أحمد الجوهري
مهندس مدني *مهندس تصميم انشائي* ماركسي-تشومسكي|اشتراكي تحرري
(Ahmed El Gohary)
الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 10:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
المقدمة
في تاريخ الحركات السياسية والاجتماعية في العالم العربي، نادرًا ما استحوذت شخصية على ذلك القدر من الهالة الأسطورية كما فعل جمال عبد الناصر. فهو في الوعي الشعبي العربي، كما في كتابات عدد من المفكرين اليساريين، رمز "التحرر القومي" و"الاشتراكية العربية" و"الوقوف في وجه الإمبريالية". إلا أن القراءة الاشتراكية التحررية، القائمة على التحليل المادي الجدلي، لا يمكنها أن تقف عند هذه السطحيات أو أن تنخدع بمظهر الخطاب دون تحليل الجوهر الطبقي والبنية الفعلية للسلطة والعلاقات الإنتاجية.
تطرح هذه الدراسة إشكالية جوهرية: هل كان جمال عبد الناصر يسارياً حقيقياً؟ وهل يمكن اعتبار التجربة الناصرية تجربة اشتراكية بأي معنى تحرري؟ نحن نزعم، بالاستناد إلى منظور اشتراكي تحرري، أن الإجابة القاطعة هي: لا. ليس فقط لأن عبد الناصر لم يُخضع جهاز الدولة للطبقات المنتجة، أو ينقل وسائل الإنتاج إلى سيطرة ذاتية شعبية فعلية، بل لأن مشروعه كان منذ البدء قائماً على بنية سلطوية بيروقراطية تعيد إنتاج الهرمية الطبقية، وتحجب سلطة الجماهير تحت شعارات قومية واشتراكية زائفة.
فالاشتراكية الحقيقية، من منظور تحرري، لا تعني تأميمًا شكليًا ولا تخطيطًا مركزيًا من أعلى، بل تعني تفكيك علاقات السيطرة، وتمكين المجتمعات من تنظيم نفسها ذاتيًا من خلال المجالس القاعدية والنقابات الحرة والتسيير الذاتي. ليست الاشتراكية أن تملك الدولة المصانع، بل أن تتحرر الطبقة العاملة من الدولة ومن الرأسمال معًا.
المقال يستند إلى كتابين محوريين في تفكيك الأسطورة الناصرية:
• عبد الناصر واليسار المصري للدكتور زكريا فؤاد، الذي قدم رؤية نقدية صارمة للتجربة الناصرية، كاشفًا عن التناقض بين الشعارات والممارسة، وعن تواطؤ اليسار السلطوي مع مشروع هيمنة الدولة.
• ونداء الشعب: تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية للمؤرخ شريف يونس، الذي حلل الناصرية بوصفها خطابًا سلطويًا يزعم تمثيل الأمة بينما يقمع تنوعها الطبقي والاجتماعي.
سنسعى في هذا المقال إلى فضح البنية السلطوية لهذا المشروع، الذي تقنّع بوجه يساري ليعيد إنتاج السيطرة الطبقية في ثوب جديد. وسنوضح أن جميع التجارب التي سارت على درب المركزية الستالينية، من موسكو إلى القاهرة، لم تكن اشتراكية، بل نماذج بيروقراطية قمعية لرأسمالية الدولة. وما يُسمى بـ"اليسار الناصري" هو امتداد لهذا اليسار السلطوي الزائف، الذي خان مبدأ التحرر لحساب الدولة.
.
طبيعة السلطة الناصرية – الدولة فوق المجتمع
إذا أردنا تفكيك الأسطورة الناصرية عبر أدوات التحليل المادي الجدلي، فإن نقطة البداية المنطقية ليست الشعارات التي أطلقها النظام، بل البنية الطبقية التي ارتكزت عليها السلطة. ومن هذا المنظور، تظهر الناصرية لا كحركة تحررية تقودها الطبقات الكادحة، بل كإعادة إنتاج سلطوية لرأسمالية الدولة، يقودها تحالف بيروقراطي عسكري فوقيّ تمركز داخل جهاز الدولة، واحتكر السياسة والاقتصاد والإعلام، مستخدمًا خطابًا يساريًا شكليًا لإضفاء شرعية على احتكاره للسلطة.
الدولة كبديل عن الشعب
في التجربة الناصرية، لم تكن الدولة أداة في يد طبقة مهيمنة، كما هو الحال في الأنظمة الرأسمالية الكلاسيكية، بل كانت الدولة نفسها هي الطبقة. فالبيروقراطية العسكرية، ومن خلفها الأجهزة الأمنية والإدارية، لم تعمل على تمكين الجماهير من السيطرة على الإنتاج أو المشاركة في القرار السياسي، بل صادرت المجال العام تمامًا. هذا ما يعبر عنه شريف يونس بوضوح حين يفكك خطاب عبد الناصر بوصفه "نداءً شعبويًا" يمثل صوت الأمة المجردة، لا صوت الطبقة العاملة أو الفلاحين أو أي طبقة اجتماعية محددة. الأمة تُعرّف بوصفها كيانًا واحدًا، لا صراع طبقي فيه، ويمثلها الزعيم بوصفه الناطق باسمها، لا بوصفه ممثلًا لمصالح طبقية مادية.
هنا تكمن الخطورة الإيديولوجية. فحين تُختزل الأمة في الزعيم، وتُلغى التناقضات الطبقية لصالح الوحدة الوطنية، يصبح كل من ينتقد النظام متهمًا بالخيانة أو بتقسيم الصف الوطني، ويُقمع النقد بوصفه "تهديدًا للاستقرار". لقد حل الزعيم محل الطبقة، والدولة محل المجتمع، واحتُكر الفعل السياسي من أعلى دون أي مشاركة شعبية حقيقية.
الاشتراكية من فوق
يمثل خطاب "الاشتراكية العربية" أحد أبرز ملامح هذا التناقض بين الشكل والمضمون. فقد تبنت الناصرية خطابًا اشتراكيًا في ظاهر الأمر: التأميم، الإصلاح الزراعي، مجانية التعليم... إلخ. لكن هل كانت هذه الإجراءات تعبيرًا عن انتقال حقيقي للسلطة والثروة إلى يد الشعب؟ الإجابة الحاسمة هي لا.
كما يبين د. زكريا فؤاد، فإن التأميم الذي مارسه نظام عبد الناصر لم يكن تحويلًا لملكية وسائل الإنتاج إلى المنتجين أنفسهم، بل إلى الدولة. والدولة هنا ليست أداة محايدة، بل جهازًا بيروقراطيًا مركزيًا يحتكر القرار الاقتصادي، دون أي رقابة شعبية، ودون أن ينعكس ذلك فعليًا على توزيع الثروة أو السلطة. أصبحت الدولة تملك المصانع، لكن العامل بقي مجرد منفذ للأوامر، لا شريكًا في الإدارة أو التخطيط.
هنا نعود إلى جوهر التحليل الماركسي: من يملك؟ من يقرر؟ من يستفيد؟ فإذا كانت الطبقة العاملة لا تملك، ولا تقرر، ولا تستفيد من الفائض الاقتصادي، فما الفرق بين أن يملك رأس المال فرد أو تملكه الدولة ما دام العامل مستغلًا في الحالتين؟ هذا ما يسميه ماركس بـالاغتراب المزدوج: العامل مغترب عن إنتاجه، وعن قراره، وعن مصيره.
البنية السلطوية – احتكار القرار
تُظهر التجربة الناصرية نمطًا متسقًا من احتكار القرار السياسي والاقتصادي، حيث تُتخذ السياسات في دوائر ضيقة مغلقة، وتُفرض من أعلى إلى أسفل، مع تسويقها على أنها تجسيد "لإرادة الشعب". لكن أين هو الشعب في هذه المعادلة؟ لم يكن هناك مجالس قاعدية منتخبة، ولا نقابات مستقلة، ولا أي شكل من أشكال التنظيم الذاتي الذي يسمح للجماهير بالتخطيط لمصيرها أو مساءلة من يملكون القرار.
بل على العكس، كانت كل مؤسسات الدولة خاضعة لمنطق السيطرة والمراقبة، واستخدمت الأجهزة الأمنية لإحكام القبضة على المجتمع، وقمع أي تعبير مستقل أو نشاط ذاتي خارج سلطة الدولة. لقد تم احتكار السياسة، وتفريغ المجال العام، وتحويل التنظيم من أداة تحرر إلى أداة إخضاع.
وهذا يتنافى جوهريًا مع أي تصور تحرري للاشتراكية، والتي لا تقوم فقط على تغيير شكل الملكية، بل على تفكيك علاقات السيطرة وتمكين المنتجين من إدارة حياتهم ومجتمعاتهم بأنفسهم. الاشتراكية ليست استبدال رأس المال الفردي برأس المال البيروقراطي، بل تجاوز الرأسمالية بجميع أشكالها، وخلق فضاء سياسي واقتصادي قاعدي، أفقي، تعددي، تتحقق فيه الحرية والمسؤولية الجماعية في آنٍ معًا.
.
الشعب كأداة دعائية
من المدهش أن الخطاب الناصري كان يستخدم لفظ "الشعب" بكثرة، في حين كان الشعب فعليًا غائبًا عن أي دور في اتخاذ القرار. كان "الشعب" يُستدعى في المهرجانات، وفي الصحف، وفي التصويتات المُعلبة، لكن لم يكن له تمثيل حقيقي، ولا وسيلة للاعتراض. فحتى النقابات والاتحادات الطلابية والفلاحية جُرّدت من استقلالها، وتحولت إلى أدوات للدولة لا أدوات للجماهير.
في هذه الصورة، يتحول الشعب من ذات تاريخية فاعلة إلى موضوع سلبي للاستنهاض والتعبئة، ما يعني أن الاشتراكية الناصرية كانت اشتراكية خطابية، لا اشتراكية بنيوية. وقد أدت هذه البنية إلى ما سماه شريف يونس "تأليه الزعيم"، حيث يصبح عبد الناصر ليس ممثلًا للطبقة بل متجاوزًا لكل الطبقات، ناطقًا باسم "المصلحة العليا" التي لا يعلمها سواه.
رأسمالية الدولة لا اشتراكية – من يملك الإنتاج فعلاً؟
لا يمكن الحديث عن تجربة اشتراكية حقيقية دون الإجابة الصريحة عن سؤال جوهري: من يملك وسائل الإنتاج؟. فجوهر الاشتراكية، كما صاغه كارل ماركس، لا يقوم على مجرد تحويل صفة الملكية من فردية إلى حكومية، بل على نقل السيطرة الفعلية على الإنتاج من الطبقات المالكة إلى الطبقات المنتجة. لكن في التجربة الناصرية، كانت الملكية تُنقل من يد الرأسمالي الخاص إلى الدولة، دون أن تنتقل إلى يد الطبقة العاملة، ودون أن يرافق ذلك أي نمط من التسيير الذاتي أو الرقابة الشعبية.
التأميم بوصفه خدعة بيروقراطية
لقد كان التأميم، كما يعرض د. زكريا فؤاد، الأداة المثلى لتحويل النظام من رأسمالية ليبرالية إلى رأسمالية دولة، حيث لم يعد الرأسمالي التقليدي هو من يحتكر الثروة، بل البيروقراطي العسكري. ولئن حملت القرارات طابعًا "اشتراكيًا" في ظاهرها، فإن جوهرها لم يكن سوى إعادة تنظيم للرأسمالية بما يخدم جهاز الدولة لا المجتمع.
ولا يصح هنا أن نخدع أنفسنا بمقارنات سطحية مع تجارب مثل الاتحاد السوفيتي أو الصين أو كوبا، فهذه الأنظمة لم تكن اشتراكية يومًا، بل كانت هي الأخرى أشكالًا مبكرة من رأسمالية الدولة البيروقراطية، حيث حلّت الطبقة الحزبية محل البرجوازية التقليدية، واحتُكرت الثروة والقرار تحت شعارات اشتراكية زائفة.
فمثلما لم تكن موسكو اشتراكية، لم تكن القاهرة كذلك. كلاهما مارس التأميم كوسيلة للهيمنة لا للتحرر، وكلاهما حكم باسم الطبقة العاملة دون أن يمنحها أي سيطرة فعلية على أدوات الإنتاج أو القرار السياسي. والنتيجة واحدة: نظام بيروقراطي سلطوي يتغذى على فائض عمل الجماهير ويُعيد توزيعه لخدمة جهاز الدولة لا مصالح الكادحين.
غياب الرقابة الشعبية
التحليل المادي الجدلي لا يعترف بالنيات الطيبة، بل بالبنى والمؤسسات. والدولة الناصرية، رغم حديثها المتكرر عن "الاشتراكية"، لم تخلق أي مؤسسات جماهيرية حقيقية تشارك في اتخاذ القرار أو في توزيع الإنتاج. لم تكن هناك مجالس عمالية، ولا لجان إنتاج، ولا ديمقراطية داخل المصانع أو الريف. بل إن النقابات ذاتها كانت تابعة للأجهزة الأمنية، وكانت مهمتها ضبط العمال لا تمثيلهم.
والأسوأ من ذلك، أن العمال لم يحققوا تحسنًا حقيقيًا في شروط عملهم أو في أجورهم أو في بيئاتهم الإنتاجية. وكما يوضح د. زكريا فؤاد، فإن سياسة الدولة كانت تقوم على توزيع رمزي لبعض الامتيازات، لكنها لم تمس جوهر التفاوت الطبقي، ولم تمنح العمال أي سيطرة فعلية على المصانع التي قيل إنهم أصبحوا "يملكونها".
من يملك يقرر – والبيروقراطية هي المالك
حين ننظر إلى البنية الطبقية للمجتمع المصري في الستينيات، نجد أن الطبقة الحاكمة لم تكن قد اختفت، بل تغير شكلها. فقد حلت طبقة من كبار الضباط ومديري المؤسسات العامة محل الرأسماليين القدامى، وتمركز القرار الاقتصادي في يد فئة ضيقة لا تخضع لأي مساءلة. وقد حدث هذا في الوقت الذي كانت فيه أجهزة الدولة تحاصر كل أشكال العمل السياسي والتنظيم الشعبي.
هذا الشكل من أشكال التنظيم الاقتصادي لا يمكن تسميته اشتراكية. إنه رأسمالية دولة بامتياز، حيث تكون الدولة هي المالك القانوني لوسائل الإنتاج، لكن لا وجود لأي علاقة ديمقراطية أو شعبية في تحديد كيفية استخدام تلك الموارد. وكما في النظام الرأسمالي، فإن فائض القيمة الذي يُنتج داخل المصانع لا يعود إلى العمال، بل يُعاد توزيعه عبر بيروقراطية تسعى لتعظيم سلطتها، لا لتحقيق العدالة.
التجربة الناصرية نموذجاً للدولة البونابرتية
يُعيدنا هذا كله إلى تحليل ماركس الشهير في "الثامن عشر من برومير"، حيث يصف الدولة البونابرتية بأنها جهاز فوق المجتمع، يتحدث باسمه لكنه يحتقره في الواقع. فكما استند بونابرت إلى الطبقات المختلفة لفرض حكم استبدادي تحت غطاء الشرعية الثورية، كذلك فعل عبد الناصر، الذي خاطب العمال والفلاحين، لكنه أبقاهم خارج مراكز القرار.
وبينما وُظف الخطاب الاشتراكي لتمرير سياسات الدولة، كانت البنية الطبقية للنظام تتعزز يومًا بعد يوم. فقد ظهرت طبقة وسطى بيروقراطية جديدة، وتمركزت الثروة في يد الدولة، بينما ظل الفلاحون والعمال في مواقع التبعية. وهذه الطبقة الجديدة لم تكن مجرد أداة، بل أصبحت هي نفسها طبقة مستغِلة تمارس الاستبداد باسم الشعب.
الاشتراكية الحقيقية ليست ما حدث
إن الاشتراكية، كما صاغها ماركس وإنجلز، لا تعني أن تملك الدولة كل شيء، بل أن تُلغى الملكية كعلاقة قهر، وأن يُعاد تنظيم الاقتصاد على أسس ديمقراطية إنتاجية لا سلطوية. من يملك وسائل الإنتاج يملك القرار، ومن يملك القرار يرسم ملامح المستقبل. أما حين تملك الدولة باسم الشعب، دون أن يملك الشعب أي سلطة حقيقية، فنحن أمام كذبة اشتراكية تخفي استغلالًا رأسماليًا باسم الأمة.
قمع الإنسان لا تحريره – غياب البعد الإنساني للاشتراكية
في جوهر الاشتراكية كما تصورها ماركس، ليست المسألة اقتصادية فحسب، بل تحررية بالكامل. الاشتراكية ليست فقط بنية لإنتاج الخبز، بل نمط اجتماعي وثقافي يهدف إلى تحرير الإنسان من كل أشكال القهر، المادي والمعنوي. لكن حين تنحرف التجربة، كما في الحالة الناصرية، عن هذا الجوهر، فإنها تتحول إلى نقيضها: نظام يزعم أنه اشتراكي لكنه يسحق الإنسان في واقعه.
الاشتراكية تبدأ بحرية الإنسان لا بإلغاءه
إذا كان جوهر الاشتراكية هو أن الإنسان يصبح فاعلًا حرًا في مصيره، منتجًا واعيًا، ومشاركًا في القرار السياسي والاجتماعي، فإن ما حدث في التجربة الناصرية كان العكس تمامًا. فقد أُلغيت السياسة، وصُودرت الحريات، وتحول الفعل الجماعي إلى "هتاف جماعي" تحت مراقبة الأجهزة الأمنية. لم يكن العامل أو الفلاح مواطنًا فاعلًا، بل "جندياً في معركة التنمية"، يُستدعى عند الحاجة، ويُقصى عند الاعتراض.
الحزب الواحد، والنقابات الخاضعة، والإعلام الموجّه، والتعليم المؤدلج، كلها كانت أدوات لإنتاج إنسان تابع، لا حر، مسيطر عليه، لا مسيطر على مصيره. وهذا يتناقض كليًا مع أبسط مبادئ الاشتراكية العلمية التي تقوم، قبل كل شيء، على تحرير وعي الإنسان لا تدجينه.
الدولة الأمنية... ضد الشعب
كما يفصل د. زكريا فؤاد بدقة، لم تكن الناصرية تجربة بناء وعي جماهيري، بل تجربة قمع منهجي للمجتمع. أُغلقت الصحف، وكمّمت الأفواه، وتحوّلت السجون إلى مصافي لفرز المعارضين، حتى أولئك الذين دعموا النظام بالأمس، إذا ما فكروا بشكل مستقل.
الاشتراكية الناصرية كانت اشتراكية الأجهزة الأمنية، لا اشتراكية الجماهير.
يُختصر ذلك في حقيقة أن مصر لم تعرف في عهد عبد الناصر أي شكل من أشكال الديمقراطية الشعبية. لا انتخابات حرة، ولا حرية أحزاب، ولا نقاش مفتوح، ولا رقابة شعبية على قرارات الدولة أو ميزانيتها أو سياساتها. لقد استبدل النظام الناصري السلطة الشعبية بالخطابة الوطنية، والمشاركة الشعبية بالتعبئة الموجهة من أعلى.
سحق الوعي... باسم الأمة
الخطاب الناصري، كما يحلل شريف يونس، عمل على خلق وحدة وهمية باسم "الأمة"، تم فيها تذويب التناقضات الاجتماعية، وحظر أي شكل من أشكال التعبير الطبقي. وبذلك، جُرّد الوعي من أدواته، وأُجبر المواطن على تبني لغة الدولة، والتحدث بلسانها، والتصفيق لإجاباتها الجاهزة. ومن يعترض، يُتهم بالعمالة أو الانشقاق أو الخيانة.
إن هذا النمط من الهيمنة الإيديولوجية لا يختلف عن أكثر أشكال الرأسمالية استبدادًا. فالسيطرة هنا لا تتم فقط بالقوة، بل أيضًا عن طريق فرض سردية واحدة، وإقصاء كل ما عداها من الفكر العام. تمّت مصادرة الفكر، وتجريده من جوهره الجدلي، وتحويله إلى أداة في يد السلطة.
الاشتراكية المزيفة... والاغتراب الكامل
لم يشعر الإنسان المصري في عهد عبد الناصر بأنه أصبح أقرب إلى ذاته أو إلى حريته، بل على العكس، عانى من اغتراب مزدوج:
• اغتراب اقتصادي، لأنه لم يكن يملك أو يشارك في الإنتاج.
• واغتراب سياسي، لأنه لم يكن يُسمع أو يُحسب له حساب.
وكما في الأنظمة الرأسمالية الكلاسيكية، فإن هذا الاغتراب يؤدي إلى تبلّد سياسي وفكري، حيث يتحول الفرد إلى مجرد ترس في آلة الدولة، فاقد للإرادة، مدجّن، خائف، صامت.
الاشتراكية الحقة لا تُبنى على القمع
الاشتراكية التي لا تقوم على الحرية ليست اشتراكية. والعدالة الاجتماعية التي لا تبدأ بحرية التنظيم والفكر ليست سوى شكل آخر من أشكال السلطوية. لذلك، فإن التجربة الناصرية لم تفشل فقط اقتصاديًا أو طبقيًا، بل فشلت على مستوى الإنسان، وهو جوهر الفشل الذي يجعل من الصعب وصفها بأي معنى حقيقي بأنها "تجربة يسارية".
الناصرية واليسار الزائف – الستالينية من بوابة القاهرة
في اللحظة التي يُختزل فيها اليسار إلى موقف مؤيد للسلطة، ويُحوَّل الاشتراكي إلى بوق لأجهزة الدولة، نكون قد خرجنا من حقل الاشتراكية العلمية إلى أرض اليسار الزائف. وهذا ما حدث بالضبط في التجربة الناصرية، التي استطاعت تحت غطاء من "الاشتراكية الوطنية" أن تحوّل قطاعات واسعة من اليسار المصري إلى حلفاء للسلطة ضد الجماهير، وإلى أبواق لسياسات لا تمت بصلة للاشتراكية أو للتحرر الطبقي.
يسار تابع... لا يسار نقدي
التحليل الماركسي لا يرحم. فحين تُصبح الطبقة التي من المفترض أن تقود عملية التغيير الاجتماعي – أي المثقفون اليساريون – مجرد جوقة تصفيق للزعيم، فإنها تفقد وظيفتها التاريخية. وهذا ما يرصده د. زكريا فؤاد في نقده العميق لسلوك "اليسار الرسمي" الذي اندمج مع الخطاب الناصري، بل وأضفى عليه شرعية فكرية مزيّفة، ساعدت على إخماد أي نقد ماركسي حقيقي للتجربة.
بدلاً من أن يكون هذا اليسار صوتاً متمرداً على السلطة، حوّله النظام إلى أداة تأديبية ضد الوعي الشعبي، يستخدمه لتجميل القمع وتبرير مصادرة الحريات، بل وحتى تبرير الفقر والتفاوت الطبقي تحت ذريعة "مرحلة انتقالية" نحو الاشتراكية الموعودة.
من موسكو إلى القاهرة: خط واحد من الزيف
إن ظاهرة "اليسار الزائف" لم تكن مصرية فحسب، بل امتدت في طول وعرض العالم الذي اتبع نهج الاتحاد السوفيتي، وهو النهج الذي – كما أسلفنا – لا يمت للاشتراكية بصلة. فالاتحاد السوفيتي لم يكن يومًا دولة اشتراكية، بل كان رأسمالية دولة مركزية بيروقراطية قمعية، حكمت باسم الطبقة العاملة وهي تسحقها في الواقع.
وما فعله عبد الناصر لم يكن إلا استنساخًا لهذا النموذج:
• دولة مركزية تحتكر القرار.
• حزب واحد يختزل الأمة.
• خطاب طبقي مشوش يتحدث عن العدالة وهو يعيد إنتاج الفوارق.
• يسار مروّض يدافع عن السلطة أكثر من دفاعه عن الشعب.
وقد نقل "اليسار التابع" في مصر هذا النموذج بكل حماسة، مدفوعًا برومانسية ثورية جوفاء، وتعلّقٍ أعمى بما يسمى "المعسكر الاشتراكي". لم يكن هذا يسارًا، بل جهازًا أيديولوجيًا في خدمة دولة تقمع باسم التحرر.
خيانة المشروع الاشتراكي
في عمق هذا التماهي بين الدولة واليسار، حدثت الخيانة الحقيقية للمشروع الاشتراكي. فاليسار – حين يتخلى عن موقعه الجدلي في الصراع الطبقي، ويقبل بالذوبان في خطاب السلطة – لم يعد يسارًا. لقد أصبح أداة ترسيخ للوضع القائم، وذراعًا ناعمة لنظام لا علاقة له بالتحرر.
كما يحلل شريف يونس، فإن الناصرية نجحت في خلق إجماع زائف عبر لغة تعبئة شمولية، لم تسمح بأي نقد داخلي. وهذا بالضبط ما جعل كثيرًا من اليساريين في ذلك الوقت يخلطون بين الدفاع عن الدولة والدفاع عن الاشتراكية، وبين تأميم المصانع وتحقيق العدالة، وبين المركزية السلطوية والتحرر الشعبي.
هذا التباس قاتل. فالاشتراكية التي لا تكون نقدًا جذريًا للسلطة هي اشتراكية مزيفة. واليسار الذي لا يمارس الصراع ضد الدولة حين تنحرف، ليس إلا يسارًا زائفًا.
من الاشتراكية إلى "رأسمالية الدولة المؤممة"
في نهاية المطاف، الناصرية لم تنجب يسارًا ثوريًا، بل أنجبت ما يمكن أن نسميه بـ"اليسار البيروقراطي"، وهو يسار بلا قاعدة طبقية حقيقية، بلا تنظيمات قاعدية، بلا مشروع ثوري، يدور في فلك السلطة، وينطق باسمها، ويمارس دور المحلل السياسي في خطابها.
وهكذا، تمت شرعنة كل شيء: التأميم بلا رقابة، الحكم بلا حرية، الاقتصاد بلا مساواة، والاشتراكية بلا طبقة عاملة.
نتائج التجربة – تحلل المشروع وانتصار الرأسمالية
ما من تجربة تُقاس بشعاراتها، بل بنتائجها الملموسة. وإن كان من اختبار حاسم لأية تجربة تُنسب لنفسها صفة "الاشتراكية"، فهو أثرها على بنية المجتمع الطبقية، وعلى توزيع الثروة والسلطة، وعلى مصير الطبقة العاملة والفئات الكادحة. وبالنظر إلى حصيلة المشروع الناصري، نجد أنفسنا أمام كارثة تاريخية دفعت بالمجتمع المصري لا نحو التحرر أو العدالة، بل نحو مزيد من القهر والتفاوت والاغتراب.
من احتكار الدولة إلى تفكيكها
لقد احتكرت الدولة الناصرية الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لكنها لم تؤسس لأي نمط ديمقراطي شعبي قابل للبقاء أو المقاومة. كانت سلطوية فوقية، تعتمد على القائد الفرد، والخطاب التعبوي، والمؤسسات الأمنية، دون بناء قواعد اجتماعية حقيقية تمتلك الوعي والتنظيم. وحين غاب عبد الناصر، أو هُزم في مشروعه القومي، لم يكن في الدولة ما يحمي "المكاسب الاجتماعية" المزعومة، لأنها ببساطة لم تكن مكاسب نابعة من نضال شعبي بل من قرارات فوقية يمكن التراجع عنها بسهولة.
وهذا ما فعله السادات ببساطة حين قلب المائدة على كل ما سبق: فكك القطاع العام، صالح البرجوازية، فتح أبواب السوق، وعاد لتحالفاته الأمريكية. لم يجد مقاومة تُذكر، لأن الجماهير لم تكن تمتلك أدوات حقيقية للمشاركة أو الدفاع عن مصالحها. كانت مجرد متلقٍ لقرارات السلطة، ولما تغيّرت السلطة، تغير كل شيء.
الطريق إلى النيوليبرالية بدأ من "الاشتراكية"
المفارقة الكبرى أن طريق مصر إلى النيوليبرالية، إلى بيع القطاع العام، إلى تفكيك الخدمات، إلى عسكرة الاقتصاد في صورته الحديثة، بدأ من حيث انتهت "الاشتراكية الناصرية". فالرأسمالية لم تأت من الخارج، بل نبتت من داخل النموذج نفسه، من تناقضه الجوهري، من كون الدولة هي المالك والمسيطر، دون رقابة، ودون ديمقراطية.
بعبارة ماركسية دقيقة: ما كان يتطور في قلب المشروع الناصري لم يكن نقيض الرأسمالية، بل امتدادًا لها في شكلها الدولتي البيروقراطي. فحين تتحكم فئة بيروقراطية في وسائل الإنتاج وتُعيد توزيع الفائض كما تشاء، دون مساءلة أو مشاركة شعبية، فإن النتيجة الحتمية هي أن تتحول هذه الفئة إلى برجوازية جديدة، تهيمن ثم تتاجر، ثم تنقلب على نفسها.
تحلل الوعي وتراجع الطبقة
واحدة من أكبر نتائج التجربة الناصرية الكارثية لم تكن فقط اقتصادية، بل ثقافية وطبقية. فقد حطمت الناصرية – من حيث لا تدري – البنية التنظيمية والسياسية للطبقة العاملة، وأعادت تشكيلها في صورة جماهير صامتة مُؤممة الوعي، محرومة من التنظيم، مفتتة، غير قادرة على خوض صراع طبقي حقيقي.
وبدلًا من أن تُنتج الاشتراكية الوعي الثوري، أنتجت وعيًا سلطويًا مطيعًا، يتوسل الإصلاح من الحاكم بدلًا من أن ينتزعه. وبدلًا من بناء حركة شعبية قادرة على المطالبة والمحاسبة، بنَت مؤسسات تعبوية تُفرغ السياسة من معناها، وتسحق المبادرة الفردية والجماعية.
التراكم السلبي ووراثة الفشل
حين جاء السادات، ثم مبارك، لم يكونا سوى استكمال لمسار بدأه عبد الناصر نفسه. صحيح أن السادات انقلب على بعض أدوات عبد الناصر، لكنه استبقى الجوهر: الدولة فوق المجتمع، الحكم الفردي، الاقتصاد في يد فئة صغيرة، الشعب في موقع المتفرج، والتنمية مرهونة بالإملاءات الخارجية.
هكذا، نجد أن المشروع الذي بدأ باسم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، انتهى بتجريف المجال العام، وبتكوين طبقة جديدة من رجال الأعمال، وتحالفات مع رأس المال العالمي، وبيع كل شيء – من الأراضي إلى المصانع إلى السيادة الوطنية.
الاشتراكية لا تُمارس من فوق... بل تُنتزع من تحت
الدرس الأكبر من هذه التجربة هو أن الاشتراكية لا تُصنع بقرارات جمهورية، ولا بخطب عاطفية، ولا ببيروقراطيات عسكرية. الاشتراكية الحقيقية هي عملية بناء طبقي واعٍ، من أسفل، بقيادة الطبقة العاملة وتنظيماتها المستقلة، وبآليات ديمقراطية ثورية.
ما لم يحدث ذلك، فإن كل تجربة تدّعي الاشتراكية – دون أن تحقق هذه الشروط – لن تكون إلا نموذجًا آخر من رأسمالية الدولة، ولو تغيّرت الشعارات.
الخاتمة: تفكيك الأسطورة وبناء الوعي
ليست المهمة التاريخية للماركسي أن يتغنى بالأساطير، بل أن يكشف آليات إنتاجها، ويفضح تناقضاتها، ويعيد الصراع إلى أرضه الحقيقية: الواقع الطبقي. ومن هذا المنطلق، لم يكن المقال الحالي محاولة لتشويه صورة جمال عبد الناصر كشخص، بل لتفكيك خطاب سياسي ومشروع اجتماعي ادعى الانتساب إلى اليسار، بينما مثّل في جوهره أحد أكثر أشكال رأسمالية الدولة البيروقراطية قمعًا للإنسان واغترابًا عن جوهر الاشتراكية.
لقد بُنيت الأسطورة الناصرية على ثلاثة أعمدة:
1. خطاب قومي تعبوي يتحدث باسم الأمة الواحدة دون الاعتراف بالصراع الطبقي.
2. سياسات اقتصادية شكلية تقوم على التأميم دون رقابة شعبية أو مشاركة ديمقراطية.
3. آلة قمعية أمنية تسحق كل تنظيم مستقل أو فكر نقدي تحت لافتة "الوحدة الوطنية".
هذه ليست اشتراكية، بل نقيضها. الاشتراكية الحقيقية ليست دولة تملك باسم الشعب، بل شعب يملك ويقرر، ويسيّر الإنتاج والمجتمع وفق حاجاته ومصالحه. الاشتراكية لا تمارس من فوق، ولا تُفرض باسم "الزعيم"، بل تُنتزع من تحت، بالصراع والتنظيم والديمقراطية المباشرة.
ومن هذا المنظور، فإن عبد الناصر لم يكن يساريًا، ولم تكن الناصرية اشتراكية، لا في الاقتصاد، ولا في السياسة، ولا في الثقافة. لقد كانت بيروقراطية عسكرية ذات مظهر اجتماعي، ونظامًا سلطويًا ارتدى ثوب التحرر وهو يمارس الاستبداد.
كما أن الذين انخرطوا في الدفاع عن هذا النموذج – من مثقفين، أو تنظيمات يسارية رسمية – كانوا شركاء في تكريس الزيف، لا في مقاومته. لقد وقعوا في فخ "اليسار الزائف"، الذي استبدل تحليل الطبقات بتحليل الخطابات، واستبدل الصراع بالمهادنة، وتحول إلى جسر تمر عليه السلطوية متخفية في لافتات العدالة.
لكن فضح هذا النموذج لا يعني التراجع عن الحلم الاشتراكي، بل بالعكس، هو محاولة لتحرير هذا الحلم من تشويه الواقع، وإعادة بنائه على أسس ماركسية جذرية لا تهادن السلطة ولا تتاجر بالشعارات. الحلم الاشتراكي الحقيقي لا يزال حيًا، لكنه لن يُبعث إلا حين يُدفن هذا الماضي الزائف نهائيًا، وتُبنى حركة جماهيرية جديدة، ترفع راية الاشتراكية من تحت لا من فوق، باسم الطبقة لا باسم الأمة، باسم الحرية لا باسم الدولة.
المراجع
فؤاد زكريا. *عبد الناصر واليسار المصري*. القاهرة: روز اليوسف، 1975
شريف يونس. *نداء الشعب: تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية*. القاهرة: دار الشروق، 2012.
#أحمد_الجوهري (هاشتاغ)
Ahmed_El_Gohary#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟