عبد الرحمن نعسان
باحث في الدراسات النقدية والثقافية
(Abdalrahman Nassan)
الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 22:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نحو فهم بنيوي للعدالة الانتقالية
مأزق المحاسبة الفردية في دولة الاستبداد الكلي
خذ أي كلمة، وجرّب أن توظفها في سياق لغوي مختلف ستلاحظ كيف يتغيّر معناها، بل وقد ينقلب إلى نقيضه، هذا التحول الدلالي الذي يحدث للكلمة حين تتغير ضمن السياق، هو ذاته ما يحدث للفرد داخل النظم السياسية والاجتماعية، فالأهمية دوماً يجب أن تتجه صوب البنية= النظام، وليس العناصر منفردة، فمثلما أن الكلمات لا تُفهم خارج سياقها، فإن الأفراد لا يُفهمون، ومن ثم لا يُحاسبون بمعزل عن المنظومات التي أنتجتهم، لذلك فإن الأهمية دوماً يجب أن تتجه صوب البنية = النظام = العلاقات التي تمنح العناصر معناها ووظيفتها وتحدد منظومة عملها.
ولعلّ من الأمثلة الأقرب إلى ذهننا علاقة لعبة الشطرنج بأحجارها، فالقيمة لا تكمن في الحجر نفسه، لا في البيدق ولا في الفيل ولا حتى الملك، بل هي على الدوام في القيمة الرمزية الممنوحة للأحجار ضمن قواعد معينة، فالجندي (البيدق) الذي هو أضعف القطع وأكثرها تواضعاً حين يصل إلى الصف الأخير يمكنه أن يتحول إلى (ملك). لم يتغير،هنا، البيدق في جوهره، لكن تغير موقعه ضمن بنية الرقعة وقواعد اللعبة، إذ جرى منحه سلطة لم يكن يمتلكها، بهذا المعنى فالقيمة لا تُحدّد بالعنصر، بل بموقعه ضمن نظام العلاقات.
ومن هذه الفرضية تنبثق رؤيتنا للعدالة الانتقالية: فالمساءلة لا يجب أن تنحصر في الأفراد، بل ينبغي أن تطال المنظومة التي أنتجت العنف والاستبداد والإرهاب؛ أي القواعد المؤسِّسية، والهياكل السياسية والاقتصادية والأمنية التي شكّلت (النظام الأسدي).
إنَّ هذا الإصرار على ضرورة مساءلة البنية=النظام ليس فقط من اشتراطات العدالة الانتقالية، بل أيضاً من طبيعة النظام الأسدي عينه، إذ لا يتوجب النظر إلى الأسدية كأزمة سياسية فحسب أي ليست أزمة قطاعية تخص جانباً معيناً من قطعات المجتمع، بل هي حسب تشريح الراحل طيب تزيني أزمة بنيوية تشمل قطاعات المجتمع السوري في كليته ابتداء من التربية والتعليم وليس انتهاء بالسياسة والسلطة وتوزيع الثروة، فالأسدية ليست سلطة سياسية فحسب، بل سلطة على المجتمع وفيه، فلا تخصّ قطاعاً واحداً، بل تنخر عظام الدولة والمجتمع في آن: من المقرّر المدرسي إلى جهاز الأمن، ومن توزيع الخبز على الأفران المزدحمة إلى توزيع الخطابات على المنابر الثقافية والدينية والحزبية. لذا فإن أي عدالة لا تطال هذه البنية ستُبقي الماضي حياً في الحاضر بدل أن تقطع معه. فما دامت القواعد المؤسسة للمنظومة لم تُمس، فإن البنية ستبقى قادرة على إنتاج عناصرها.
ولو استندنا على القاعدة الفقهية-المنطقية أن: "الحُكم فرعٌ عن التصوّر"، فإن خطورة الحكم في العدالة الانتقالية يتجاوز القصور الذهني إلى نتائج سياسية واجتماعية، فكل تصور ناقص عن النظام السابق هو في الحقيقة جريمة مُؤجلة بحق المستقبل؛ المستقبل الذي سيزيد الشعب ظلماً على ظلم. إن الجهل ببنية النظام الأسدي، أو ما هو أخطر: التجهيل المنظّم بطبيعته سواء لأسباب أيديولوجية أو بدوافع طائفية لا يؤدي فقط إلى نسف العدالة، بل إلى ترسيخ الظلم في بُنية المجتمع ذاته، مما يجعل الاستبداد قابلاً للاستيعاب ضمن سرديات جديدة (قومية أو طائفية)، فحين نخطئ في تعريف الأسديَّة، فإننا نخطئ على نحو مضاعف في التشخيص وفي العلاج، فاختزال هذه البنية المعقدة في طائفة بعينها، أو في فرع أمني ، أو حتى في شخص الرئيس نفسه، هو خيانة مزدوجة: خيانة للعدالة، وخيانة أخلاقية-معرفية. والأدهى أن مثل هذا الاختزال، في ظاهره معارضة للنظام السابق، لكنه في عمقه استمرار له؛ لأنه يُبقي على النواة الصلبة للأسدية دون مساس: منطقها البنيوي الذي يحوّل المجتمع إلى مرآة للسلطة، والسلطة إلى أخطبوط يسيطر على قطاعات المجتمع في كليتها.
هذا يدفعنا للتأكيد أن العدالة الانتقالية ليست مشروعاً قانونياً أو جنائياً يحاسب فيه الأفراد في القاعات المغلقة أو يسحلون في الشوارع بعد النهيق والنباح، بل هي مشروع اجتماعي-ساسي-اقتصادي يقطع مع الأسدية كنظام رمزي ومادي في آن، بهذا السياق البنيوي تتجاوز العدالة الانتقالية المساءلة الجنائية لأشخاص بعينهم، وتغدو مشروعاً سياسياً وأخلاقياً يهدف إلى تفكيك البنية التي سمحت بوقوع الجرائم، وليس اختزالها على محاسبة العناصر، فمثلما أن البيدق في لعبة الشطرنج لا يملك قيمة ذاتية خارج قواعد اللعبة وموقعه على الرقعة، كذلك الأفراد الذين مارسوا القمع أو استثمروا في الاستبداد لا يُفهمون إلا ضمن النظام الذي مكّنهم ومنحهم أدوارهم، وبالتالي فإن المحاسبة الحق هي للبنية أولاً.
إن المطلوب عاجلاً غير آجلٍ تفكيك شبكة علاقات تداخلت فيها الأجهزة الأمنية مع الاقتصاد الريعي، والتعليم المؤدلج، والإعلام التلقيني، والدين المُروّض (أو حسب التعبير الشعبي الرائج مشايخ رز بحليب)، حتى غدت السلطة في ذلك كله كامنة في تفاصيل حياتنا: في الكلمة، في الراتب، في الخبز، في النشيد الصباحي. إنّ العدالة التي ننشدها يجب أن تكون قطيعة ثقافية-سياسية مع نظام السيادة القديم، وإعادة تركيب للعلاقة بين القاعدة الاجتماعية والهرم السلطوي؛ بحيث لا يعود المجتمع مادة خام للسلطة يعيد تشكيلها كيفما شاء الأخ الكبير (الرئيس)، بل يصبح الشعب هو الأصل، وهو المعيار، وهو الشرط، فالشرعية لا تُمنح من الأعلى بل تُشتق من الأسفل.
وإن كان اليوم ثمة من يرفع فزّاعة (فلول النظام) لكي يبرر ظاهرياً تأجيل العدالة الانتقالية، فإنه ينسى أو يتناسى أن فلول النظام لا قيمة لهم ولا فاعلية إلا في حالة واحدة فقط: وهي إبقاء النظام وقواعد الممارسة السلطة على حالها. إن التركيز على ملاحقة الأفراد ممن يسمّون فلولاً أو أذرع النظام السابق الاقتصادية دون مساءلة البنية التي أنجبتهم، يشبه تماماً محاولة قتل البعوض مع الإبقاء على المستنقع، هؤلاء الذين يُشار إليهم ويضخّم حضورهم هم عناصر في بنية، فلا يمتلكون قيمة حقيقية أو فاعلية سياسية ما لم تكن الأرضية التي أنجبتهم لا تزال صالحة لإنباتهم من جديد. إنهم لا يعودون إلا حين يُفتح لهم الباب ذاته، بمنطقه ذاته، وشرعيته القديمة ذاتها. والأخطر من ذلك أن يعاد تفعيل وظيفتهم بتفعيل البنية السابقة.
إن العدالة الانتقالية والقطع مع الأسدية والانتقال الديموقراطي جميعها أضلاع لمثلث واحد يؤدي الغاية ذاتها: التحرر من بنية تنتج العنف وتُعيد استثماره، إن غاية العدالة الانتقالية القطع البنيوي، ولن يتحقق السلم الأهلي إلا بالوعي القطائعي مع منظومة الحكم السابق، فليس المهم من فعل؟ بل كيف أمكن للفعل أن يحدث؟ والخطورة ليس فيما حصل ومضى بل في قابلية تكراره، لذلك لا يكفي أن نشير بأصابع الاتهام إلى هذا الوجه أو ذاك، بل يجب أن نمدّ البصر إلى المنصة التي نصّبتهم؛ أي إلى المسرح السلطوي الذي أتاح لهم لعب أدوارهم الإجرامية.
الفلول لم ينتجوا النظام، بل النظام هو من أنتجهم، وكذلك الشبيحة في نسخهم القديمة والمعدلة والمُستحدثة.
#عبد_الرحمن_نعسان (هاشتاغ)
Abdalrahman_Nassan#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟