منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 22:15
المحور:
الادب والفن
ربّما وُلدنا، مزكين وأنا، في نفس اليوم، لا بل في نفس الساعة.
مشينا، أيضاً، أولى خطواتنا في نفس اليوم. خرجنا، مُتعثرين مُتهاويين بين الخطوة والخطوة مُتجاوزين باب الزقاق إلى الرصيف، وحينما التقينا تعانقنا كي لا نسقط.
والداتنا كانتا تُراقباننا مُبتسمات.
وهكذا ارتبطنا في سنوات الطفولة الأولى. مارسنا لعبنا دون لغة مفهومة، وحينما نطقنا كلماتنا الأولى شعرنا أنّها لغتنا المُشتركة ورباطنا.
صدف، في تلك السنوات، أننا لعبنا مع أطفال الحي أحياناً، لكننا كنّا نعود إلى ذلك الخيط المُشترك، الخيط الذي ربطنا بحب.
هي ذهبت إلى مدرسة الوئام للبنات، وأنا إلى مدرسة المنصور للأولاد. حينها بُنيت جدران وهمية فصلتنا.
كانت نحيلة مُتناسقة، لها شعر بلون الكتّان الخام، وعيناها بُنيّتان صفراوتان. أعتقد أنني عشقت لون عينيها حينذاك.
صارت مزكين تلعب «الخَطّة» مع الفتيات في ساعات العصر، وكنّ مازلن مرتديات فساتين المدرسة السوداء بياقاتها البيضاء مثل قساوسة صغار، بعد أن كنّ يرسمن مربعات على الرصيف بطباشير مُلوّنة مسروقة من المدرسة، على عكسنا، نحن الصبيان، حيث تخلّصنا بسرعة من صدارينا البيج التي كانت تشبه فساتين النساء، ولعبنا المفضل كان «الغمّيضة».
لم يبعدني اللعب مع الأولاد عن التفكير بها أو التلصّص عليها من بعيد.
حاولتْ إهمالي، بيدما حال إلتقاء نظراتنا، بصدفة ما، دون أن نبتعد عن بعض أكثر من أبواب الجيرة التي تشاركنا بها.
مضت سنتان، وصارت طلّاتها على الرصيف نادرة. كنتُ انتظرها وأنا ألعب مع الصبية الآخرين.
كنتُ أحبّها على ما أعتقد. لا يمكن أن يكون إلّا الحب.
ربّما كانت في الحادية عشر، لا يسعني التأكد، حينما نبت لها ثديان صغيران على نحو مُفاجئ. ثديان بحجم كلّتين زجاجيتين. بينما انتابتني رغبة غامضة برؤية هذا السرّ العجيب.
لم أعد أنظر إلى عينيها كثيراً، بل داومت على مُراقبة صدرها من خلال زيّها المدرسي. كان ينمو قليلاً في كل مرّة رأيتها وهي تحمل حقيبتها المدرسية.
فجأة، وقبل أن تبدأ العطلة الصيفية للصفّ الخامس، اختفت مزكين، من الشارع، من تقاطع الطرق. من وإلى المدرسة. سمعت همسات من والدتي وهي تتحدّث إلى بقية النسوة. «يا حرام».
«ماذا جرى لمزكين؟». سألت والدتي. «لا شيء، هي مريضة قليلاً»، قالت والدتي باقتضاب وبسرعة لتتخلّص من تتمة الحوار.
لمرّات قليلة، لاحظنا طيف مزكين، وهي تصعد أو تنزل من الحنطور بمساعدة والديها. صوت وقع حدوة الحصان النادر على أسفلت الشارع كان يدفع بنا جميعاً، صغار وكبار الحي، إلى الرصيف، لنتابعها وكأنها تلعب دوراً في شريط سينمائي.
حلّت العطلة الصيفية، وصعد آباؤنا إلى أسطح المنازل، لنصب الأسرّة الخشبية الثقيلة، وقامت أمهاتنا بتركيب سور مسقوف من شبكات البعوض حولها.
مشهد أسطح حيّنا كان مثل غابة مُغطاة بالثلج.
كنّا نسمع همسات الجيران، ونشرات أخبار إذاعة صوت العرب المصرية من أجهزة الترانزيستر من ماركة شارب، أحياناً كنّا نلتقط بعض التأوهات الآتية من حديثي الزواج. كنّا نبتسم ونتدغدغ دون أن نفهم الأمر تماماً.
أمّا من سطح مزكين، فقد ازداد صوت أنين موجع جعلنا نتصلّب في فراشنا، مُتمنين أن تنعم بالنوم دون آلام.
في الأيّام التالية، التقطنا تفاصيل اخرى عن مرضها. سرطان.
على الفور، تصّورت سرطاناً وهو يكمش بمخلبيه القويين صدر مزكين مُحاولاً إلتهام نهديها.
«سرطان عظام». جاءت تفاصيل اخرى. وهنا لم تستوعب مخيلتي صوراً اخرى.
كنتُ مُتيماً بها، ولم أتمنى شيئاً في حياتي الصغيرة تلك أكثر من أن تشفى بسرعة، وتتخلّص من ذاك السرطان القبيح، كي أراها ترتدي فستانها الأسود بياقته في طريقها من وإلى المدرسة.
لم تعد الحناطير تقلّ مزكين أو توصلها إلى بيتها، بل صار الدكتور رفيق أبو السعود هو الذي يأتي كل يومين في سيارته الشيفرولية البيضاء ذات الخطين الأزرقين كسيّارات الفورمولا، حاملاً حقيبته الطبيّة.
أيضاً هنا اعتاد سكّان الحيّ الخروج من فيء بيوتهم الطينية للمراقبة وتبادل الآراء.
في الليالي المشعّة بأنوار النجوم المتذبذبة ارتفع أنين مزكين، ومعه كنت أشعر بتمزّق روحي.
في صباح باكر مازال يحمل شيئاً من الرطوبة كاسفنجة، طفر قلبي في مكانه، حين جاءنا صوت نحيب مكتوم مُغطيّاً على أصوات الحي الذي كان يتمطّط لدحر نعاس الليل.
«ماتت المسكينة». «انتهت آلامها». «انها تسكن الجنّة الآن». وعلى هذا المنوال تبادلت النسوة الأحاديث وبعضهن مازلن يُنشّفن شعورهن المُبلّلة بحمّام الجنابة.
ومن الجامع نقلت مُضخّمات الصوت النبأ إلى بقية الأحياء، تخلّلتها آيات الفاتحة وكل نفس ذائقة الموت متلوّة بصوت عبد الباسط عبد الصمد.
قبل أن تبلغ الظهيرة وينصهر أسفلت الشارع، تجمّع غفر من الناس حول بيت مزكين. سمعت أصوات «الله أكبر»، بينما ازداد عدد الجيران الممتلئين بالحزن الذين اصطفّوا على الرصيفين المُتقابلين، ثمّ خرج أربعة رجال، أحدهم والد مزكين، يحملون نقّالة عليها كومة رقيقة ملفوفة بشرشف أبيض، وخلفهم والدتها ونسوة اخريات مُرتجفات عيونهن مُحمّرات وعلى وجوههنّ تعابير مذعورة. كانوا في طريقهم إلى الجامع لغسلها وتكفينها والصلاة عليها.
بعد عدّة خطوات، كانوا على وشك أن يجتازوا بيتنا، حين، وعلى نحو مُفاجئ، لم يجد أحد له تفسيراً، هبّت نسمة نادرة، بل أقسم البعض أنّها كانت النسمة الوحيدة في ذاك الصيف، أطارت بالشرشف، سمعنا أصوات همهمة مرتبكة، وأسرعت نساء الحي بلفّه بعناية فائقة على الجثّة.
في تلك الثواني القليلة، رأينا جميعاً، ما تبقى من جسد مزكين. عظام مكسّوة بجلد باهت مُصفّر، شعر عانة بنيّ يُشبه زغب عصفور دوري صغير، لكن ثدياها كانا مُكتملين، وكأنّهما صارعتا السرطان كي لا يتمكن من الوصول إليهما.
هي التي أمرت بتلك النسمة لأنها شاءت أن تكشف لي عن سرّها، ووجدت نفسي أشكرها بصمت.
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟