|
إشكالية العلم والتقنية: من بدايات التفكير الفلسفي إلى تحديات القرن الحادي والعشرين
أحمد زكرد
الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 23:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ اللحظة الأولى التي مدّ فيها الإنسان يده إلى محيطه، محاولًا ترويض الطبيعة واستيعاب قوانينها، وُلدت علاقة معقدة بينه وبين التقنية. فالتقنية لم تكن يومًا مجرد أدوات أو وسائل مساعدة، بل هي امتداد للإنسان ذاته، لماهيته وكينونته، لطموحه ومحدوديته. في هذه العلاقة، تتجلى معالم العقل البشري، لا فقط في قدرته على الابتكار، بل في نزوعه الوجودي نحو تجاوز وضعه الأصلي. ولعلّ هذه النزعة هي التي دفعت الإنسان إلى خلق العجلة، والكتابة، والآلة، وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي. كل لحظة تقنية هي لحظة وجودية بامتياز، تتضمن سؤالًا ضمنيًا: من هو الإنسان؟ وإلى أين يسير؟ إنّ التقنية، في أصلها، لا تنفصل عن فعل التفكير. فالفلسفة منذ نشأتها مع طاليس وأفلاطون وأرسطو لم تتجاهل هذا البعد، بل أدرجته ضمن اهتمامها الأساسي: محاولة فهم العلاقة بين العقل والمادة، بين الغاية والوسيلة، بين الوجود والصيرورة. وإذا كان أرسطو قد ميز بين "الفعالية النظرية" و"الفعالية العملية"، واضعًا التقنية في خانة الأخيرة، فإنّ هذا التمييز ذاته ينبني على تصور غائي للإنسان: الكائن الذي لا يكتفي بالمجرد، بل يسعى إلى تحويل المعرفة إلى أثر في العالم. لكن هل التقنية مجرد وسيلة؟ هذا هو الإيهام الكبير. فحسب مارتن هايدغر، التقنية ليست مجرد أدوات خارجية نستخدمها، بل هي نمط من أنماط انكشاف العالم. التقنية تنظر إلى الموجودات بصفتها قابلة للتخزين، للاستغلال، للتوجيه. هي "موقف" ontologique من الوجود، يجعل كل شيء، بما في ذلك الإنسان، موضوعًا للتهيئة والبرمجة. وبالتالي، فالتقنية تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم، لا كعلاقة تواصل وتأمل، بل كعلاقة سيطرة واستعمال. من هنا تنبع خطورتها وفرادتها في آنٍ واحد. من الناحية العلمية، يمكن تتبع تطور التقنية بوصفه انعكاسًا مباشرًا لتطور الوعي الإنساني. فاختراع النار لم يكن فقط لحظة بيولوجية حاسمة، بل لحظة رمزية، إذ نقل الإنسان من التبعية للطبيعة إلى مشاركته في تشكيلها. وكذلك كان الحال مع الزراعة، التي حوّلت العلاقة مع الزمن، ومع الكتابة التي صنعت الذاكرة الجمعية، ثم مع الآلة البخارية التي دشّنت عصر الإنتاج الكثيف، فالذكاء الاصطناعي الذي يُهدّد اليوم بإعادة صياغة الحدود بين الطبيعي والصناعي. إن هذه اللحظات التقنية لا تتراكم فحسب، بل تخلق تحولات نوعية في نمط العيش، في البنى الاجتماعية، بل وحتى في إدراك الذات والآخر. غير أنّ هذا التطور لم يكن دائمًا في صالح الإنسان. فقد أشار فلاسفة مدرسة فرانكفورت، وعلى رأسهم تيودور آدورنو وماكس هوركهايمر، إلى الطابع "العقلاني الأداتي" للتقنية، حيث تتحول كل غاية إلى وسيلة، ويُغدو الإنسان نفسه عنصرًا في آلة بيروقراطية كبرى. التقنية، في هذا التصور، لا تُحرّر، بل تُخضع، لا تُنير، بل تُعمي، حين تفقد البعد الإنساني القيمي والأخلاقي. من هنا يبرز سؤال الحجاج الفلسفي: هل الإنسان يملك التقنية، أم أن التقنية هي من بدأت تملك الإنسان؟ ولعلّ التطور المعاصر للتقنية، وخصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي، البيوتكنولوجيا، والتحكم في البيانات، يفرض علينا إعادة بناء مفاهيمنا التقليدية عن الحرية، الهوية، الغاية. فهل ما يزال الإنسان حرًا في قراراته في عالم تحكمه الخوارزميات؟ هل يظل "فاعلًا" في المعنى الفلسفي، أم أصبح "مفعولًا به" داخل منظومات لا يفهمها بالكامل؟ هذه الأسئلة ليست ترفًا نظريًا، بل هي اليوم صلب رهانات الوجود الإنساني ذاته. من جهة أخرى، لا يمكن إنكار ما قدّمته التقنية من إنجازات عظيمة للبشرية: إنقاذ أرواح، تبادل فوري للمعرفة، تسهيل الحياة اليومية، رفع متوسط العمر، فتح آفاق غير مسبوقة في الاستكشاف العلمي والكوني. وهذا ما يدعونا إلى تبني موقف مركّب: لا شيطنة للتقنية، ولا تقديس لها. بل محاولة لفهمها، لتفكيك آلياتها، ولمساءلتها من منطلق إنساني صرف. إنّ المفارقة الكبرى تكمن في أن التقنية، التي ظهرت أصلاً استجابة لحاجة الإنسان إلى تجاوز محدوديته، أصبحت بدورها تضع الإنسان أمام حدود جديدة. وهنا تبرز الحاجة إلى التفكير الفلسفي كقوة مقاومة، كمجال نقد، كصوت لا يكتفي بالدهشة أمام المعجزة التقنية، بل يسأل عن المعنى، عن القيمة، عن الغاية. فلسنا أمام سباق تقني فحسب، بل أمام مفترق طرق وجودي: هل نُعيد تأويل التقنية ضمن مشروع إنساني شامل، أم نستسلم لقدرية تكنولوجية لا نتحكم في مصيرها؟ إنّ العلاقة بين الإنسان والتقنية ليست خطية، ولا بسيطة، بل هي علاقة جدلية، قائمة على التوتر بين الإبداع والسيطرة، بين التحرر والخضوع، بين الأداة والغرض. وهي علاقة تعكس، في عمقها، مأساة الإنسان الحديث: الكائن الذي خلق أدواته، ثم وجد نفسه مسحوبًا نحو عوالم تتجاوزه، نحو احتمالات لم يعد يملك مفاتيحها بالكامل. لهذا، فإنّ واجب الفكر اليوم ليس فقط أن يُلاحق التقنية، بل أن يُحاورها، أن يُخضعها للمساءلة، أن يُعيد ربطها بغايات أسمى من الربح والهيمنة والكفاءة، غايات تتعلق بالكرامة الإنسانية، بالعدالة، بالحياة المشتركة، وبالمعنى الذي يمنح للوجود الإنساني قيمته القصوى. التقنية في ذاتها ليست خيرًا ولا شرًا، لكنها مرآة عاكسة لما نختار أن نكون عليه.
أولًا: العلم والتقنية في الفلسفة اليونانية القديمة حين نتأمل في الفكر اليوناني القديم، لا يمكننا فصل بدايات التفكير الفلسفي عن التساؤل حول العالم، ومن ثمة عن البذور الأولى لما سيتحول لاحقًا إلى ما نسميه اليوم بالعلم والتقنية. لقد كان الفيلسوف الإغريقي، في جوهره، باحثًا في الكون، في أصله ونظامه وقوانينه، باحثًا عن مبدأ أول، عن "الأرخي" الذي يمنح الأشياء انتظامها ودوامها، والذي يُفسّر تغيرها وتحولها. هذا السعي، في مظهره النظري، يبدو فلسفيًا صرفًا، لكنه يحمل في عمقه نواة ما سيغدو لاحقًا معرفة علمية وتقنية، أي تلك التي لا تكتفي بالتأمل المجرد، بل تنزع نحو تفسير الظواهر بطريقة عقلانية ومنهجية. لقد كان طاليس يعتقد أنّ الماء هو أصل كل شيء، ليس فقط لكونه مادة محسوسة، بل لأنه لاحظ كيف تتبدل الأشياء في الطبيعة، وكيف يرتبط هذا التبدل بعنصر الحياة، أي الماء. هذا الربط بين الملاحظة والتفسير العقلي يُمثّل جنينًا أوليًا لما سيُعرف لاحقًا بالمنهج العلمي. فالتفكير الفلسفي عند فلاسفة الطبيعة لم يكن فصلًا بين النظر والعمل، بل محاولة لتوحيد الكون في مبدأ واحد يضبط تنوعه. وهكذا، فإنّ التقنية، بوصفها فعلًا تغييريًا في المادة، لم تكن مفصولة عن هذا التصور، بل كانت امتدادًا له: محاولة لإعادة ترتيب العالم وفق فهمنا له. ثم جاء أنكسيماندر، الذي تجاوز التصور المادي البسيط لطاليس، واقترح "اللامحدود" (الآبيرون) كمبدأ للوجود. وهذا التصور لا يعكس فقط تحولًا في فهم المادة، بل أيضًا إدراكًا أعمق لبنية التفكير العقلي: أن ليس كل ما هو حقيقي يمكن أن يُرى أو يُلمس، وأن هناك نظامًا خفيًا يدير الظواهر. في هذه اللحظة الفكرية، تبدأ الفلسفة في تحرير العقل من التبعية للحسي، وتؤسس لإمكانية النظر في قوانين مجردة تنظم الكون. أليس هذا هو جوهر التفكير العلمي ذاته؟ أمّا هيراقليطس، الذي رأى في النار مبدأ الأشياء، فقد أدخل بعدًا جديدًا: الصيرورة. "لا يمكنك أن تسبح في النهر مرتين"، كما قال، لأن كل شيء يتغير. هنا يلمس الفيلسوف جوهر الزمن والحركة، مفترضًا أنّ الكينونة ليست ثباتًا، بل تغيرًا دائمًا. وهذا الوعي بالصيرورة هو ما يجعل التقنية ممكنة: فلو كان العالم جامدًا، لما احتاج الإنسان إلى تغييره، ولما كان ثمة داعٍ لفعل تقني. فالتقنية، إذًا، هي استجابة حية لتحولات العالم، كما أنها تمثل محاولة للسيطرة على هذا التغير وتوجيهه نحو أهداف نافعة. لكن الفكر اليوناني لم يتوقف عند الملاحظة والتأمل، بل بلغ ذروته مع سقراط، الذي غيّر وجه الفلسفة، فجعل من الإنسان ذاته موضوعًا للتفكير. ومع ذلك، فإنّ التقنية لم تغب عن تصوره، بل اتخذت شكلًا أخلاقيًا. فكما يتقن الحرفي صنعته، يجب على الإنسان أن يتقن عيشه، وأن يعرف الفضيلة كما يعرف النجار فنّ الخشب. التقنية، في هذا السياق، ليست فقط فعلًا ماديًا، بل هي أيضًا نمط من الوعي بالذات، قدرة على ممارسة الحياة وفق مبادئ مُتقنة. ثم جاء أفلاطون، الذي حذر من سطوة الحسي، ودعا إلى النظر في العالم المثالي، عالم الصور الثابتة. غير أنّه، رغم حذره من المحسوس، لم يُلغِ أهمية التقنية، بل أعاد تأويلها. ففي محاوراته، نقرأ كيف يُشيد بفن الطب والهندسة والرياضيات، ويجعل منها درجات نحو إدراك الحقيقة. فالرياضي لا يشتغل على المحسوس، بل على صورة عقلية، وهكذا يرتقي من الظن إلى المعرفة. التقنية، وفق هذا التصور، ليست فقط صنعة، بل وسيلة عقلية تُمكّننا من تجاوز الظاهر نحو الجوهري. إنها، بهذا المعنى، مسار تربوي وفلسفي يُشكّل النفس ويهذبها. أما أرسطو، فقد منح التقنية تعريفًا دقيقًا، حين ميّز بين "الإبستيمي" (العلم النظري) و"التيكني" (الفن أو الصنعة). فبينما يهدف الأول إلى المعرفة من أجل ذاتها، فإنّ الثاني يُعنى بالفعل المؤدي إلى إنتاج شيء ما. غير أنّ هذا التمييز لا يحمل تحقيرًا للتقنية، بل هو تأسيس لنظام للمعرفة يُنزل كل شيء منزلته. فالحرفي، عند أرسطو، لا يقل شأنًا عن الفيلسوف، مادام كلاهما يُمارس نوعًا من "العقل العملي"، ومادام كلاهما يُنتج بناءً على مبادئ مُدركة. بهذا، تصبح التقنية نوعًا من "الفاعلية"، تعبر عن قدرة الإنسان على تحويل إمكانياته إلى وجود فعلي. وهي، من هذه الزاوية، قرينة للحرية الإنسانية. وفي هذا السياق، يتضح أنّ الفلسفة اليونانية لم تفصل العلم عن التقنية، ولا النظر عن العمل، بل كانت تعتبر كل ممارسة عقلانية تُنتج أثرًا في العالم فعلًا ذا قيمة. ومع ذلك، فقد وُجد لدى بعض الفلاسفة، خصوصًا الرواقيين، نوع من الحذر من الانغماس في المادي والتقني، خشية أن يُفسد ذلك توازن النفس ويُبعدها عن التأمل في الخير الأسمى. لكن هذا الموقف لا يُنكر التقنية، بل يُخضعها لمعيار أخلاقي، يدعو إلى ترويضها وربطها بالحكمة، لا بالاستهلاك. وهكذا، فإنّ الفكر اليوناني أسّس، من خلال منطقه الفلسفي، للتقنية والعلم بوصفهما امتدادين للعقل، لا مجرد أدوات. لم تكن التقنية وسيلة خارجية، بل تجلٍّ لماهية الإنسان ككائن عاقل، قادر على التغيير، على الفهم، على تحويل العالم من مجرد معطى إلى مشروع. ومع أن التقنيات آنذاك كانت بسيطة مقارنة بما نعرفه اليوم، فإنّ الأسس النظرية التي وضعتها الفلسفة الإغريقية لا تزال تشكل إلى الآن الخلفية المفهومية التي ينبني عليها كل تأمل في معنى التقنية وحدودها. فلا غرابة إذن أن يعود الفلاسفة المعاصرون دومًا إلى تلك اللحظة التأسيسية، ليبحثوا فيها عن إجابات لسؤال لا يفقد راهنيته: ماذا نصنع حين نُبدع؟ ومن نصبح حين نُتقن؟
ثانيًا: العلم والتقنية في الحضارة الإسلامية والقرون الوسطى حين ننظر إلى العلاقة بين العلم والتقنية في الحضارة الإسلامية والقرون الوسطى، لا يجوز أن نتعامل معها كصفحة ثانوية في تاريخ الفكر الإنساني، بل ينبغي أن نقرأها كمرحلة مفصلية أعادت ترتيب العلاقة بين الإنسان والعالم، بين العقل والوحي، بين التأمل والعمل. لقد مثّل الإسلام، منذ بواكيره، ثورة معرفية روحية، دعا فيها القرآن الكريم إلى النظر في خلق السماوات والأرض، وإلى إعمال العقل والتفكر والتدبر في الأنفس والآفاق. هذه الدعوة لم تكن مجرد وعظ ديني، بل كانت منطلقًا لتأسيس رؤية معرفية ترى في الكون كتابًا مفتوحًا يُقرأ، وفي الإنسان كائنًا مدعوًا لفهمه والعمل فيه. في هذا السياق، لم تكن التقنية مجرد وسيلة نافعة أو أداة إنتاج، بل كانت تجلّيًا لقدرة العقل الإنساني على تسخير العالم دون أن يدّعي امتلاكه. فالفكر الإسلامي، بخلفيته التوحيدية، يرى أنّ الإنسان مستخلف في الأرض، أي أنه ليس سيدًا مطلقًا، بل مسؤول أمام خالقه عن ما يصنع، وهو ما يضفي على التقنية بُعدًا أخلاقيًا، ويمنعها من الانفصال عن مقاصد أسمى. لقد قال ابن رشد إنّ “الصناعة إنما تتم بصحة تصور الأشياء”، وهو في ذلك لا يميز بين الفيلسوف والعالِم والصانع، بل يعتبر أن كل فعل عقلاني مبني على تصور دقيق هو فعل قريب من الفلسفة، بل هو داخل في الفلسفة ذاتها. ولعل ما ميّز الحضارة الإسلامية في هذه المرحلة أنها لم تفصل بين المعرفة النظرية والتقنية التطبيقية، بل اعتبرت أن العلم الحقّ هو ما يُثمر نفعًا، وأن التأمل لا يكتمل إلا بالفعل، كما عبر عن ذلك الغزالي حين بيّن أن العلم الذي لا يُثمر عملاً هو حجة على صاحبه لا له. ولهذا ازدهرت الصناعات، وازدهرت معها العلوم الدقيقة، من الطب إلى الفلك، ومن الكيمياء إلى الهندسة. وكان الفلاسفة والعلماء في الوقت نفسه متمكنين من الآلة والبرهان، من الفكرة والتطبيق. ابن الهيثم، في بحثه عن الضوء والبصر، لم يكتف بالنظر العقلي، بل اعتمد التجربة والتحقق والاختبار، حتى سبقت أعماله ما سيُعرف لاحقًا بالمنهج التجريبي الحديث. إنّ العلاقة بين العلم والتقنية في هذا السياق لم تكن عبثية أو نفعية بحتة، بل كانت قائمة على انسجام بين العقل والنقل، بين الفهم العملي للحياة وبين البحث عن الحقيقة. قال الفارابي إنّ “العلوم الإنسانية تبلغ كمالها حين تجمع بين النظر والعمل”، وهذا المبدأ هو ما حكم العلاقة بين الفلسفة والعلم والصنعة في القرون الوسطى الإسلامية. فالحكمة، كما عرفها الكندي، هي “العلم بالحقائق على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية”، وهي بهذا المعنى لا تُفصل عن التقنية، بل التقنية جزء منها، مادامت تكشف عن قدرة الإنسان على معرفة علل الأشياء وتسخيرها. لقد مثّلت بيوت الحكمة، ومراكز الترجمة، والمساجد التي تحولت إلى جامعات، فضاءات لنمو هذا الفكر المتكامل، حيث تُدرّس الفلسفة بجوار الطب، ويُقرأ أرسطو بجوار القرآن، ويُعلّم المنطق مع الهندسة، والفقه مع علم الحيل (الميكانيكا). كانت المدينة الإسلامية مدينة العالِم والمهندس، والطبيب والفقيه، وكانت التقنية جزءًا من الحياة اليومية، من الساعات المائية إلى المضخات والآلات الفلكية، دون أن يُنظر إليها كعدو للعقل أو تهديد للأخلاق. غير أن هذا الانسجام لم يكن دائمًا بلا توتر. فقد وُجد من خاف من انحراف العقل عن مساره الروحي، ومن جنوح التقنية نحو الهيمنة أو التباهي، وهو ما جعل بعض المفكرين، كالغزالي، ينبهون إلى خطر الانشغال بما لا يُثمر في الآخرة. لكن حتى هذا النقد لم يكن رفضًا للعلم أو التقنية، بل دعوة إلى إعادة ربطهما بالنية الأخلاقية والغاية الإنسانية. فالتقنية، إن لم تكن مسخرة لخدمة الإنسان في حدود الشريعة والعقل، قد تنقلب إلى عبء، بل إلى فتنة. في المقابل، جاءت آراء ابن رشد لتعيد التوازن، إذ دافع عن العقل والبرهان والتجريب، واعتبر أن لا تعارض بين الحكمة والشريعة، بل إنهما طريقان نحو الحق، ما دام العقل في خدمة الخير العام، وما دامت التقنية في خدمة الإنسان لا في استعباده. وقد قال في دفاعه عن الفلسفة: “إنّ الشريعة دعت إلى النظر بالعقل في الموجودات، وحثت على الاعتبار”. وهذه الدعوة، وإن بدت شرعية، فهي في جوهرها دعوة فلسفية للتفلسف العملي، أي لتحويل الفكر إلى فعل، والعلم إلى تقنية نافعة. وهكذا، حين نعيد قراءة علاقة العلم والتقنية في الحضارة الإسلامية، ندرك أننا أمام نموذج خاص، لا يُختزل في مجرد تراكم معارف أو اختراعات، بل هو بناء معرفي روحي متكامل، يجعل من العقل أداةً لفهم العالم لا للهيمنة عليه، ومن التقنية وسيلة للإعمار لا للتدمير. إنها لحظة فلسفية نادرة في التاريخ، استطاع فيها الإنسان أن يُمسك بخيط العقل دون أن يقطع صلته بالمطلق، وأن يبني مدنية التقنية دون أن يفقد إنسانيته. وهي دروس لا تزال، رغم تعاقب القرون، تستحق التأمل والتفعيل في زمن تغولت فيه التقنية وانكمش فيه المعنى
ثالثًا: العلم والتقنية في عصر النهضة والثورة العلمية. لقد مثّل عصر النهضة لحظة تحوّل عميقة في مسار الفكر الإنساني، لحظة انبعاث للذات من عصور طويلة من التبعية والخضوع للسلطات الدينية والفكرية التي حجّمت العقل، وقيّدته بقيود العقيدة واللاهوت. ففي قلب هذا العصر، وُلد تصور جديد للعلم، لا بوصفه مجرد تكرار لما قيل، بل كمغامرة عقلية وتجريبية تضع الطبيعة موضع سؤال، لا تأمل. ولم تعد التقنية مجرد مهارة تقليدية أو فن يدوي، بل أصبحت امتدادًا للقوة العقلية للإنسان، أداة لتغيير العالم وإعادة بنائه وفقًا لمفاهيم جديدة للزمان، والمكان، والطبيعة، والمعرفة. إنّ الفلسفة، في هذا التحول، لم تكن غائبة، بل كانت الموجه الخفي والعميق لهذه النهضة. فقد أعاد الإنسان اكتشاف ذاته، لا فقط ككائن مخلوق، بل ككائن خالق للمعرفة، خالق للمعنى، وصانع للتاريخ. لقد كان شعار بروتاغوراس "الإنسان مقياس كل شيء" يعود بروح جديدة، لكن عبر أدوات حديثة: المنهج، والرياضيات، والتجريب. وإذا كان ديكارت قد افتتح الفلسفة الحديثة بيقينه الشهير: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، فهو لم يكن يؤسس فقط لذات مفكرة، بل لذات تقنية أيضًا، قادرة على السيطرة على الطبيعة، عبر العلم المؤسس على الشك، والتجريب، والتحليل. لم يعد العالم كتابًا مقدسًا يُقرأ، بل أصبح موضوعًا يُفكك، يُقاس، يُحسب، ويُعاد تشكيله وفق قوانين رياضية. فغاليلو، الذي اعتبر أن كتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضيات، لم يكن يفصل بين الفلسفة والعلم، بل كان يعيد بناء الفلسفة ذاتها على أسس علمية صارمة. إنه الفيلسوف-العالم، الذي يرى في التجربة معيارًا للحقيقة، وفي الملاحظة الدقيقة سبيلًا للمعرفة. لقد انقلب التصور الكوسمولوجي للعالم، من تصور مركزي لاهوتي، إلى تصور لا مركزي مادي، حيث الشمس أصبحت في المركز، والأرض مجرد جرم بين كواكب أخرى، ما خلخل البنية اللاهوتية للمعرفة، وفتح الباب أمام تصور علمي تقني للكون، أساسه العقل والتجربة. في هذا السياق، لم تعد التقنية خادمة للعلم فحسب، بل أصبحت هي نفسها مولّدة للمعرفة، ومن ثم فلسفية في جوهرها. فاختراع المنظار الفلكي، والمجهر، والساعات الدقيقة، لم يكن مجرد تطوير أدوات، بل إعادة تشكيل للرؤية ذاتها، للرؤية التي يرى بها الإنسان العالم وذاته فيه. وقد تنبه بيكون إلى هذه القوة الجديدة للتقنية حين اعتبر أن “المعرفة قوة”، بمعنى أن من يعرف يستطيع أن يسيطر، أن يغيّر، أن يُنتج. لم يكن بيكون عقلانيًا فيلسوفًا فقط، بل كان نبيًّا لعصر جديد، يرى في العلم أداة لتحسين الحياة، وفي التقنية أداة لتحرير الإنسان من محدوديته. ولعل الثورة العلمية لم تكن لتكتمل لولا هذا التحالف العميق بين التفكير الفلسفي العقلاني، والتقنية باعتبارها أداة لتجسيد هذا الفكر في الواقع. لم تعد الطبيعة موضوع عبادة، بل أصبحت موضوع هيمنة، والإنسان لم يعد متلقيًا سلبيًا، بل صار فاعلًا، منتجًا، متدخلًا في سير الأشياء. وبهذا المعنى، فإن التقنية الحديثة لم تكن فقط طفرة صناعية، بل كانت تحولًا أنطولوجيًا في تصور الإنسان لذاته وللعالم. لقد عبّر ديكارت عن هذا التحول حين قال إنّ غاية العلم هي “أن نجعل أنفسنا أسيادًا ومالكين للطبيعة”، وهو قول شديد الكثافة والدلالة، يكشف عن رغبة السيطرة التي بدأت تسكن العقل العلمي، وتمنحه مشروعية فلسفية. لم يعد الإنسان في خدمة النظام الكوني، بل النظام الكوني صار في خدمة الإنسان، عبر أدوات رياضية وتقنية. وبذلك، أصبح الفكر الحديث فكرًا بنيويًا، منظوميًا، يربط بين العقل النظري والتقنية التطبيقية، بين التفكير والتصنيع. لكن هذا الصعود للعقل العلمي-التقني لم يكن بلا توتر. فقد بدأت تظهر أسئلة جديدة: هل السيطرة على الطبيعة تعني بالضرورة التحرر الإنساني؟ وهل التقنية، التي تبدو حيادية، ليست محملة بقيم معينة؟ وهل يكفي العقل العلمي لتوجيه الحياة، أم أن الفلسفة لا تزال ضرورية لترشيد هذا المسار؟ لقد كانت هذه التساؤلات إرهاصات لما سيأتي لاحقًا من نقد للتقنية في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكنها وُلدت هنا، في قلب النهضة، حين تحوّل الإنسان من كائن باحث عن الحقيقة إلى كائن صانع لها. هكذا، نرى أن العلاقة بين العلم والتقنية في عصر النهضة والثورة العلمية لم تكن علاقة عرضية، بل كانت لحظة توليد متبادلة، لحظة تشكل فيها مفهوم جديد للعقل، للعالم، وللذات. لقد نشأ عقل رياضي تقني، عقل يرى في العالم معادلة، وفي الإنسان فاعلًا عليها، لا متأملاً فيها فقط. وكان هذا التحول بداية لسلسلة من التحولات الكبرى، ستقود إلى الحداثة، ثم إلى ما بعد الحداثة، حيث تُطرح من جديد الأسئلة الكبرى: ما معنى أن نكون عقلانيين؟ وما حدود التقنية؟ وأين تقف إنسانيتنا أمام آلاتنا؟ لكن هذه الأسئلة، وإن كانت لاحقة، فإنها تجد جذورها العميقة في تلك اللحظة التأسيسية التي أعادت صياغة العلاقة بين العلم والتقنية، تحت أنوار الفلسفة الجديدة، وفي ظل زلازل فكرية لم تهدأ آثارها إلى اليوم.
رابعًا: الثورة الصناعية وتحوّلات الحداثة شكّلت الثورة الصناعية منعطفًا تاريخيًّا عميقًا في مسار البشرية، إذ لم تكن مجرّد تحوّل تقني في وسائل الإنتاج، بل لحظة أنطولوجية غيّرت نظرة الإنسان إلى ذاته والعالم والمجتمع. لقد كانت الحداثة، في جوهرها، مشروعًا عقليًّا ينشد التحرّر من قيود الطبيعة والسلطة والتقاليد، ولكن الثورة الصناعية منحت هذا المشروع قوة مادية غير مسبوقة، حيث التقت العقلانية الفلسفية بالفعالية التقنية، وتحوّلت الأفكار إلى آلات، والتصورات إلى مصانع، والمجتمع إلى منظومة إنتاجية صارمة. في هذا السياق، لم يعد العقل الفلسفي حبيس التأمل النظري، بل أصبح مرشدًا لواقع جديد، واقع تتحكم فيه قوانين السوق، والتخصص، والعمل المجزّأ، وآليات الإنتاج الضخم. ولم يعد الإنسان فقط كائنًا مفكرًا، بل أصبح فاعلًا تقنيًّا، يُقاس وجوده بمدى إنتاجيته. إنّ التقدّم، الذي كان يُفهم في الفلسفة القديمة كمفهوم أخلاقي أو ميتافيزيقي، صار يُقاس بالمكائن، بالقطارات، بالمصانع، وبعدد السلع المنتَجة في أقصر وقت ممكن. وهنا تكمن مفارقة الحداثة: لقد حرّرت الإنسان من الطبيعة، لكنها قيدته ضمن نظام جديد، أكثر صرامة وأكثر تجريدًا. وقد تنبّه الفلاسفة إلى هذا التحوّل الجذري، الذي بدا في ظاهره إنجازًا، لكنه حمل في أعماقه بذور اغتراب جديد. فكارل ماركس، الذي عاش قلب هذا التحول، رأى في الثورة الصناعية لحظة مزدوجة: من جهة، هيّأت الشروط لتحرير الإنسان من شظف العيش والعمل اليدوي القاسي، ومن جهة أخرى، جعلت من العامل مجرد أداة في آلة ضخمة لا يتحكم فيها. لقد تحدث ماركس عن الاغتراب، لا كحالة نفسية، بل كواقع مادي بنيوي، إذ صار العامل يُنتج شيئًا لا يملكه، ويعيش في نظام لا يفهم منطقه، ويُستعمل جسده كأداة لخلق قيمة لا يستفيد منها. لم تعد الطبيعة هي التي تستعبد الإنسان، بل النظام الصناعي الرأسمالي ذاته. وإذا كان ماركس قد أضاء هذا الجانب المادي-الاقتصادي من تحوّلات الحداثة، فإن ماكس فيبر قد تعمّق في أبعادها الثقافية والروحية. لقد رأى فيبر أن العقلانية الحديثة التي رافقت الثورة الصناعية هي عقلانية أداتية، تقوم على الكفاءة والحساب، لكنها في الوقت نفسه جردت العالم من سحره، وحوّلت الإنسان إلى ترس في آلة بيروقراطية عملاقة. بهذا المعنى، الحداثة ليست فقط تقدمًا، بل "قفصًا حديديًّا"، حيث تُقاس القيم بالنتائج، وتُقزَّم المعاني إلى معايير تقنية. وفي ظل هذا التصور، بدأت تتآكل مفاهيم أساسية كانت تُعدّ من بديهيات الوجود الإنساني: الحرية لم تعد حالة روحية، بل قدرة على الاستهلاك؛ السعادة لم تعد غاية في ذاتها، بل صارت تُقاس بعدد السلع المملوكة؛ والعقل لم يعد مرشدًا أخلاقيًّا، بل أداة للنجاعة التقنية. وهنا تتقاطع الفلسفة مع النقد، إذ يصبح واجب الفكر أن يكشف لا فقط عن البُنى الظاهرة، بل عن التوترات العميقة التي تنخر صلب الحداثة ذاتها. لقد رأى أدورنو وهوركهايمر، في مشروع التنوير نفسه، بذور التسلط، إذ أن العقل الذي حرّر الإنسان من الخرافة، هو نفسه الذي حوّله إلى كائن مُسخّر، مبرمج، خاضع لنظام إنتاجي يستثمر كل شيء، حتى الثقافة، في سبيل الربح. لم تعد التقنية مجرد وسيلة، بل أصبحت غاية، تفرض منطقها على الجميع. وهكذا، فإن الثورة الصناعية لم تكن فقط تقدمًا، بل انقلابًا أنطولوجيًّا في معنى الحياة، في علاقة الإنسان بالطبيعة، وفي رؤيته لذاته. ولعلّ الفيلسوف مارتن هايدغر كان من أعمق من فكر في هذا التحول حين رأى في التقنية الحديثة نوعًا من "الاستدعاء القسري" للطبيعة، حيث لم تعد الأشياء تُكشف كما هي، بل تُستخرج، تُختزن، وتُستعمل. لقد صار العالم "مخزنًا" يُستنزف، والإنسان ذاته صار جزءًا من هذه الشبكة، حيث كل شيء خاضع للحساب، بلا أفق تأملي، بلا مسافة للمعنى. إنّ ما بدأ كثورة صناعية تحرّرية، انتهى إلى منظومة مهيمنة تعيد تشكيل الإنسان وفق مقاييسها. وفي قلب هذه المنظومة، تتداخل التقنية مع الاقتصاد، والعقل مع السيطرة، والمعرفة مع الهيمنة. ولذلك، فإن التفكير الفلسفي في الثورة الصناعية لا يجب أن يقتصر على تمجيد المنجزات، بل عليه أن يتساءل: ما الذي خسرناه في هذا المسار؟ ما معنى أن نعيش في عالم يُنتج كل شيء، لكنه يستهلك المعنى ذاته؟ وكيف يمكن للإنسان أن يستعيد إنسانيته وسط هذا الطوفان التقني-الصناعي؟ إن الفلسفة لا تملك أجوبة جاهزة، لكنها تملك القدرة على طرح الأسئلة التي تزعج، تُقلق، وتفتح أفقًا للفهم. وفي هذا المعنى، يبقى التفكير في الثورة الصناعية تفكيرًا في ذواتنا، في مآلاتنا، وفي العالم الذي نُعيد بناؤه كل يوم، دون أن نعرف تمامًا ما إذا كان هذا البناء يرقينا، أم يبتلعنا بهدوء.
خامسًا: العلم والتقنية في القرن الحادي والعشرين لم يكن القرن الحادي والعشرون مجرد امتداد زمني لسابقه، بل مثّل قطيعة إبستيمولوجية ومفصلًا أنطولوجيًّا في مسار علاقة الإنسان بالعلم والتقنية. لقد أصبح التقدّم العلمي والتقني لا يُقاس فحسب بما يُنتَج من آلات واختراعات، بل بما يُعاد بناؤه من تصوّرات حول الذات والكون والمعرفة والحقيقة. لم يعد العلم مجرد وسيلة لفهم الطبيعة أو السيطرة عليها، بل صار لغة جديدة تُصاغ بها شروط الوجود، وصار التقنية هي التجلي الأقصى للعقل الأداتي الذي تنبّأ به ماكس فيبر، وتحوّل فيه العقل من أداة للتأمل في القيم إلى وسيلة للضبط والفعالية والتكميم. وفي هذا السياق، يغدو من الصعب التمييز بين ما هو علمي وما هو تقني، بين الفهم والإنتاج، بين السؤال والإجابة. إنّ اختفاء هذه الحدود لا يُعدّ مجرد تطورٍ معرفي، بل يعكس تحوّلًا في نمط الوجود ذاته. فكما أشار هيدغر، التقنية الحديثة لا تكتفي بإنتاج أدوات، بل تُنتج نمطًا من النظر إلى العالم، حيث تُستخرج الأشياء وتُستعمل وتُخزَّن وتُسخَّر، بما في ذلك الإنسان ذاته، الذي لم يعد مركزًا للكون، بل عنصرا ضمن شبكة ضخمة من البيانات والمعالجة والأداء. لقد أصبح العلم في هذا العصر مرتبطًا بشكل عضوي بالتقنية، إلى درجة أنه لا يمكن تصوّر معرفة علمية لا تنبني على جهاز تقني. كل نظرية فيزيائية أو طبية أو بيولوجية اليوم، تُبنى على سلسلة معقدة من التجارب الحاسوبية، والمحاكاة، ومعالجة البيانات، واستعمال أدوات لا يمكن للعقل المجرد وحده أن يُنتجها. وهكذا، صار العلم ذاته تقنية، وصارت التقنية علمًا مجسّدًا، حتى بتنا أمام واقع جديد تتداخل فيه الأنطولوجيا بالبرمجة، والفكر بالتصميم، والمعرفة بالتحكم. لكن هذا الالتحام لم يُنتج فقط إمكانات خارقة، بل فرض إشكاليات فلسفية عميقة. ماذا يعني أن تُستبدل العلاقة بالعالم بمصفوفة من البيانات؟ هل ما يُنتج في مختبر الذكاء الاصطناعي هو معرفة، أم مجرد محاكاة للمعرفة؟ وهل يمكن للآلة أن تُفكّر؟ وهل الذكاء الاصطناعي هو مجرّد امتداد لعقل الإنسان، أم لحظة تفلّت منه؟ إنّ هذه الأسئلة لم تعد من قبيل الترف التأملي، بل صارت ضرورية لفهم طبيعة الكائن التقني الجديد الذي يفرض منطقه على الاقتصاد والسياسة والتربية والأخلاق. لقد عبّر بول فيريليو عن قلق عميق تجاه هذا التسارع التقني، فرأى أن كل تطور تكنولوجي يُنتج في لحظة ولادته كوارثه الممكنة: فاختراع السيارة يُنتج معها حادث السير، والطائرة تولّد سقوطها المحتمل، والذكاء الاصطناعي يحمل بداخله خطر فقدان السيطرة. التقنية، بهذا المعنى، لا تتقدم فقط إلى الأمام، بل تولّد آثارًا جانبية تتجاوز قدرة الإنسان على التنبؤ، وتجعله في حالة سباق دائم مع ما يخلقه، وكأنّه يسعى لاحتواء نتائج لا يفهمها بعد. وقد نبّه هابرماس إلى أنّ هذا التقدّم التقني يُهدّد الفضاء العمومي، ويُغيّب إمكانية التواصل العقلاني لصالح منطق الأداء والنجاعة والهيمنة الرمزية. إنّ الأنساق التقنية تُغلق إمكانات النقاش، لأنها لا تقوم على القيم بل على البرمجة، ولا تقبل التأويل بل تُنتج أجوبة جاهزة. بهذا، لم تعد الديمقراطية مشروعًا نقاشيًّا، بل إدارة تقنية للمجتمع، تقيس القرارات بناءً على معايير الفعالية، لا العدالة أو الخير أو الصواب. وفي الوقت نفسه، يجد الإنسان المعاصر نفسه غارقًا في عالم متخم بالمعرفة، لكنه يفتقر إلى المعنى. إن التقدّم العلمي المذهل في علم الوراثة، والفيزياء الكوانتية، والهندسة الوراثية، والذكاء الاصطناعي، لم يُعِد له الاطمئنان، بل عمّق قلقه. فكلما اقترب من "إعادة خلق العالم"، أحس أنه يفقد السيطرة عليه. لقد صار كائنًا هشًّا في مواجهة آلات تُفكّر، وأنظمة تحكم السوق، وخوارزميات تُحدّد أذواقه وسلوكاته وتوجهاته. وهنا تظهر ضرورة الفلسفة. لا كمعرفة مضادة، بل كصوت مقاوم يوقظ الأسئلة داخل هذا الصخب التقني. فالفلسفة لا ترفض العلم، لكنها تُطالب بمساءلته؛ لا ترفض التقنية، لكنها تفضح ادّعاءها بالحياد. إنّ مهمة الفيلسوف اليوم ليست فقط أن يفكّك الأنظمة الرمزية الجديدة، بل أن يبحث عن سبل جديدة لفهم الإنسان وقدره وسط هذه المصفوفة الضخمة من الذكاء والتشفير والتّكميم. هل ما نعيشه هو ذروة التقدم؟ أم بداية انحدار؟ هل تُحرّرنا التقنية؟ أم تُنتج عبوديات ناعمة لا نعيها؟ هل المعرفة التي نُنتجها تجعلنا نقترب من الحقيقة، أم تغمرنا في محيط من البيانات غير القابلة للتأويل؟ هذه الأسئلة تُلزم الفكر الفلسفي بأن يتجاوز السرديات التبجيلية، ويتأمل في المصير الذي تُرسم ملامحه داخل مختبرات لا تصدر عنها نظريات، بل تصدر عنها عوالم كاملة. هكذا، يُغدو العلم في القرن الحادي والعشرين فضاءً معقدًا لا يمكن فصله عن التقنية، ولا عن الاقتصاد، ولا عن السياسة. ويغدو التفكير الفلسفي فيه ضرورة لا رفاهًا، شرطًا لفهم إنسان فقد مركزه القديم، ويبحث في هذا التشظي عن مخرج، عن معنى، عن أفق لا تبرمجه آلة، ولا تختزله خوارزمية.
سادسًا: إشكاليات معاصرة لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن العلم والتقنية بوصفهما مجرّد أدوات حيادية في خدمة الإنسان، بل باتا يشكّلان فضاءً تتخلّق فيه إشكاليات فلسفية عميقة تمسّ معنى الوجود، وحدود الحرية، وصورة الإنسان عن نفسه. فالتقدّم العلمي المتسارع، بما يرافقه من ثورات تكنولوجية غير مسبوقة، لم يأتِ دون كلفة معرفية وأخلاقية وأنطولوجية باهظة، بل دفع بالفكر المعاصر إلى مراجعة كثير من مسلماته حول العقل، والسلطة، والحقيقة، بل وحتى حول الإنسان نفسه باعتباره كائنًا مفكّرًا وحرًّا ومتميّزًا عن سائر الكائنات. إنّ إحدى أبرز الإشكاليات المعاصرة التي تطرحها التقنية، هي تلك المتعلقة بحدود السيطرة والتحكّم. لقد افترض الإنسان، منذ بداية العصر الحديث، أنّ العلم هو طريقه إلى الهيمنة على الطبيعة، وأنّ التقنية ليست سوى تجلٍّ لهذه الهيمنة في شكل أدوات وآلات. غير أنّ ما نعيشه اليوم يشي بانقلاب في الأدوار: لم يعد الإنسان وحده من يتحكّم في التقنية، بل صارت التقنية تتحكم في الإنسان، في قراراته، في رغباته، في أنماط تفكيره وسلوكه، بل وحتى في نظرته إلى ذاته. لقد أصبحت التقنية كيانًا ذاتي الفعل، يتكاثر ويتطوّر بسرعة تسبق قدرة الإنسان على الفهم أو التقييم، وكأننا نعيش ما سماه بول فيريليو بـ"تسارع التسارع"، حيث لم يعد هناك وقتٌ كافٍ للتفكير في ما نُنتجه، بل فقط اللهاث وراء آخر ما أُنتج. وتزداد هذه الإشكالية حدّة حين يتعلق الأمر بالتطورات في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الوراثية والروبوتات البيولوجية. فنحن أمام تقنيات قادرة على اتخاذ قرارات، وتعلُّم ذاتي، وتعديل الخوارزميات التي تُسيّرها دون تدخل بشري مباشر. من هنا، يطرح سؤال المسؤولية نفسه بقوة: من يُحاسب على أفعال تقنية تتجاوز الفهم البشري؟ هل يمكن أن نُحمّل الآلة مسؤولية أخلاقية؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يُخطئ؟ وإذا أخطأ، فهل نُحاسب المبرمج؟ أم النظام؟ أم خوارزمية لا نعرف كيف تعمل تمامًا؟ هذه التساؤلات تقودنا إلى المعضلة الأخلاقية الكبرى التي أشار إليها هانس يوناس، حين دعا إلى تأسيس "أخلاق للمستقبل" تأخذ بعين الاعتبار الآثار غير المتوقعة لتقنيات اليوم على أجيال الغد. ولا تقف الإشكاليات عند حدود الأخلاق والسيطرة، بل تتعدّاها إلى البنية المعرفية ذاتها. فالعلم المعاصر، وقد أُعيد تشكيله داخل فضاء التقنية، لم يعد يمارس عمله وفق منطق الحقيقة، بل وفق منطق الفعالية والنجاعة. لم يعد الغرض من المعرفة هو الفهم المجرّد، بل الاستخدام، التطبيق، التحكم، والإنتاج. وكما نبّه هابرماس، فإنّ هذا التحوّل من العقل التواصلي إلى العقل الأداتي يؤدي إلى إفراغ الفعل البشري من معناه، لأنّ ما يُحرّكه لم يعد القيم أو المبادئ، بل الحسابات والتوقعات والتصاميم. وهكذا، يُعاد تشكيل العالم بوصفه "موردًا" لا كيانًا حواريًّا، وتُعاد صياغة الإنسان بوصفه "عاملًا" داخل شبكة إنتاج لا كموجود حرّ يملك مشروعًا وجوديًّا. وفي صميم هذه الإشكالات، يكمن سؤال المعنى: ما الذي يعنيه أن نكون بشرًا في عصر الذكاء الاصطناعي؟ ما الذي يتبقى من إنسانيتنا إذا كانت الآلة تكتب وتُفكّر وتُقرّر وتبتكر؟ هل يمكن الحديث عن "إرادة حرة" في عالم تُوجّه فيه الخوارزميات اختياراتنا في السياسة والاستهلاك والتعليم؟ أليس هذا ما حذّر منه فوكو، حين بيّن كيف تُمارس السلطة عبر أنساق معرفية دقيقة تخترق الجسد والعقل؟ فاليوم، لم تعد السلطة تُمارَس فقط عبر الدولة أو القانون، بل عبر التقنية التي تبدو حيادية لكنها تحمل نمطًا من الهيمنة الرمزية الخفية. أمام هذا الوضع، لا يمكن الاكتفاء بالنقد أو بالتحسر على زمن مضى. بل يُصبح ضروريا البحث عن إمكانات للمقاومة والمعنى داخل هذا العالم التقني ذاته. فربّما لا تكون الحلول في الانفصال عن التقنية، بل في إعادة توجيهها، وفي جعلها موضوعًا للتفكير الفلسفي لا أداة خارجة عن السؤال. إنّ مهمة الفلسفة، كما قال هيدغر، ليست أن تصنع تقنيات جديدة، بل أن تُعيد الإنصات إلى الوجود، أن تسائل التقنية لا بوصفها أداة، بل بوصفها طريقة في الكشف، في إظهار الكائن، في فهم ما يعنيه أن يوجد شيء ما بدلاً من لا شيء. من هنا، تبرز الحاجة إلى ما يمكن تسميته "عقلانية نقدية مزدوجة"؛ عقلانية تعرف حدودها، وتسائل أسسها، وتُعيد طرح السؤال عن المعنى في قلب التقدم. وهذا ما دعا إليه أدرنو، حين رأى أنّ نقد العقل الأداتي يجب أن يتأسّس على استعادة الحس الجمالي والبعد التأملي في الفهم الإنساني. أي أننا في حاجة إلى تربية ذوقية، لا تُقصي العلم، لكنها تُذكّره بأن لا كمال في النجاعة، وأنّ للإنسان أبعادًا لا تختزلها البيانات، ولا تفهمها الخوارزميات. هكذا، فإنّ الإشكاليات التي تُثيرها التقنية والعلم اليوم، ليست منفصلة عن عمق التجربة الإنسانية، بل هي امتداد لتوترات الإنسان مع ذاته: رغبته في السيطرة تقابَل دومًا بقلقه من الفقد، تطلّعه إلى المستقبل يُقابَل بحنينه إلى المعنى، قدرته على الفهم تُقابَل بعجزه عن التقدير الأخلاقي. وهي إشكاليات لا يمكن حلّها بتقنية جديدة، بل بتفكير جديد، يُنصت إلى الأسئلة الكبرى التي ما زالت تُلحّ، رغم كل التقدّم، وتُذكّرنا بأنّ الفلسفة تظلّ وحدها قادرة على أن تمنح للعلم روحه، وللتقنية ضميرها، وللإنسان كرامته في عالم يُعيد تشكيله باستمرار. خاتمة إن تاريخ العلم والتقنية ليس فقط قصة تقدم معرفي، بل هو أيضًا قصة صراع فكري وأخلاقي وفلسفي. لقد ساهم هذا التداخل في بناء حضارتنا الحديثة، لكنه في الوقت نفسه أثار قضايا وجودية تضعنا أمام مسؤولية إعادة التفكير في معنى العلم، وحدود التقنية، ودور الإنسان في عالم يُعاد تشكيله باستمرار.
#أحمد_زكرد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدرسة فرانكفورت: الأثر النقدي من النشأة إلى الامتداد المعاصر
-
القضية الفلسطينية: مرآة الجرح الإنساني وصراع القوى الكونية
-
فلسفة نيتشه عن المرأة
-
أزمة القيم والتربية في عصر الإعلام الرقمي
-
اليوم العالمي للمرأة: تأمل فلسفي في مسار النضال والعدالة وال
...
-
الطبيعة والثقافة في ضوء فيلم LEnfant Sauvage: رحلة الإنسان م
...
-
إشكالية الحب عبر التاريخ
-
الريح التي حملت الأمل: قراءة في فيلم The Boy Who Harnessed t
...
-
تأملات في مسيرة الإنسان وتحديات المستقبل من خلال كتاب العاقل
...
-
إشكالية الرغبة والسعادة في عالم متغير: من خلال فيلم -Nomadla
...
-
الأتمتة وسؤال الإنسان
-
الريد بيل Red pill: فلسفة جديدة لفهم العلاقات بين الجنسين وت
...
-
نظرة بانورامية حول تاريخ الفلسفة منذ الاغريق الى الآن
-
اشكالية الرغبة: جدلية النقص والإشباع في تشكيل الذات
-
إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس
-
Lillusion et la vérité
-
مستقبل سوريا في ظل الصراع الدولي
-
الفلسفة المعاصرة: جدلية الإنسان بين انهيار اليقين والبحث عن
...
-
إشكالية الهوية و الوجود الرقمي: بين الأصالة والاغتراب
-
بين الظلم التاريخي وإعادة الاعتبار: إشكالية قراءة أفكار السف
...
المزيد.....
-
CNN من منزل الرسام الروسي تحصل على أول لمحة عن لوحة ترامب ال
...
-
بعد وفاة البابا: الإرث وملامح المستقبل
-
قضية التآمر على أمن الدولة في تونس: تصفية سياسية أم محاكمة ع
...
-
ترامب يقوم بجولة شرق أوسطية تشمل السعودية وقطر والإمارات من
...
-
-حماس- تدعو الأردن إلى الإفراج عن موقوفي -خلية الصواريخ-.. و
...
-
بدل السمك.. أعداد كبيرة من الأفاعي السامة تعلق في شباك صياد
...
-
-وفا-: حركة -فتح- دعت -حماس- إلى التوقف عن اللعب بمصير الشعب
...
-
وزراء الكابينيت يناقشون توسيع الحرب على غزة وتحديد مهلة نهائ
...
-
لماذا يؤجل الرجال الذهاب للأطباء حتى تتفاقم الأعراض؟
-
صورة ترامب تتسبب بإقالة قائدة عسكرية أميركية
المزيد.....
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
المزيد.....
|