاستقرار في مناطقَ معينة وحولوا بيوتهم إلى مخازن تجارية.
أدت هذه التغيرات الإجتماعية والإقتصادية إلى ظهورِ كياناتٍ جديدةٍ في المجتمعِ حيث كانت المدنُ تضم أحياءً لكل حرفة. وتطور هذا الأمرُ بأن شكَّل الحرفيون تجمعاتٍ لكلِّ حرفةٍ، هدفُها حمايةُ أصحابِ الحرف من تغول سكان المدن عليهم ولضبط مواصفات الإنتاجِ وتحديدِ الأسعارِ وكيفيةِ الحصولِ على العضوية وأُطلِقَ على هذه المجموعات اسمُ نقابةٍ Guild، وكان هذا أولُ ظهورٍ للنقابات كتنظيم اجتماعي.
لعبت المدارسُ الديرية والكاتدرائية دوراً مهماً في الحفاظِ على الدراسات الكلاسيكية الرومانية من العبثِ والضياع، ويكفي أن نعرفَ أنه وجدَ في كل ديرٍ نواةٌ لمكتبةٍ ومكانٍ لنسخِ المخطوطات وكان يطلقُ على هذه القاعاتِ الاسمُ اللاتيني -script-oria أي مكاتبُ النسخ. ونُشير هنا إلى الدور الكبير الذي لعبته الحركةُ البندكتية مما ساهمَ في التقدم العلمي والفكري في العصر الوسيط. من أبرز منجزات هذه الحركة البندكتية دورها في التقدمِ الصحي والتعليمِ الطبي، فقد أنشأت المستشفياتَ لعلاج مرضى الجذام وعلاج جرحى الجنود العائدين من الحملات الصليبية، أما ديرُ جبل مونتي كاسيو فقد فتحَ خزائنَ مخطوطاته للعلماء حيث برز ليون الإفريقي في ترجمة التراث العربي إلى اللغة اللاتينية.
شكلت المدارس الكاتدرائية مثل ريمس وجفنياف وشارتر ونوتردام الأساسَ لظهورِ الجامعات الأولى في أوروبة. وأُطلقَ على هذه المدارسِ اسمُ المدارس العامة، وفي القرن الخامس عشر تم دمج مصطلحِ الجامعة والمدارسِ العامة في مصطلحٍ واحدٍ هو الجامعة والذي أصبحَ يُشيرُ إلى مؤسسات التعليم العالي في المفهوم الحديث.
امتدَّ التطورُ في التعليم سنواتٍ عديدةً ، فمثلاً، اتبعت المدرسةُ المعلمَ في بداية عام 1100م ولكن مع بداية عام 1200م اتبع المعلمُ المدرسةَ، وإذا كان التعليمُ في نهاية عام 1100م محصوراً في تدريس الفنون السبعة، ففي نهاية عام 1200م تم إضافةُ منطقٍ جديدٍ ورياضيات جديدة وعلمِ فلكٍ جديدٍ إلى الفنون السبعة، وهذا أدى إلى انتشارِ كلياتِ الطبِ والحقوقِ واللاهوت.
هذه التغييرات التي بدأت في أوروبة شكلت شروطاً ضروريةً لولادة نظامٍ تعليمي جديدٍ وخاصةً ظهورَ تيارٍ بين بعض رجال الدين والمتنورين يقول بعدم فهم الكتاب المُقدس دون الإطلاعِ على العلوم الدنيوية والمؤلفات الكلاسيكية اللاتينية والإغريقية. ونتيجة لذلك أبتدأ بعضُ الأساتذة بالاستقلال عن المدارس القديمة وتجميعِ الطلاب حولهم في أماكنَ معينة في المدينة، وشكلت هذه التجمعاتُ البداياتَ الأولى لظهور الجامعات. وهكذا نجد أن الجامعاتَ قد بدأت تتبلور فكرتها وتتطور بسبب عوامل وظروف إجتماعية وإقتصادية وسياسية وثقافية رافقت عملية الانتقال في المجتمعات الأوروبية من العصر الإقطاعي إلى العصر الحديث.
غير أن هناك بعض الآراءِ المثالية التي تقول: لا يُعدّ الطلبُ على الأشخاص ذوي التدريب المهني أو التلمذة الصناعية أو التعليم العام، ولا المطالبِ والدوافعِ الحكومية أو الكنسية أو الاجتماعية والاقتصادية، العواملَ الأساسيةِ أو التأسيسية أو الجوهرية والمحددةِ التي تُشكّلُ أساسَ نشأةِ وطبيعةِ الجامعاتِ كمجتمعاتٍ حديثةِ العهدِ تمامًا وكمراكزَ للتعليم والدراسة. بل على العكس! باختصارٍ، كان الحافزُ لظهورِ الجامعات ونموها هو الاهتمامُ الأكاديميُ والعلمي، والرغبةُ في التعلمِ والمعرفةِ، وحبِ العلم.
وعلى النقيض من هذه الآراء المثالية يتبنى الماركسيون رأياً مفاده أن الاطروحة التي كررها التاريخ البرجوازي والأمبريالي مراراً وتكراراً القائلة بوجود فكرة خالصة للتعليم والجامعات لا علاقة لها بالطبقات والصراع الطبقي.. قد أثبت التاريخ أنها خطأ وتزوير، فالمدارسُ ومؤسساتُ التعليمِ العالي تنشأ لتدريس الأشخاصِ اللازمين للحفاظ على سيطرة الطبقات الحاكمة.
لقد لعب التراث الإغريقي والروماني دوراً كبيراً في نهضة أوروبة في العصور الوسطى بحيث اعتبرَ علماءُ العصورِ الوسطى أنفسَهم أقزاماً يقفون على أكتافِ أسلافهم القدماءِ العمالقة الإغريقِ والرومان، ولهذا السببِ كانوا قادرين على الرؤية بشكل أبعد.
ساهمت كل هذه العوامل في ظهور أولى الجامعات الأوروبية، فظهرت جامعة سالرنو للعلوم الطبية وجامعة نابولي للعلوم القانونية وجامعة باريس للفنون واللاهوت.
لقد تم تأسيس 81 جامعة في أوروبة حتى عصرَ الأصلاحِ الديني، تلقت 33 جامعة منها براءاتَ ميثاقِ تأسيسها من باباوات روما، و15 جامعةٍ براءات تأسيسها من قبل الأباطرة و 20 جامعة ببراءات من البابا والأمبراطور.
من هنا نستنتجُ أن مؤسسةً جديدةً ظهرت في العصور الوسطى وهي مؤسسة الجامعات والتي نازعت السيطرةَ بجانب المؤسستين التقليدتين في أوروبة وهما: مؤسسة الحكم Regnum وتمثلها الأنظمة الملكية، ومؤسسة الكهنوت Sacerdetium وتمثلها المؤسسة البابوية.
#هاني_عبيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟