حسان الجودي
(Hassan Al Joudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8322 - 2025 / 4 / 24 - 15:20
المحور:
قضايا ثقافية
يتجلى خلل عميق في المحتوى الثقافي الموجه للطفل العربي، خاصة في مجال الأناشيد والقصائد التي تستهدف تشكيل وعيه ووجدانه. ويمكن رصد هذا الخلل في نمطين رئيسيين يسيطران على المشهد: الأناشيد الوطنية/القومية من جهة، والأناشيد الدينية من جهة أخرى. كلاهما يعاني من انفصام حاد بين الخطاب والواقع، وكلاهما يفرض على الطفل عوالم مثقلة بالشعارات والمفاهيم المجردة التي تتجاوز قدراته الإدراكية واحتياجاته النفسية والعاطفية الحقيقية.
1-إشكالية الأناشيد الوطنية: شعارات بلا واقع
لم تساهم الأناشيد القومية والوطنية للأطفال العرب طوال نصف قرن، بتأمين شارع نظيف واحد، ولم تعلمهم الحفاظ على جدرانه وزراعته بالأزهار ومحبة قططه الشاردة. لم يفلح نشيد واحد، بجعل الطفل العربي، أكثر وطنية (المرجع: الحروب الأهلية العربية!!). لم تنجح مفردات الدار والوطن والانتصار والزهو والفخار في جعل طفل عربي وحيد فقير، سعيداً للحظة واحدة.
تتكرر الشعارات الشعرية ذاتها، ويصر شعراء الأطفال على حشو الرؤوس الصغيرة بمفاهيم لا يفهمها الكبار أنفسهم. فالوطن مفهوم مجرد، يصعب على الطفل استيعابه ما لم يترجم إلى علاقات وتجارب ملموسة في حياته اليومية. يبدأ حب الوطن من حب العائلة والجوار، ويبدأ إحساس العدالة بالظهور عند الطفل حين يلمسه في المنزل والمدرسة. ويصبح الطفل مدافعاً شرساً عن الحق، حين تدعمه العائلة والمجتمع.
إن نسبة كبيرة من أطفال الدول العربية، لا تفهم معنى الوطن، ولا معنى الشهادة ولا معنى الأعداء الخالدين. ويبدو تركيز شعراء الأطفال على ذلك امتدادا آخر للهزيمة الحضارية.
2- إشكالية الأناشيد الدينية: خطاب الخوف والامتثال
وبالتوازي مع هذا الخلل، تنتشر ظاهرة أخرى لا تقل إشكالية: الأناشيد والقصائد الدينية الموجهة للأطفال. تشهد الساحة العربية تزايداً ملحوظاً في إنتاج واستهلاك هذا النوع من الأناشيد، عبر القنوات الفضائية المتخصصة، ومنصات التواصل الاجتماعي، والمدارس، ودور العبادة، والمهرجانات. وتقدم هذه الأناشيد خطاباً يتسم بعدة مفارقات:
- تستخدم لغة وصوراً تتجاوز قدرات الطفل الإدراكية، فتحشو ذهنه بمفاهيم مجردة عن الآخرة والجنة والنار والثواب والعقاب، قبل أن يستوعب معاني الحياة الحاضرة وقيمها الإنسانية.
- تركز على ثنائيات حادة (الحلال/الحرام، المؤمن/الكافر، الصواب/الخطأ) دون مساحات للتفكير النقدي أو التساؤل الطبيعي للأطفال.
- تقدم نماذج سلوكية تعتمد الطاعة العمياء والامتثال، على حساب الإبداع والفضول والاستكشاف.
- تستثمر في مشاعر الخوف والقلق أكثر من توظيفها لمشاعر الحب والتعاطف والفرح.
3-تناقضات الشكل والمضمون والواقع
تلجأ الأناشيد الدينية المعاصرة للأطفال، كما الأناشيد الوطنية، إلى استخدام أحدث تقنيات الإنتاج الموسيقي والبصري، مع الاستعانة بأصوات أطفال مدربة، لتقديم مضامين تنتمي في جوهرها إلى سياقات تاريخية مختلفة. وهنا تكمن المفارقة: توظيف أدوات الحداثة لتكريس خطاب يقاومها.
وبينما تزدحم الشاشات والإذاعات ومكبرات الصوت في المدارس بالأناشيد الوطنية والدينية، نشهد على أرض الواقع:
- هزائم نكراء وبلاد مستباحة وشهداء بالملايين
- انتهاكات متكررة للحقوق الأساسية للمواطنين، بمن فيهم الأطفال.
- غياب تعليم حديث وتغذية مناسبة ولقاحات كافية.
- انعدام الوصول للموارد الثقافية: لا أموال لزيارة سينما أو متحف، ولا رغبة بقراءة كتاب غير مدرسي
- تراجع الثقة بالمؤسسات: لا ثقة بالمعلم، ولا ثقة بالمجتمع، ولا ثقة بالقانون
4- تغييب القضايا الملحة في حياة الطفل العربي
كلا النمطين من الأناشيد - الوطنية والدينية - يتجاهلان القضايا الحياتية الملحة التي يواجهها الطفل العربي في واقعه اليومي:
- لا تتناول مشكلات الجوع والبرد والعنف و البيئة والتلوث التي تؤثر في حياة الطفل.
- لا تقدم نماذج للتعايش السلمي مع الآخر المختلف دينياً أو عرقياً أو ثقافياً.
- لا تطرح قضايا الفقر والظلم الاجتماعي من منظور إنساني شامل.
- لا تعزز قيم المواطنة العملية والمشاركة المجتمعية والمسؤولية البيئية.
وبدلاً من ذلك، تركز الأناشيد الوطنية على مفاهيم البطولة والتضحية والانتماء للكيان المجرد، بينما تركز الأناشيد الدينية على النجاة الفردية، والالتزام الشكلي، والانتماء إلى جماعة المؤمنين في مواجهة "الآخر".
5- التأثير النفسي والتربوي للخطاب المزدوج
يشير باحثون في علم نفس الطفل إلى أن الإغراق في الخطاب المزدوج (الوطني والديني) الموجه للأطفال قبل سن العاشرة قد يؤدي إلى:
- تشكل صورة مشوهة عن الوطن كمسرح للبطولات والتضحيات، وعن الدين كمنظومة من النواهي والمحظورات، لا كمنظومات قيم إنسانية واجتماعية.
- تنمية شعور مبكر بالذنب والخوف، سواء من العقاب الإلهي أو من فشل الذات في تحقيق المثل العليا.
- إضعاف الروح النقدية والقدرة على التفكير المستقل.
- تعزيز الانعزالية والانغلاق على الذات والجماعة.
- تعميق الشعور بالانفصام بين عالم الشعارات المثالي وعالم الواقع المعقد.
6- ما الذي يحتاجه الطفل العربي فعلاً؟
الطفل العربي بحاجة إلى الخبز والتعليم والصحة والأمان والانفتاح على الكون. هو بحاجة للجمال الشعري، وليس للبطولات الشعرية. يغير الجمال المجتمعات ويجعل منها مجتمعات إنسانية راقية أما العنف والقتال والدم وتأكيد المؤامرة الكونية وحفلات الشهادة الراقصة، في كتب الأطفال، فهي سبب في تأخير الازدهار الوطني.
إن قصيدة جميلة عن فراشة حزينة طردتها فراشة كبيرة من بيتها في إحدى الأزهار أجمل وأكثر تأثيراً في وجدان الطفل من ثلاثة أرباع القصائد من نمط "داري، ودرب انتصاري"، وأكثر قدرة على تنمية حسه الأخلاقي والإنساني من قصائد الوعظ المباشر.
7- نحو خطاب متوازن للأطفال
يمكن للأناشيد والقصائد الموجهة للأطفال، سواء كانت وطنية أو دينية، أن تلعب دوراً إيجابياً في تربيتهم، إذا:
- ربطت المفاهيم المجردة (الوطن، الدين، الأخلاق) بتجارب حياتية ملموسة في عالم الطفل.
- ركزت على القيم الإنسانية المشتركة: الرحمة، العدل، التعاون، احترام الآخر، الصدق.
- قدمت النماذج الوطنية والدينية بطريقة تبرز جوانبها الإنسانية وتجعلها قريبة من عالم الطفل وخبراته.
- تناولت قصصاً تعزز قيم الإبداع والاكتشاف والتفكير.
- استلهمت التراث الوطني والديني للتأكيد على قيم التسامح والتعايش والجمال.
- ابتعدت عن لغة الشعارات والوعظ المباشر والتخويف، واقتربت من لغة القصة والحكاية.
- اعترفت بالمشكلات الواقعية التي تواجه المجتمع، وقدمت مقاربات إيجابية للتعامل معها.
***
لمن يكتب كتّاب الأطفال؟ هل يكتبون للأطفال أم للسلطات التربوية والدينية والسياسية؟ هل يكتبون لبناء وعي حر ومستنير، أم لتكريس أنماط الوعي السائدة والتي نحصد نتائجها بالدم اليومي؟
#حسان_الجودي (هاشتاغ)
Hassan_Al_Joudi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟