أحمد شيخو
كاتب وباحث سياسي
(Ahmed Shekho)
الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 00:57
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لطالما كان الشرق الأوسط منطقة محورية ومحددة لهوية النظام العالمي والقوى المركزية فيه في تاريخ البشرية، حيث تعددت فيه الحضارات الكبرى والثقافات العريقة، وتعايش وتكامل الشعوب والتكوينات الاجتماعية بتقاليد وقيم مشرقية إنسانية، التي تركت آثارًا عظيمة على مر العصور. بيد أن هذا الشرق، الذي كان مهدًا للثورة النيوليتية واللغوية، وللديانات السماوية، وثقافات غنية، يعاني في العصر الحديث من تناقضات حادة بين رغبات السلام ومخاطر الحرب. فلا يكاد يمر عام دون أن يتصدر مشهد الحرب والعنف عناوين الأخبار في معظم بلدان هذه المنطقة، ليبدو السلام والاستقرار وكأنهما حلمان بعيدان عن المنال. فما أسباب هذا التناقض؟ وهل هناك أمل في أن يصبح الشرق الأوسط يومًا ما منطقة سلام؟ للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم العوامل التاريخية، السياسية، والاقتصادية والثقافية التي أسهمت في إدامة هذه الحروب والصراعات، وكذلك علينا البحث عن بديل لحالة الأزمة وتغول السلطات على حساب المجتمعات. علينا أيضًا بناء حداثة حياتية جديدة تحقق السلام الحقيقي القائم على الحرية وبناء المجتمع الديمقراطي. التاريخ السياسي المعقد للشرق الأوسط الشرق الأوسط هو مسرح لتاريخ طويل ومعقد، يمتد من العصور القديمة حتى العصر الحديث. مرت المنطقة بالعديد من التغيرات السياسية والاقتصادية والفكرية التي شكّلت ملامح الواقع الحالي. في العصور الوسطى، كانت المنطقة مركزًا للعالم الإسلامي، وتداخلت فيها ثقافات ومجتمعات مختلفة تحت حكم الإمبراطوريات والدول الإسلامية مثل الأمويين، العباسيين، الفاطميين، والأيوبيين. لكن هذا الشرق، ومع ضعف وعي الحقيقة في القرن الثاني عشر، وعدم تحقيق التجديد والتحول الديمقراطي المطلوب، ومع مجيء الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبالموافقة الروسية والصينية والتقاسم معهم إلى حدٍّ كبير، بدأت الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط تتغير بشكل كبير. فقد قسمت القوى الاستعمارية الكبرى حينها، مثل بريطانيا وفرنسا، المنطقة وفقًا لمصالحها، وأوجدت نظمًا قومية أحادية مركزية، وحدودًا جديدة بين الشعوب والدول لم تكن موجودة من قبل. هذه الحدود، التي رُسمت دون مراعاة للتركيبة العرقية والدينية للشعوب، أدت إلى ظهور صراعات دامية بين مختلف المجموعات الإثنية والدينية، وخاصة مع تحكم التيارات الأحادية في السلطة في بلدان الشرق الأوسط. في القرن العشرين، أدت عوامل عدة إلى تصاعد النزاعات في المنطقة، مثل تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، الذي أحدث تغييرات كبيرة في العلاقات بين قوى المنطقة وفي المشهد الإقليمي. كما كانت الحروب العربية-الإسرائيلية، بالإضافة إلى الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات، والحروب الخليجية، وكذلك تأسيس تركيا عام 1923، وتقسيم الكُرد وبقائهم بدون حقوق بين أربع دول، وإخراجهم من كينونتهم الكردية، إضافة لاحتلال تركيا لشمال قبرص عام 1874، وغيرها من أبرز المحطات التي عكست مدى تعقيد الوضع السياسي في المنطقة. عوامل الصراع: الدوافع الداخلية والخارجية أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار النزاعات في الشرق الأوسط هو التداخل بين العوامل الداخلية والخارجية. فالنزاعات العرقية والطائفية قد تكون قديمة في بعض الأماكن ومنها ما هو مفتعل، لكن التوترات السياسية والاقتصادية التي نشأت مع الاستعمار وأدواتهم، والتي لا تزال قائمة اليوم، تلعب دورًا مهمًا في تأجيج هذه النزاعات. كما أن غياب الديمقراطية والعدالة والوعي، ووجود منظومات الفساد والاستبداد على رأس حكم الدول والشعوب، وعدم وجود مساحات كافية للتعبير الحر والعمل المجتمعي، جعلت مستويات الصراع في تصاعد دائم. على سبيل المثال، في العراق وسوريا ولبنان، كانت التوترات الطائفية بين السنة والشيعة، بالإضافة إلى تأجيج الفتن والصراعات العرقية بين العرب والكُرد، والتي أشعلتها السلطات البعثية في العراق وسوريا وكذلك التدخلات التركية والإيرانية، من العوامل التي أسهمت في اشتعال النزاعات المسلحة. ومع العقد الأخير في سوريا بعد عام 2011، أصبحت البلاد مسرحًا لصراع غير مسبوق بين جماعات المعارضة والنظام. لكن الحرب جذبت أيضًا العديد من القوى الأجنبية التي دعمت أطرافًا مختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، مما جعل الوضع أكثر تعقيدًا. أما في فلسطين، فإن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي يعود إلى بداية القرن العشرين، يُعتبر من أكثر النزاعات المستمرة والدامية في العالم، كما هو حال الحرب التي تشنها الدولة التركية ضد الكُرد. فإسرائيل ترى في نفسها دولة مستقلة وقوية تحتاج إلى ضمان أمنها في التوسع وفرض هيمنتها ومواجهة ما تصفه بالتهديدات من قبل جيرانها. أما الفلسطينيون، فإنهم يرون أن حقوقهم المسلوبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي هي مصدر رئيسي لمعاناتهم. تأثير القوى الخارجية: التدخلات الأجنبية والانتشار العسكري من العوامل التي تزيد من تعقيد الصراعات في الشرق الأوسط هو تدخل القوى الكبرى في شؤون المنطقة. في الواقع، أصبحت المنطقة ساحة نزاع بين قوى عظمى تسعى إلى حماية مصالحها الاستراتيجية. فالولايات المتحدة وروسيا، على سبيل المثال، لعبتا أدوارًا كبيرة في الشرق الأوسط من خلال حروبهما في العراق وأفغانستان وسوريا وليبيا والسودان وفي معظم دول المنطقة، وكذلك دعمهما لإسرائيل وتركيا وتحالفاتهما مع بعض الدول العربية. من جهة أخرى، تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال دعم جماعات الإسلام السياسي للوصول إلى الحكم لأنها تعتبر الإسلام السياسي إحدى أدوات العثمانية الجديدة، كما هي حال سوريا، وكذلك دعم وتشكيل أذرع عسكرية كـ"حرس نينوى" و"درع كركوك" في العراق، والجيش الوطني السوري في شمال سوريا، وتيار الحرية والتغيير في اليمن، بينما تلعب إيران دورًا مهمًا في دعم الجماعات المسلحة في لبنان (حزب الله)، والعراق، وسوريا، واليمن. هذه التدخلات الأجنبية والإقليمية لم تقتصر على الحروب المباشرة، بل شملت أيضًا تمويل الأنظمة والأحزاب السياسية في بعض الدول، ودعم بعض الجماعات المسلحة وتشكيل أذرع، مما يساهم في إشعال الفتن بين القوى المحلية ويفاقم الأزمات الإنسانية. اقتصاديات الحرب وتأثيرها على المجتمعات الشرق الأوسط، رغم أنه يحتوي على العديد من الثروات الطبيعية مثل النفط والغاز، يعاني من اقتصادات هشة وفقر شعبي، ومتأثر بشكل كبير بالصراعات المستمرة. الحروب تدمر البنية التحتية، تقتل الآلاف من المدنيين، وتؤدي إلى تهجير الملايين من السكان. كما أن الحروب تؤدي إلى تصاعد معدلات البطالة والفقر، مما يجعل عملية إعادة بناء البلدان بعد الحرب أمرًا معقدًا للغاية. في سوريا، على سبيل المثال، دمرت الحرب أكثر من 70% من البنية التحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات. ونتيجة لذلك، يعاني ملايين الأشخاص من نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. وقد أدت الحروب في اليمن وليبيا والسودان ولبنان وفلسطين إلى خلق أزمات إنسانية غير مسبوقة، مما جعل العديد من المواطنين في تلك البلدان يعتمدون على المعونات الدولية للبقاء على قيد الحياة. وكذلك في تركيا، فإن السبب الرئيسي للتدهور الاقتصادي، وانهيار العملة، والتضخم، والإفلاس، وزيادة الدين الخارجي، هو الحرب المستمرة منذ أكثر من 40 عامًا ضد الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني.
معاناة المرأة في الشرق الأوسط وحروبها
تتعرض المرأة في الشرق الأوسط لمعاناة شديدة بسبب الحروب المستمرة في المنطقة، حيث تواجه العنف الجنسي، التهجير القسري، والحرمان من الحقوق الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. في مناطق مثل سوريا واليمن والعراق وفلسطين وكردستان وتركيا، تعرضت النساء للقتل والاختطاف، وأصبحن مسؤولات عن أسرهن في غياب الرجال. ورغم الظروف القاسية، تبرز النساء في أدوار متعددة، حيث يسهمن في إعادة بناء المجتمعات المتضررة وحمايتها ولعل تجربة المرأة الكردية مفيدة لكل النساء في الشرق الأوسط لدراستها والاستفادة منها. بالتأكيد أن معانات المرأة في الشرق الأوسط هي انعكاس للتحديات الكبرى التي تواجهها المجتمعات في المنطقة، ما يستدعي ضرورة حماية حقوقهن وتحقيق العدالة والمساواة. ونعتقد أن أي تحقيق للسلام لا بد أن تتواجد فيه إرادة المرأة، بل إنها صاحبة المصلحة الحقيقية في السلام والاستقرار.
الطريق نحو السلام: التحديات والفرص بالرغم من التعقيدات والصراعات المستمرة في المنطقة، هناك أمل في أن يتحقق السلام يومًا ما. ولكن هذا السلام لن يأتي إلا إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف المعنية، ورؤية نافذة، ومشروع سياسي ديمقراطي وعمل جاد وجهد جبار. أظهرت بعض التجارب الناجحة في العالم أن الحلول السياسية السلمية يمكن أن تكون فعّالة إذا كانت الأطراف مستعدة للتفاوض على مصالحها المتبادلة، ولديها القناعة والرغبة في السلام. وفي الوقت نفسه، هناك عمليات سلام لم تكتمل بل تحولت إلى وسيلة لإخضاع الآخر وتصفيته والعودة إلى المربع الأول من الصراع إذا كان الهدف تجاوز مرحلة أو استغلال ظروف معينة. إضافة إلى ذلك، تُعتبر المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي من الجهات التي يمكن أن تُسهم في تسوية النزاعات، ولكن يجب أن تكون هذه المنظمات قادرة على العمل بفعالية، بعيدًا عن التنافسات السياسية التي تعيق الحلول وحالة عدم وجود قرار موحد وآليات محددة للإسهام. من المهم أن تكون قوى الديمقراطية والحرية في مجتمعات وشعوب المنطقة هي المبادِرة والمتواجدة في صدارة مشهد السلام، لأنها القوى الأساسية الراغبة في بناء السلام الحقيقي القائم على الحرية والديمقراطية والاستقرار، بينما قوى السلطة والهيمنة والتفرد لم تكن يوماً مع السلام والاستقرار إلا لخدمتها أو للنيل من الشعوب وقوى السلام والديمقراطية والحرية. من المهم أيضًا أن تتم عملية السلام مع التركيز على بناء المؤسسات الديمقراطية، وتغيير الذهنية الأحادية إلى التشاركية والاحترام المتبادل، وتحقيق العدالة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول المنطقة والاعتراف بحقوق كل الشعوب والمكونات التي تعيش في دول الشرق الأوسط. فبدون تحقيق الحرية، وضمان حق التعبير والتنظيم والحماية والسياسية للمجتمعات والشعوب، وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، لن يكون هناك أساس مستدام للسلام. على سبيل المثال، يمكن للسياسة الديمقراطية، وتهيئة الأرضية القانونية والسياسية لخصوصيات المجتمعات والشعوب ضمن الدولة الواحدة وحقهم في الإدارات الذاتية وحماية أنفسهم، والتوزيع العادل للثروات وتحسين الاستثمارات في التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، أن تلعب دورًا مهمًا في خلق بيئة مستقرة وسلمية. الخاتمة الشرق الأوسط اليوم يقف عند مفترق طرق. فبينما تبدو الحروب والصراعات مستمرة في كثير من دوله، ومع ملاحظة وجود مؤشرات لمحاولات تشكيل نظام إقليمي اقتصادي-سياسي-ثقافي جديد، فإن هناك إشارات أمل صغيرة تشير إلى إمكانية الوصول إلى السلام، كما عبّر عنها مسؤول الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في معرض تعليقه على نداء السلام والمجتمع الديمقراطي للمفكر والقائد عبد الله أوجلان. لكن، لتحقيق هذا السلام، يجب على جميع الأطراف المعنية أن تتخذ خطوات جادة نحو التفاهم والاعتراف المتبادل، وأن تضع حدًا للتدخلات الخارجية التي لا تؤدي إلا إلى إدامة الصراعات. السلام في الشرق الأوسط ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب إرادة حقيقية وتضافر الجهود من الداخل والخارج، ورؤية جديدة متكاملة تراعي المستجدات والمعطيات الحديثة لتجاوز التحديات المختلفة. ولا بد من وجود مشروع مجتمعي حقيقي يقوم على الحرية، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة، والتنمية المستدامة، كما هو مشروع الأمة الديمقراطية (القائمة على الذهنية التشاركية والإرادة الحرة) البديل للدولة القومية الأحادية، الاستبدادية، والتابعة للنظام الرأسمالي العالمي.
#أحمد_شيخو (هاشتاغ)
Ahmed_Shekho#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟