عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8325 - 2025 / 4 / 27 - 14:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كان للفلسفة المثالية بمختلف تياراتها ومدارسها حضورها في أوروبا، خلال الربع الأول من القرن العشرين. لكن هذا الدور لم يلبث أن أخذ بالتراجع في منتصف القرن ذاته، إلى مستوى أقل التيارات الفلسفية تأثيرًا.
في إيطاليا، كان المفكر بندتو كوتشه(1866- 1952) في مقدمة ممثلي الفلسفة المثالية. وقد ظهرت ثلاثيته الفكرية الشهيرة بإسم "فلسفة العقل"، خلال الأعوام 1917- 1952، وتحتوي على مذهب في فلسفة الجمال والأخلاق، متضمنة كذلك فلسفة في العمل وفي التاريخ. وكان لها تأثيرها على الفلسفة في إيطاليا، وعلى الفلسفة الأوروبية بمجملها.
قدَّمَ كروتشه نظامًا فلسفيًّا ينهض أساسه على القول بمذهب متسق في التصورات، ونظرية في التركيب الجدلي القَبْلِي. يقول مذهبه في التصورات أن هناك نوعين من المعرفة، هما المعرفة الحدسية أو الإستطيقية (من الإستيطيقا، أي فلسفة الفن والجمال)، والمعرفة التصورية أو المنطقية. النوع الأول، يُقصد به المعرفة الحسية، وموضوعها الجزئي أو الفردي. والنوع الثاني، نوع من المعرفة العقلية، وموضوعها الكُلِّيَّات. هنا، يلتقي كروتشه مع الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط(1724- 1804) في القول بعدم وجود حدس عقلي، لأن وظيفة العقل وفق هذه الرؤية الربط بين الحدوس الحسية فحسب، وبالتالي، لا يوجد مضمون عقلي للعالم.
وقد كان كروتشه أقل الفلاسفة المثاليين الغربيين اهتمامًا بالدين، حيث اكتفى بالنظر إليه بمنظور الأساطير. والعلم الجدير بهذا الإسم عنده، هو فلسفة العقل. ومع ذلك، يرى كروتشه أن العلوم الطبيعية والدين والميتافيزيقا تكتسب أهميتها من حيث أنها ظواهر فعلية قائمة. وهي بذلك من لحظات العقل، وينبغي دراستها، ليصعد العقل عن طريقها إلى مستوى أعلى هو الفلسفة.
يرفض كروتشه الأخلاق القائمة على العاطفة، إذ يقول بإنتماء النشاط الأخلاقي إلى ميدان الإرادة. ويرفض أيضًا التمييز بين النِّيَّةِ والعمل، وبين الوسيلة والغاية. وينأى بنفسه وفلسفته عن كل أخلاق مادية، وبشكل خاص ما يسميه أخلاق الغيرية أو الأخلاق النفعية الدينية. ويتفق مع هيجل بالقول إن الإرادة مُجبَرة (مُسِيَّرَة) وحرة في آن معًا، لأن ليس بمستطاعها التأثير إلا في ظروف محددة. في هذه الجزئية، يحيلنا كروتشه إلى فلسفة الجبر والاختيار في موروثنا الثقافي.
للعقل نوعان من النشاط عند كروتشه، عملي ونظري كل منهما يسبق الآخر دورًا، ثم يتبعه في دور آخر. بيان ذلك بحسبه، أن السلوك العملي لا بد للقيام به من معرفة سابقة عليه. وفي موازاة ذلك، المعرفة غير ممكنة بغير العمل والتجربة. ويقول كروتشه بالتوحيد التام بين الفلسفة والتاريخ، من منطلق أن كل فيلسوف هو مؤرخ في الوقت عينه. وكل مؤرخ هو في الآن ذاته فيلسوف، وهناك تاريخ في فلسفة أي فيلسوف، هو حياة هذا الفيلسوف.
ومن إيطاليا إلى فرنسا، حيث كان ليون برنشفيك (1879- 1944) أهم المثاليين الفرنسيين، وصاحب تأثير كبير على الفكر في بلاده، بعد برجسون. في كتابه "جهة الحكم"، يعرض برنشفيك القضية الأساسية للمذهب المثالي بخصوص نظرية المعرفة إذ يقول إن المعرفة تُكَوِّن عالمًا هو العالم بالنسبة لنا، ولا يوجد خارج هذا العالم شئ. وكل شئ خارج إطار المعرفة، غير ممكن الوصول إليه وغير ممكن التحديد، ويساوي العدم بالنسبة لنا. وعليه، لا يمكن للفلسفة برأيه أن تكون شيئًا غير نقد الفكر. والموضوع الرئيس للفكر ليس التصور، بله نشاط العقل ذاته. من هنا، يُعَرِّف الفلسفة بأنها نشاط عقلي يعي ذاته. وكما هو شأن المثاليين، تأخذ النزعة التصورية عنده شكل القول بأن الحكم يسبق أنشطة العقل كلها.
يميز برنشفيك في مؤلفاته بين مرحلتين في تطور العقل، مرحلة الطفولة ومرحلة العقل الناضج. الأولى، تهتم بالخارجيات، بمعنى العلم بالسمعيات أو مرحلة العقيدة السمعية. والثانية، عصر توصل الإنسان إلى علم الرياضيات، أو عصر العلم العقلاني، بحسب برنشفيك. وعنده أيضًا، لا وجود لشئ خارج حرية العقل، أي خارج الوعي الخالص.
أما في ألمانيا، فقد ظهر الإتجاه الفلسفي المثالي خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، في هيئة الكانطية (نسبة إلى إيمانويل كانط) الجديدة. ويمثلها بشكل خاص مدرستا ماربورج وبادن. الفلاسفة المنتمون لهاتين المدرستين يجمعهم الإنتساب إلى فلسفة إيمانويل كانط، وهو بنظرهم أعظم الفلاسفة طرًّا. ومثل معلمهم كانط، ينكرون الحدس العقلي. العقل عندهم لا يتوفر على قدرة غير التركيب، وما هو غير مَلَكَة تكوين الكل من عناصر ابتداء. وعليه، فلا معرفة لمضمون الأشياء ولا للجوهر. وهم مثاليون أيضًا في نظرية المعرفة، إذ لا يقوم فعل المعرفة عندهم على إدراك الموضوع، بل على فعل خلق الموضوع. بهذا الخصوص، يقولون إن الموجود لا يوجد في ذاته، بل الفكر وحده ينشئه. وتصنَّف مثاليتهم بأنها أكثر تطرفًا من مثالية معلمهم كانط، حيث رفضوا "وجود الشيء في ذاته". ولا يُعدون الإحساس مصدرًا أصليًّا للمعرفة، وبذلك فإنهم عقليون أكثر تطرفًا في رؤاهم من كانط. هذا على صعيد الخطوط العامة الجامعة للمدرستسن، ومع ذلك فلكل منهما نهجها الفلسفي. فقد تركَّز اهتمام ممثلي مدرسة ماربورج على العلوم الطبيعية الدقيقة وعلى العقل النظري، ولهم اهتماماتهم بمسائل الأخلاق والدين. ويرون أن نقد العقل المحض هو أهم عناصر فلسفة كانط، وكل شئ يؤول إلى القوانين المنطقية المباطنة في هذا العقل. ويرفضون، كما سائر الكانطيين الجدد، أن الإحساس عامل مستقل من عوامل المعرفة. وهو عندهم، أي الإحساس، لا يتعارض مع الفكر، إذ يعدون الأول عنصرًا أجنبيًا خارجًا عنه، وهو مجرد كم مجهول. الإحساس عندهم ليس "مُعطًى"، بله مقترح على المعرفة تحدده بنفسها. برأي مدرسة ماربورج، لا يوجد حدسٌ يقوم به العقل. وعلة ذلك أن العقل ليس إلا تقدم متطور من الأحكام، حكمٌ وراء الآخر، وموضوع العقل مُنتج هذا النشاط.
بخصوص الأخلاق، ترى مدرسة ماربورج أن معاييرها قَبْلِيَّة بالضرورة، بمعنى أنها لا تولد من التجربة، مثل الأحكام المومأ اليها قبل قليل. الأخلاق عندهم منطق الواجبات. وكما عند كانط، هذه الواجبات شكلية محض، أي بلا محتوى محدد. لكنهم يختلفون عن كانط بالطابع الاجتماعي لمذهبهم، وعلى وجه التحديد تعارضه مع الاتجاه الفردي للأخلاق بمفهومها الكانطي. وربما من هنا حاول بعضهم التوفيق بين الأخلاق الكانطية بمفهومهم والإشتراكية الماركسية. وفيما يخص الدين، فلم تولِهِ مدرسة ماربورج أهمية تُذكر، فقد عَدُّوه مجرد صورة من صور النزعة الأخلاقية.
مدرسة بادن من جانبها، تشترك مع مدرسة ماربورج على ما أنف بيانه في اعتناق الأفكار الأساسية للكانطية الجديدة، مع اختلافها عنها على أكثر من وجه. لم يركز أصحاب مدرسة بادن على العلوم الطبيعية ويقتصروا عليها وحدها، بل عدُّوا الثقافة كلًّا متكاملًا، فركزوا على أهمية تطورها وضرورته وخصوا التاريخ باهتمامهم. ورأوا أن مركز الثقل في فلسفة كانط ليس نقد العقل النظري المحض، بل نقد العقل العملي. ولم يكونوا من أصحاب الإتجاه العقلي المغالي كما مدرسة ماربورج، بل قبلوا بوجود عنصر لا عقلي في العالم. كما أظهروا تفهمًا أعمق للدين، على أرضية رؤيتهم القائلة بأن الوجود الموضوعي لا تقيمه قوانين منطقية، بل قوانين قيمية ترتكز على القيم. برأي ممثليها، لا يوجد طبيعة متعالية خارج الوعي.
أساس الوجود عند مدرسة بادن يتكون من قيم مستقلة عن العقل، وعن الوعي. وبحسبهم، فإن هذه القيم موجودة في العلم والإستيطيقا والمنطق والإخلاق. وهي ليست نسبية، بل مُطلَقَة. إنها قوانين مباطنة للعقل باعتقادهم، ونموذجية تنتمي إلى عالم ثابت خالد. ويقسمون هذه القيم إلى ثلاث فئات: قيم الخير في ميدان الأخلاق، وقيم الحقيقة، وقيم الجمال. ومنهم من يُضيف إليها القيم الدينية. وأهم ما يميز هذه الأخيرة بمنظورهم، أنه لا يمكن التفكير فيها إلا بربطها إلى حقيقة متعالية على العقل. بالمجمل، تُعرف الفلسفة المثالية بافتقارها إلى فهم العالم المادي، حيث تختزله في مَحضٍ ظاهرٍ أو وهم. وبذلك، فإن تصوراتها واحدية النظرة، وليس بمقدورها تقديم حلول لمشكلات الإنسان الفعلية الجادة من حيث هو إنسان.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟