أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي جعفر - نظرات في شعر حسين علي محمد ( طائر الشعر المسافر )















المزيد.....



نظرات في شعر حسين علي محمد ( طائر الشعر المسافر )


مجدي جعفر

الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 01:02
المحور: الادب والفن
    


= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.


الآخر في شعر حسين علي محمد


كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني

= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ



وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق

من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ


مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.



















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.


الآخر في شعر حسين علي محمد


كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني

= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ



وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق

من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ


مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.


















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.






















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.






















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.


















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.





































= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.


















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.






















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.


















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.





















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.


















































= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.



















= عاش حسين علي محمد عمره الطبيعي نحو ستون عاما وأقل من ثلاثة أشهر، وعمره الإبداعي يزيد عن خمسة وأربعين عاما، أي ثلاثة أرباع عمره قضاه مبدعا ومؤلفا وقارضا للشعر وكاتبا للقصة وناقدا ومحاضرا ومعلما.
وحسين علي محمد الشاعر كتب من شعر الفصحى ما يقرب من الثلاثمائة قصيدة، بمتوسط سبع قصائد في العام الواحد من عمره الإبداعي .
وهناك أعوام في مسيرته الإبداعية يمكن أن نسميها عام القصيدة الواحدة، لم يكتب الشاعر خلال العام غير قصيدة واحدة، وهي أعوام قليلة، وهناك أعوام كتب في العام الواحد ما يزيد عن الخمسة عشرة قصيدة، ووصل في أحد الأعوام إلى العشرين قصيدة، وكان هذا العام هو ذروة انتاجه الشعري.
= كتب الشاعر قصائده الفصحى من منتصف عقد الستينيات من القرن الماضي تقريبا إلى العقد الأول من الألفية الثانية، على مدى أربع عقود ونصف، كان عقد الستينيات هو الأقل انتاجا في شعر الفصحى، ويرجع ذلك إلى اهتمامه بشعر العامية وكتب عشرات القصائد بالعامية المصرية، وإذا أضفنا ما كتبه بالعامية إلى ما كتبه بالفصحى خلال حقبة الستينيات، سنجد حقبة الستينيات هي الأغذر والأكثر انتاجا، وإذا فصلنا قصائد الفصحى عن قصائد العامية يأتي عقديّ السبعينيات والثمانينيات هما الأخصب والأغذر والأكثر انتاجا.
= الأعوام التي قلّ فيها انتاجه في شعر الفصحى تعود إلى انشغاله بالإعداد لرسالتي الماجستير أو الدكتوراه، أو الانشغال بكتابة مسرحية شعرية أو كتابة قصص قصيرة أو كتاب نقدي، أو .. أو ...، فمجالات الإبداع متنوعة لديه.
= كتب الشاعر عددا من قصائد النثر، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، منها قصيدة " شيخوخة وحنين " وهي القصيدة الوحيدة التي كتبها عام 1997م، ولم ينشرها، ومازالت مبثوثة في أوراقه.

الآخر في شعر حسين علي محمد
كتب حسين علي محمد عددا من القصائد عن آخرين أو أهداها لهم، ومنها :
مرثية البدر الغائب، من أوراق ابن الرومي، طائر الرعد، أيها النهر، آخر حديث لعبدالله بن أبي، تراجيديا الواهم الأكبر، أصابع شعرك للموت، صهيب ينادي : وامعتصماه، أبي، دموع الحاسوب، .. وغيرها.

تحول فني ومضموني
= تخضع القصيدة عند حسين علي محمد للتبديل والتحوير والحذف والإضافة، حتى لو نُشرت، ومثال ذلك قصيدة " القصيدة " المنشورة في ديوان غناء الأشياء " ص 18وما بعدها ( من الطبعة الأولى ) .
فالنشيد الرابع سبق أن نشره الشاعر مستقلا عام 1985م في كتاب القافلة التي أسسها : أحمد زلط وحسين علي محمد وسعيد الكيلاني وصابر عبدالدايم واحتفظ الشاعر باسم النشيد " اعتذارية " وهو معارضة لقصيدة لعبدالله البردوني.
أما النشيد الثامن، فقد نشر في مجلة " الفكر " التونسية عدد مايو 1984م بعنوان " في انتظار العاصفة " ص 76
وهذا نصه :
هو الآن يطرق بابا، ويدخل..
ماذا أرى في البلاد الجديدة،
يشعل حجرته ويصف الآرائك
- أين سميحة ؟
- سترجعُ بعد قليل من الحقل
أما " حسين " مضى يتعلمُ،
يكتبُ شعرا، يحاور نجما بعيدا
يسامرُه من زمان
وفي الليل يومض برق، ويصحو
ويأرقُ ليلته يتذكر
ماتت أمينة منذ زمان طويل
فيافرس الرعب أقبل .. وخذني
إذن هذه الدارُ ..
دعني أصلي صلاة المسافر
هذا هو الفجر .. دعني أصلي
-تركتك ..
صلى، وقام
وقبل وجه سميحة، باح
-افتحي الباب للريح وانتظري العاصفة
= ويبدو أن الشاعر اقتطع من هذا النص قصيدة بعنوان " أبي " يقول فيها :
هو الآن يطرق بابا من النقع
يصرخ كيف يشاء
يصف الآرائك للريح
يشرع حجرته، ويحاور نجم الدماء
وفي الليل يومض برق، فيحفل
هل يبصر الآن وعد السماء
وهل يسمعُ الشيخُ صوت الرياح
بوادي الفناء
أيا فرس الموت أقبل، وطر بي
ودعه هنا نائما مستريحا
وألق عليه الرداء !
= أما ما تبقى من النص القديم " انتظري العاصفة " فقد صار هكذا : ( ديوان غناء الأشياء .. ص ص 25 – 27 )
النشيد الثامن :
أبي ـ الآن ـ يطرقُ بابي ، ويدخلُ
يخرجُ ،
يمتحنُ الآنَ هذي البلادَ الجديدةَ
- أين سميحةُ ؟
- ترجعُ بعدَ قليلٍ من الحقْلِ
... ذاكَ حسيْنٌ
مضى يتعـلَّمُ ،
يكْتُبُ شعراً ، يُحاورُ نجماً بعيداً
يُسامرُهُ من زمانٍ قديمْ
ويخشى الأفولْ
*
وتأرقُ عينا أبي
مضى يتذكَّرُ
«ماتتْ "أمينةُ" منذ زمانٍ بعيدٍ» .. ويغفو ..
(أكنتُ المسافِرَ وحْدي
.. وهذي هي الدَّارُ؟)
ـ دعْني أُصلِّي صلاةَ المُسافِرِ
هذا هو النَّهرُ
هذا هو الفجرُ
دعني أُصلِّي صلاةَ الوصولْ
*
يقومُ يُقبِّلُ وجْهَ سميحةَ
في رعْشةٍ خاطِفهْ
...
ويُغلِقُ نافِذَةَ الوقْتِ
يُصغي لصوتٍ بعيدٍ، (يُغمْغِمُ)
هيا افتحي البابَ للرِّيحِ، وانتظري العاصِفهْ

= والقصائد ( القصيدة، أبي، في انتظار العاصفة ) في حاجة إلى أن توضع تحت مجهر النقد، لنرى هل كان هذا التغيير والحذف والإضافة في صالح الشعر، وهل من الجميل أن نُبقي على قصيدة " في انتظار العاصفة " باعتبارها بذرة لنصين آخرين. أم أن نصها الأصيل مازال مانحا؟
إن التحول هنا – تحول فني ومضموني معا، وهو ما جعل القصيدة الأولى " في انتظار العاصفة " تختفي، لتمنحنا نصين آخرين قادرين على الإشعاع، هما قصيدتي " أبي " و " القصيدة " في ديواني " حدائق الصوت " و " غناء الأشياء " .
خمسة مقاطع من ملحمة عنترة
في الطبعة الثانية من ديوان " الحلم والأسوار " نشر الشاعر قصيدة بعنوان " خمسة مقاطع من ملحمة عنترة " . وفي هذا النص مزج الشاعر بين تجربته الذاتية وهموم الوطن، يقول في المقطع الأول بعنوان طفولة :
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ

كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ


وفي المقطع الثالث يقول :
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني !
وتكاد تكون القصيدة سيرة ذاتية لعقد الستينيات الجميل / اللعين.
ففي هذا العقد تفتحت مدارك الشاعر على القراءة والإبداع، ومعرفة العالم من حوله، وكانت التجارب السياسية والثقافية التي أثارت – وما زالت تثير – الكثير من اللغط، حول الاشتراكية، وكتاب كل ست ساعات، وظهور مجلات واختفاء أخرى، وهزيمة 67، .... وفي هذا العقد أصدر الشاعر أول دواوينه " عشان مهر الصبية ".. وقطع نحو نصف دراسته الجامعية، ونشر في مجلة " الأديب " و..و..
هذه القصيدة واحدة من أحسن قصائد الشاعر، ومن العجب العجاب أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بعد.
ومنها :
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ

"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبختر !
بداية ونهاية

= المتابع لشعر حسين علي محمد يجد أنه كان مغرما بالقصيدة التقليدية في بداية التسعينيات، وتمثل هذا الغرام في كتابته لعدد من القصائد، منها " سبع خماسيات " الموجودة في ديوان " غناء الأشياء " ص ص 103 – 109 . ومن هذه الخماسيات الخماسية الأولى " بداية ونهاية " . التي تمثل من بعض رؤاها مسيرة حياة في الواقع / الشعر .
أمام الباب كان الطفل يلهو / بأبيات لها وقع جميلُ
وألفُ فراشة كانت تغني / تُداعبه، تُردّدُ ما يقولُ
وكم غنى مُحبا مستهاما / فهل تمضي على ذاك الفصولُ؟
وللأحلام عاش الطفل عمرا / يرافقُه – مع الإشراق – جيلُ
فلم جاءت تهاويلُ الليالي / إلى الطفل المُدلّل لا تحولُ؟

سيرة ذاتية للغناء
على صهوة البرق
من قصائد حسين علي محمد الجياد قصيدة " سيرة ذاتية للغناء على صهوة البرق " التي كتبها الشاعر في 9/1/1979، وهي واحدة من أجمل القصائد، وإن كان – للأسف – لم يكتب عنها أحد من قبل دراسة تستحقها. وهي منشورة في ديوان " شجرة الحلم " الذي كتب عنه : د . علي عشري زايد، ومصطفى نجا، ومصطفى النجار، وعلي عبدالفتاح .... وغيرهم.
وتقع القصيدة في أربع مقاطع، وهذه بعض مختارات منها :
سيرة ذاتية للغناء على صهوةِ البرق

1-في البدء كان العطش:

حورياتُ البحْرِ أراهُنْ
يبْسَمْنَ، ويضْحكْنَ، ويتأوَّدْنْ

تتشَقَّقُ أرضي العطشى
شوقاً للرَّيِّ وللخصْبْ
وأنا ..
يُقصيني عنهُنَّ الوَهَنُ ...
ويمنعُني الحُزنْ!
*
إنِّي عطشانْ
والدَّنُّ الفارغُ مُلقى
في طرقات النِّسيانْ
*
حطَّ على نافذةِ القلبِ العصفورْ
غرَّدَ في شوْقٍ لامرأةٍ بيضاءْ
كانتْ هائمةً ذات مساءْ
تبحثُ عنْ فرجة نورْ

2-سيناريو لغياب العاشق:

عندَ الشَّطِّ وقفتُ أُحدِّثُها، وأُبشِّرُها بالوعدِ
أقولُ: الصَّدْرُ النَّافِرُ
سوفَ يُلاقي منْ يعتصرُهْ
والساقُ المملوءةُ إذْ تُدفِئُني في الليْلِ
وتبعثُ وسْطَ جليدي ناراً تُبْهِجُني
تُثبِتُ أَنِّي مازلْتُ أعيشْ
وأعرفُ أنَّ الأيَّامَ تجودْ
*
هبَّتْ ريحٌ ضَمَّتْنا
وتداخَلَ ظِلاَّنا
واختَلَطَتْ ألوانُ الطَّيْفْ
أهُزُّ الكأْسَ، وأرقبُها
فتُناغيني
طفلاً عرياناً في الحارةِ
مرثية نبي انفض أنصاره من حول
هذه واحدة من القصائد التي كتبها الشاعر متأثرا بصلاح عبدالصبور في مسرحيته الرائعة " ليلى والمجنون " . وقد كتبها تعليقا على مقطع من المسرحية وكان وقتها الشاعر في الخامسة والعشرين، يمور بالثورة، ويحتج على عبدالصبور : فمن هو النبي الذي يحمل سيفا و ينتظره عبدالصبور ؟ .. هل هذا النبي الذي سوف يأتي سيكون ثائرا وجوديا – على شاكلة صلاح عبدالصبور – وهل إذا جاء سيستطيع أن يفعل شيئا؟
يرى الشاعر حسين علي محمد أنه لن يفعل شيئا ..! .. ومن ثم فإن صديقه الأول ينفض عنه، وينكص على عقبيه. ويقول له " النبي " المزعوم :
أسفت لأنك بعد الولادة
تعود إلى القبر تقتل نفسك
وتجهلُ أنا أتينا
إلى عالم جاهل ..
لنبعث فيه الحياه
أية ولادة تلك التي يولدها الصديق على يدي ثائر دون كيشوت على أحسن حال؟ وأي جهل ذلك الذي جاء هذا الثائر المجنون المزعوم ليغيره ؟ وما العلم الذي يبشر به؟
بل أنه يعدُّ حياته جهادا، وستنتهي بالشهادة ! بعد أن عبروا جميع المقدسات، واستهزأوا بكل القوانين والشرائع :
وتجهلُ أنا عبرنا
جميع الموانع
وأنا أردنا حياة
لكل البشر
وأنا مقابل ذلك ..
سنحظى بالشهادة

لقد كانت هذه القصيدة، وخاصة في المقطع الأخير إدانة للثوار وسارقي الثورات، وخاصة ونحن قد رأينا من قاموا بالثورة ( في مصر مثلا )، وكيف أكل بعضهم البعض، وصاروا أعداء. والتصفيات الجسدية في أنحاء العالم معروفة لرفاق الثورة الواحدة.
ولهذا فالرجل الثاني ( الصديق ) يقول للرجل الأول ( النبي )
أنه يخشى على نفسه منه
لكن إحذر يا سيدنا المبعوث
أن تجعلني للأصحاب شعارا ..
للصديق المطعون بوخز الكلمة
والكاسب بعد التعب وبعد الجهد المشكور العارا
أخشى أن ترجمني في الظهر كإبليس
أن تجعل مني أحدوثة
بعد مساعدتي الصادقة بما أملكُ من مال ونفيس
أخشى أن تأتي في الصبح بنعش يحملني حيا
أو تأمر أصحابك أن يأتوا بالقش .. وتحرقني
أخشى بعد سنين عشر ألا تفهمني !
فأنا..
قد أخرجتُ السيف من الغمد
ليدافع عني
القصيدة تنتقد صداقات الثوار في عالمنا الثالث، وهي صداقة شرسة بعيدة عن صداقات الأنبياء والقديسين. وما انتحار عبدالحكيم عامر- صاحب جمال عبدالناصر – ورجله الثاني عنا ببعيدة . ببعد صداقتهما التي كان يُضرب بها المثل !
رحم الله أستاذي الشاعر حسين علي محمد الذي وافته المنية في صيف العام 2010م بمدينة الرياض. وأسكنه الفردوس الأعلى، وجعل قبره روضة من رياض الجنة.



#مجدي_جعفر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاربة نقدية في الرواية الشعرية ( آخر أخبار الجنة ) لحزين عم ...
- مقاربة نقدية
- وداعا لآلام مرضى كسور الضلوع


المزيد.....




- أول تعليق لمحمد رمضان على ضجة -حمالة الصدر- في مهرجان كوتشيل ...
- أكاديمية السينما الأوراسية تطلق جائزة -الفراشة الماسية- بمشا ...
- آل الشيخ يقرر إشراك الفنان الراحل سليمان عيد في إحدى مسرحيات ...
- نظرة على فيلم Conclave الذي يسلط الضوء على عملية انتخاب بابا ...
- فنان روسي يكشف لـCNN لوحة ترامب الغامضة التي أهداها بوتين له ...
- بعد التشهير الكبير من منع الفيلم ونزولة من جديد .. أخر إيراد ...
- على هامش زيارة السلطان.. RT عربية و-روسيا سيفودنيا- توقعان ...
- كيف كسر فيلم -سينرز- القواعد وحقق نجاحا باهرا؟ 5 عوامل صنعت ...
- سيمونيان تكشف تفاصيل مذكرة التفاهم بين RT ووزارة الإعلام الع ...
- محمد نبيل بنعبد الله يعزي في وفاة الفنان المغربي الأصيل الرا ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مجدي جعفر - نظرات في شعر حسين علي محمد ( طائر الشعر المسافر )