أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - اللّينينيّة بين ضرورة التجديد وتحديات الطائفية: دروس من التجربة العراقية















المزيد.....

اللّينينيّة بين ضرورة التجديد وتحديات الطائفية: دروس من التجربة العراقية


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8321 - 2025 / 4 / 23 - 01:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الجزء الأول: من الصراع الطبقي إلى أزمات الهوية

مقدمة

تُعدّ اللينينية من أبرز صيغ الماركسية الثورية، التي بلورها فلاديمير لينين في سياق الإمبراطورية الروسية مطلع القرن العشرين، وقدّمت أدوات تحليل ثاقبة لفهم السلطة والطبقة والدولة. لكن حين تنتقل هذه النظرية إلى فضاءات اجتماعية وتاريخية مختلفة، فإنها تواجه تحديات تستدعي إعادة التفكير في أدواتها وتحليلاتها.
في العراق، وخاصة بعد عام 2003، برز تحدٍّ لم يكن جزءًا من التجربة السوفييتية الأصلية: الطائفية السياسية كآلية هيمنة. هذا التحدي لم يكن هامشيًا، بل أعاد تشكيل الدولة والمجتمع، وفرض على الخطاب الماركسي—اللينيني خصوصًا، سؤالًا عميقًا حول صلاحيته وجدواه ما لم يُعاد تجديده جذريًا.



أولًا: اللينينية كفكر طبقي

يؤكد لينين في كتابه ما العمل؟ أن وعي الطبقة العاملة لا ينشأ بشكل تلقائي، بل يُبنى من خلال حزب طليعي قادر على نقل الوعي الاشتراكي للجماهير¹. وقد ركّز على التناقض بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره التناقض المركزي في المجتمع الرأسمالي. بالنسبة له، كانت القومية والدين مظاهر ثانوية يمكن أن تُحلّ في سياق النضال الطبقي.

غير أن هذا التحليل لم يكن مهيأ للتعامل مع مجتمعات، مثل العراق، لم تتبلور فيها طبقة عاملة متجانسة ومسيّسة بالشكل الذي افترضته الماركسية الكلاسيكية. فعلى مدى القرن العشرين، بقيت البنى العشائرية والدينية والطائفية والإثنية، وحتى المناطقية، تلعب أدوارًا مركزية في تشكيل وعي الأفراد وتحديد مواقعهم داخل المجتمع.

ويلاحظ الباحث هاشم صالح أن «النقل الحرفي للتجربة اللينينية إلى السياق العربي أدى إلى إهمال العناصر الثقافية والاجتماعية التي تشكل وعي الجماهير»². وهذا ما جعل الكثير من الحركات اليسارية، رغم إخلاصها للفكر الثوري، تبدو مغتربة عن الواقع الذي تدّعي تمثيله.



ثانيًا: ما بعد 2003 – صعود الطائفية وانحسار الوعي الطبقي

شكّل الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 لحظة تأسيسية لنظام سياسي جديد، مبنيّ على المحاصصة الطائفية. فالدولة لم تُعد تُبنى على قاعدة المواطنة أو الكفاءة أو الانتماء الطبقي، بل على أساس الانتماء المذهبي والإثني. تحولت الطائفة إلى وحدة تنظيمية للسلطة، لا مجرد هوية دينية³.

هذا التحول انعكس مباشرة على وعي الجماهير. فالعامل أو الفلاح، الذي كان يُفترض أن يُعرّف نفسه كجزء من طبقة مضطهدة، أصبح يعرّف نفسه كشيعي أو سنّي أو كردي. وهكذا، لم تعد الانقسامات في المجتمع العراقي تعكس البنية الاقتصادية فقط، بل أصبحت معبرة عن بنية سلطوية هوياتية.

هذا ما يفسر الفجوة المتزايدة بين الخطاب اليساري التقليدي، القائم على مفاهيم العدالة الطبقية، وبين المزاج الشعبي الذي بات مشغولًا بالهوية والانتماء المذهبي. وكما يشير حيدر سعيد، «فإن الطائفية السياسية ليست مجرد خطاب، بل هي نمط من أنماط إنتاج السلطة والثروة، ولذلك فهي متجذرة في بنية الدولة العراقية المعاصرة»⁴.



ثالثًا: مأزق الحزب الشيوعي العراقي

وجد الحزب الشيوعي العراقي نفسه في قلب هذا التحول. فبعد أن كان يتمسك بتحليل طبقي تقليدي، أصبح مضطرًا للتفاعل مع بيئة مشبعة بالخطاب الطائفي. وقد حاول في أكثر من محطة الحفاظ على خطاب وطني عابر للطوائف، لا سيما خلال انتفاضة تشرين 2019، حيث وقف إلى جانب شباب الاحتجاجات في مواجهة بنية السلطة⁵.

لكن المعضلة ظلّت قائمة: كيف يمكن لحزب ثوري أن يظل متمسكًا بتحليل طبقي، بينما البيئة التي يتحرك فيها تعيد إنتاج نفسها على أساس طائفي؟ وهل يمكن أصلاً الحديث عن وحدة طبقية حين تكون الهويات الطائفية أقوى من المصالح الاقتصادية المشتركة؟

هذه الأسئلة لا تعني التخلي عن التحليل الطبقي، بل تعني توسيعه، وتطويره، وجعله قادرًا على فهم كيف يُستخدم الانقسام الطائفي كوسيلة لتعطيل أي مشروع تحرري جذري.



خاتمة الجزء الأول

إن التجربة العراقية تضعنا أمام سؤال مركزي: هل ما زالت اللينينية قادرة على تفسير الواقع، أم أنها تحتاج إلى مراجعة وتحديث؟
المطلوب ليس التراجع عن مبادئ الصراع الطبقي، بل بناء تحليل جدلي يُدرك أن الطائفية ليست مجرد انحراف عن الوعي الطبقي، بل نتيجة تواطؤ بين رأس المال والهوية لخلق نظام هيمنة معقّد. ومن دون هذا الإدراك، فإن أي مشروع يساري سيظل حبيس الشعارات، بعيدًا عن القدرة الفعلية على التأثير.



الهوامش:
1. فلاديمير لينين، ما العمل؟، ترجمة دار التقدم، موسكو، 1970.
2. هاشم صالح، العقل الإسلامي: نقد وتحليل، بيروت: دار الساقي، 2005.
3. ياسين الحاج صالح، «الطائفية كأداة هيمنة»، مجلة الدراسات الاشتراكية، العدد 12، 2017.
4. حيدر سعيد، الطائفية السياسية في العراق: تشكّلها وآلياتها وأثرها في بناء الدولة، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015.
5. هشام الهاشمي، «الحراك الشعبي العراقي: انتفاضة تشرين»، المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، 2020.
——————————————-

الجزء الثاني: من تفتيت الوعي الطبقي إلى صعود الوعي الطائفي

مدخل: الانزياح في الوعي

في العقود الماضية، تغيّرت طريقة تعريف الناس لهويتهم الاجتماعية في العراق. لم يعد العامل أو الفلاح يُعرّف نفسه كعضو في طبقة مستغَلة، بل كعضو في طائفة أو قومية. هذا التحول ليس محض تراجع نظري في التحليل الطبقي، بل نتيجة لمسار طويل من التحولات البنيوية التي أصابت الدولة والمجتمع. وهي تحوّلات أنتجت انكسارًا في الوعي الطبقي، وصعودًا لوعي طائفي، يعيد تعريف المصالح والولاءات وفق خطوط الهويات الجزئية لا المصالح المشتركة.



أولًا: انهيار البنية الطبقية المنظمة مقابل صعود الهويات الطائفية

خلال العقود الذهبية للحركة اليسارية في العراق (الخمسينيات إلى السبعينيات)، كانت للطبقة العاملة والفلاحين تنظيمات تعبّر عن مصالحهم: نقابات، اتحادات مهنية، أطر حزبية واسعة. هذه البنى لعبت دورًا حاسمًا في إنتاج وعي طبقي واضح، ساعد على التعبئة السياسية والاجتماعية⁶.

لكن هذا المشهد بدأ بالتفكك في ظل السياسات الاستبدادية، والحروب المدمرة، والحصار الاقتصادي في التسعينيات، وصولًا إلى الغزو الأميركي عام 2003. تفكّكت المصانع، خُصخصت الشركات العامة، وتحولت مساحات العمل الجماعي إلى أنقاض. وانهارت معها البنية التنظيمية التي كانت تنتج وتغذّي الوعي الطبقي.

في هذا الفراغ، برزت الطائفة كهوية جاهزة. فالطائفية، بخلاف الطبقة، لا تحتاج إلى بنى إنتاجية لتخلق ذاتها. بل تستند إلى سرديات دينية وتاريخية وشعور متجذر بالخطر أو الغبن. وهكذا أصبحت الطائفة تقدم للفرد شعورًا بالانتماء والحماية، في وقت كانت فيه الدولة تتفكك ومؤسساتها تنهار⁷.



ثانيًا: الطائفية كأداة هيمنة طبقية مقنّعة

بعد 2003، صعدت نخبة سياسية استخدمت الطائفية ليس فقط كخطاب، بل كنظام توزيع للسلطة والموارد. وُزّعت المناصب الحكومية على أساس المحاصصة، وتحوّل كل شيء: من التوظيف إلى المنح إلى الحماية الأمنية، إلى حصص طائفية. وكما يصف حيدر سعيد، فإن هذا النموذج “لا ينتج الطائفية كخطاب فقط، بل كآلية عمل مؤسسي داخل الدولة”⁸.

في هذا السياق، يصبح من الطبيعي أن يُطلب من المواطن أن يمر عبر بوابة طائفته للحصول على حقوقه. ومع الوقت، تتحول الطائفة إلى “الضامن الاجتماعي”، وتُقصى الطبقة من قاموس التحليل السياسي والاجتماعي. ما يحصل هنا هو خداع مزدوج: إذ يتم تغليف الانقسام الطبقي بغلاف طائفي، بحيث يُخفى الفقر والبطالة تحت شعارات الدفاع عن الهوية.

وهنا تبرز ضرورة التفكيك: الطائفية ليست فقط انتماءً دينيًا، بل هي بنية هيمنة تستخدم الرموز الدينية لتبرير الفوارق الطبقية، كما أن الطائفية لا تلغي الاستغلال، بل تعيد تنظيمه في قوالب هووية تخلق وهم المساواة داخل كل طائفة، بينما تُكرّس امتيازات أقلية حاكمة على حساب الأكثرية المهمّشة.



ثالثًا: قصور اليسار في مواجهة الواقع الجديد

واجه اليسار العراقي، وعلى رأسه الحزب الشيوعي، صعوبات هائلة في التكيف مع الواقع الجديد. فرغم محاولاته التأكيد على الطابع الوطني للصراع، ظلت أدبياته غالبًا حبيسة لغة طبقية جامدة، لا تُمسك بتعقيدات التجربة الطائفية. وحتى، محاولات تجنب الخوض في التحليل الطبقي وقصر الحديث عن المدني والمدنية وهي مفاهيم ليبرالية وبل ليبرالية جديدة للهيمنة الإمبريالية وتمزيق الشعوب. ومن الممكن الإشارة لتعريفٍ قدمه عضو في المكتب السياسي للحزب: " الحزب مؤسسة يسارية ديمقراطية عامة" وهذا التعريف على نقيض الفهم الماركسي اللينيني للحزب كونه "حركة ثورية". هنا يكمن جوهر الاغتراب الطبقي الذي نلمسه.

لم يُطوّر اليسار أدواته لفهم كيف تتسلل الطائفية إلى الحياة اليومية. لم يطرح بجدية أسئلة مثل:
• كيف يشعر العامل الشيعي الذي يرى أن طائفته “مستهدفة” من مكونات أخرى؟
• كيف يُدرك الفلاح السني التهميش الذي لحق بمنطقته؟
• كيف تُترجم العدالة الاجتماعية في مجتمع تُدار فيه الدولة كمزرعة طائفية مقسّمة؟

غياب هذه الأسئلة جعل الخطاب اليساري يبدو نظريًا، منفصلًا عن الحاجات الفعلية للناس. وهذا ما أضعف شعبيته، رغم أن معاناة الناس بقيت، في جوهرها، معاناة طبقية ملفوفة بغلاف طائفي.



رابعًا: نحو استعادة الوعي الطبقي - من التوصيف إلى الاستراتيجية

هل هناك طريق للخروج؟ نعم، لكن ليس من خلال الحنين إلى مرحلة مضت، ولا بالتحسر على الجماهير “التي لا تفهم مصالحها الطبقية”، بل من خلال بناء سياسة واقعية، تبدأ من الواقع كما هو لا كما نتمنى.

الخطوات الأساسية تشمل:
• إعادة بناء التنظيمات القاعدية: لا أحزاب فوقية فقط، بل لجان أحياء، تنسيقيات عمل، فضاءات تربط الناس بمصالحهم اليومية.
• تفكيك الطائفية لا إنكارها: لا بد أن يشرح الخطاب اليساري كيف تُستخدم الطائفية لإدامة الفقر، لا مجرد إدانتها أخلاقيًا.
• الربط بين النضال الطبقي والمطالب الحياتية: الكهرباء، الماء، السكن، الصحة، العمل… هذه ليست قضايا خدمية فقط، بل مداخل لصراع سياسي طبقي واضح.

هذه المقاربة لا تستبعد الهوية، بل تضعها في مكانها الصحيح: كجزء من الواقع، لا كقيد عليه.



الوعي الطائفي ليس قدرًا أبديًا، بل نتاج شروط تاريخية يمكن فهمها ومواجهتها. واليسار، إذا أراد استعادة دوره، عليه أن ينزل من برجه النظري، ويعيد بناء نفسه من جديد، على قاعدة فهم الواقع لا اختزاله. فاللينينية لا تعني التمسك الصارم بنصوص قديمة، بل القدرة على إعادة تأويل الصراع ضمن ظروف جديدة. وفي العراق اليوم، الشرط الأساسي لهذا التأويل هو الفهم العميق للطائفية، لا كهوية، بل كأداة للهيمنة يجب كسرها.



الهوامش:
6. حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1992.
7. فالح عبد الجبار، العمامة والأفندي: سوسيولوجيا السلطة الدينية في العراق، بيروت: دار الجمل، 2002.
8. حيدر سعيد، الطائفية السياسية في العراق، مرجع سابق.
———————————————————————

الجزء الثالث: تجديد اليسار وتحدي إنتاج وعي طبقي جديد

مدخل: الأزمة ليست مادية فقط، بل نظرية

اليسار العراقي، شأنه شأن العديد من التيارات اليسارية في المنطقة، لا يعاني فقط من تراجع قاعدته الاجتماعية أو ضعف موارده التنظيمية. بل إن أزمته الأعمق تكمن في عطالة أدواته النظرية، وفي عجزه عن إنتاج قراءة جديدة للواقع العراقي المتغير. الطائفية لم تكن موجودة فقط كواقع اجتماعي أو سياسي، بل أصبحت بنية شاملة تعيد تشكيل وعي الناس، وتضع تحديًا معرفيًا أمام كل مشروع تغييري.

إن ما يواجهه اليسار اليوم ليس مجرد خصم سياسي، بل بيئة ذهنية كاملة تُعيد تعريف الانتماء والمصلحة والخطر، من خلال عدسة الطائفة لا الطبقة. هنا يتبيّن أن الماركسية الكلاسيكية “رغم قوتها التحليلية” لم تُطوّر بما يكفي لمجابهة هذا الشكل من الهيمنة المركّبة.



أولًا: حدود النظرية ومكان الحاجة إلى تطوير اللينينية

لينين في زمانه، خاصة في كتاباته حول المسألة القومية، شدد على حق الشعوب في تقرير مصيرها كجزء من إستراتيجية شاملة لتحرير الطبقة العاملة داخل الإمبراطورية الروسية. لكنه لم يواجه واقعًا مثل العراق، حيث تنقسم الهوية ليس على أساس قومي واضح، بل على أساس طائفي، مبهم في تعريفه الطبقي، لكنه حاد في تأثيره السياسي والاجتماعي¹.

في العراق، الطائفة ليست “طبقة”، ولا “أمة”، لكنها تُمارَس في الواقع كما لو كانت كلتيهما. يُنظَر إلى الشيعي كعضو في “أمة مهددة”، والسني كممثل لـ”مظلومية تاريخية”، والكردي كـ”قومية مضطهدة”. هذا التضخيم للهويات يُقابَل غالبًا من اليسار بإهمال أو تجاهل، ما يترك الساحة مفتوحة لقوى الطائفية لتأطير وعي الناس دون مقاومة فكرية جدية.

الحل ليس في إنكار الهوية، بل في تحليلها: كيف تُنتج الطائفية؟ من يخدمها؟ كيف تُستخدم لتغطية الصراع الطبقي لا إلغائه؟ كما كتب إرنست ماندل: “الصراع الطبقي لا يُلغى بوجود انقسامات أخرى، لكنه يُشوَّه إذا لم نفهم كيف تُستخدم هذه الانقسامات”².



ثانيًا: الوعي الطبقي الجديد: مشروط، مركّب، ومتعدّد الأبعاد

ما نحتاجه اليوم ليس مجرد إحياء وعي طبقي قديم، بل إنتاج وعي طبقي مركّب، يعترف بأن التجربة الاجتماعية لا تمر فقط من بوابة العمل أو الإنتاج، بل من موقع الشخص داخل شبكة هويات معقدة: طائفة، منطقة، جنس، لغة، تاريخ عنف.

مثال ذلك: العامل الشيعي في البصرة لا يواجه فقط الاستغلال الاقتصادي، بل يعيش في ظل نظام يُخبره أن هويته توفر له حماية أو امتيازًا، حتى لو كان يعيش في فقر مدقع. والفلاح السني في الأنبار قد يُنظر إليه كمشتبه به دائمًا، رغم أنه ضحية سياسة تهميش ممنهجة. والعامل الكردي، وإن كان ينتمي لحزب قومي، قد لا يملك أدنى حقوق التمثيل إذا لم يكن قريبًا من نخبة السلطة³.

هذا التعقيد لا يمكن مواجهته بشعار “يا عمّال العالم اتحدوا” فقط. بل بحاجة إلى لغة جديدة، تحلل الواقع كما هو، وتعيد صياغة الصراع الطبقي بوصفه صراعًا ضد نظام يستخدم الطائفية كغطاء.



ثالثًا: المهام الجديدة لليسار العراقي

إذا أراد اليسار أن يعود كقوة فاعلة في العراق، فعليه القيام بتحول استراتيجي شامل، يشمل عدة مسارات:
1. الربط بين الاقتصاد والسياسة والطائفة: لا يجوز تحليل الاقتصاد دون السياسة، ولا السياسة دون الطائفية. هذه العناصر تشكّل معًا شبكة السلطة الفعلية في العراق اليوم.
2. العمل مع الاحتجاجات غير المؤطرة: انتفاضات مثل تشرين أثبتت أن وعيًا طبقيًا فطريًا لا يزال موجودًا. من المهم ألا ينظر اليسار إليها بشك أو باستعلاء تنظيمي، بل أن ينخرط فيها ويتعلم منها.
3. تطوير خطاب جديد: لا يتحدث فقط عن “البرجوازية” بل عن “الطغمة الحاكمة”، “الوسطاء الطائفيين”، “المستفيدين من النظام”، مع إبقاء التحليل الطبقي في القلب.
4. بناء تحالفات من القاعدة لا من القمة: بين فقراء السنة والشيعة، بين العاطلين في الجنوب والمهجّرين في الغرب، بين العمّال في كردستان والناشطين في بغداد. هذا لا يتم عبر شعارات وحدة وطنية، بل عبر نضال مشترك على الأرض.



رابعًا: مؤشرات على فرصة تاريخية

رغم قتامة المشهد، هناك إشارات على إمكانية استعادة زمام المبادرة. انتفاضة تشرين 2019 كانت لحظة فارقة. فالشباب الذين خرجوا ضد النظام، رفعوا شعارات تتجاوز الطائفة، وطالبوا بالكرامة والعدالة الاجتماعية. لم تكن لديهم أجندة أيديولوجية محددة، لكن غضبهم كان تعبيرًا خامًا عن وعي طبقي لم يُصغ بعد.

في تشرين، كانت مفردات الشارع: “نريد وطن”، “الشعب يريد إسقاط النظام”، “نريد كهرباء وماء وفرص عمل”. هذه المطالب ليست مجرد خدمات، بل تعبير عن شعور عميق بالإقصاء من الثروة والسلطة⁴. إنها لحظة كان يجب على اليسار أن يحتضنها، لا أن يراقبها من بعيد.



خاتمة: من أزمة إلى أفق

اليسار العراقي أمام لحظة تاريخية: إما أن يُجدد نفسه من الداخل، ويطوّر أدواته لفهم الصراع المعقّد بين الطبقة والطائفة، أو يبقى محصورًا في تاريخه، يتحدث لغة لم تعد تُقنع أحدًا.

اللينينية التي نحتاجها ليست نسخة جامدة من نصوص القرن العشرين، بل فكرًا حيًا، قادرًا على قراءة الرأسمالية الجديدة، التي لا تهيمن فقط بالمال والسلاح، بل بالهويات، والخوف، والانقسام. ومعركتنا، كيسار، هي استعادة الطبقة العاملة من داخل هذه الفوضى، وبناء مشروع تحرري يعيد تعريف الانتماء، لا على أساس الدم أو الطائفة، بل على أساس المصلحة المشتركة والمصير الجماعي.



الهوامش:
1. فلاديمير لينين، حق الأمم في تقرير مصيرها، 1914.
2. Ernest Mandel, Marxist Economic Theory, London: Merlin Press, 1962.
3. فالح عبد الجبار، الهوية والمواطنة في العراق المعاصر، بيروت: دار المدى، 2012.
4. مركز البيان للدراسات والتخطيط، “تقرير حول دوافع احتجاجات تشرين”، بغداد، 2020



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العصبيات والعداء لايران من منظور ماركسي - القسم الاول
- العصبيات والعداء لايران من منظور ماركسي - القسم الثاني
- مختصر لسيناريوهات واستشراف لمستقبل العراق:
- تفكيك الطائفية كمنظومة للهيمنة: نحو تحليل ماركسي بديل
- نقد ذاتي للخطاب اليساري في العراق: الحزب الشيوعي العراقي نمو ...
- نقد ذاتي للخطاب اليساري في العراق: الحزب الشيوعي العراقي نمو ...
- مَلَكَةُ الجَمَالْ: ثَلاثِيَّةُ الوَرْدَةِ التي لا تَذْبُلُ
- نبوءة - في السياسة
- اللينينية بين ضرورة التجديد وتحديات الطائفية: دراسة مقارنة ب ...
- رد على تساؤلات وتعليقات -ملهم الملائكة- - حول مقالتي: - العر ...
- رد على تعليق الدكتور لبيب سلطان حول مقالة: “العراق ليس دولة ...
- العصبيات والطائفية في العراق – تفكيك الأعداء وصناعة الصراع ا ...
- دفاعاً عن اللينينية في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي: تحل ...
- دفاعاً عن اللينينية في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي: تحل ...
- العراق ليس دولة فاشلة، بل دولة مُفشَّلة عمداً.. والشعب وحده ...
- -العراق ليس دولة فاشلة، بل دولة مُفشَّلة عمداً.. والشعب وحده ...
- دفاعاً عن اللينينية في ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي العراقي: تحل ...
- يَا حِزْبَ الْكادِحِينْ
- معلقة الرفيق فهد
- رثاءٌ في ظِلّ الشُّهُود


المزيد.....




- يتقدمهم كريستيانو رونالدو.. مبلغ مالي قد يصدمك مقابل كل دعاي ...
- استحداث منصب نائب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية
- العالقون في حميميم: عائلات سورية علوية تخشى أن يتم التخلي عن ...
- من هو الكاردينال إردو أبرز الأسماء المتداولة لخلافة البابا ف ...
- -رويترز-: أوروبا تعارض في المحادثات مع الأمريكيين الاعتراف ب ...
- بعدما استدعته الخارجية.. السفير الإيراني في لبنان يعتذر عن ا ...
- لأول مرة.. تداول مشاهد جديدة لاغتيال السادات بالصوت والصورة ...
- أسير أوكراني يدمر طائرة مسيرة كانت تستهدفه مع جندي روسي
- تحليل إسرائيلي حول سر توجه الجيش المصري نحو روسيا والصين
- محمد صلاح يتدخل لإنقاذ قريته من أزمة


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - اللّينينيّة بين ضرورة التجديد وتحديات الطائفية: دروس من التجربة العراقية