علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8320 - 2025 / 4 / 22 - 07:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الجزء الاول: ماركسية ضد الهويات القاتلة: في تفكيك العصبية والطائفية والقومية
هذا الجزء سيُشكّل الأساس النظري والمنهجي لباقي السلسلة، وسيُسلّط الضوء على آليات تشكّل العصبيات الطائفية والدينية والقومية، وارتباطها بالبنية الطبقية، وموقعها ضمن الأيديولوجيا السائدة، ودورها في عرقلة الوعي الثوري والطبقي.
⸻
ماركسية ضد الهويات القاتلة: في تفكيك العصبية والطائفية والقومية
(الجزء الأول من بعد المقدمة من سلسلة: العصبيات والعداء لإيران من منظور ماركسي)
مقدمة: حين تتكلم الهويات بدل الطبقات
لم تكن الماركسية يوماً خطاباً في “التسامح الديني” ولا نداءً “للعيش المشترك” كما تفعل الأدبيات الليبرالية والإصلاحية، بل هي نقد جذري للواقع، يستهدف تفكيك البنى التي تُنتج الاستلاب والهيمنة والطبقية، ومن بينها: العصبيات الطائفية، الدينية، القومية، والقبلية. هذه العصبيات ليست مجرد “موروث اجتماعي” أو “اختلاف ثقافي”، بل هي ـ غالباً ـ أدوات للصراع الطبقي مقنّعة بغطاء الهويّة.
فحين تُجَنّد الجماهير باسم الطائفة ضد “الآخر” القومي أو الديني، فإنها تُحرّف معركتها الحقيقية، وتُقاتل من أجل استمرار استلابها، وهو ما جعل غرامشي يرى أن “الهيمنة لا تُمارَس بالقمع وحده، بل بالإقناع أيضاً، عبر إنتاج وعي زائف يتبنى مصالح الطبقات المسيطرة وكأنها مصالحه الذاتية”¹.
⸻
أولاً: العصبية كبنية أيديولوجية
العصبية في معناها الماركسي ليست مجرد شعور أو تعصب شخصي، بل هي شكل من أشكال الوعي الزائف، يُنتج نفسه عبر التاريخ، وتُعيد البنى الاجتماعية والسياسية إنتاجه بوسائل متعددة: المدرسة، الإعلام، الدين، القبيلة، وحتى اللغة.
ابن خلدون رأى أن العصبية شرط لقيام الملك، أما ماركس فكان أكثر جذرية: العصبية ليست شرطاً للحكم، بل أداة للسيطرة الطبقية. فحين يعجز النظام عن توحيد الناس حول مشروع اقتصادي سياسي عادل، يُعيد تنظيمهم حول الهويات الضيقة.
⸻
ثانياً: الطائفية والعصبيات الدينية كوظائف سلطوية
الطائفية ليست بقايا من العصور الوسطى، بل هي وظيفة سياسية في عصر الرأسمالية التابعة. في بلدان مثل العراق ولبنان وسوريا، تَحول الطائفي من “تابع للمذهب” إلى “فاعل سياسي” له موقع في مؤسسات الدولة، يتقاسم السلطة والثروة مع الطوائف الأخرى وفق توازنات محلية ودولية.
العصبيات الدينية (السنية والشيعية) تمّ تحويلها إلى أدوات تحشيد شعبوي. فالسني يُحرَّض على الشيعي بوصفه “رافضياً صفوياً مجوسياً”، والشيعي يُحرّض على السني بوصفه “ناصبياً تكفيرياً داعشي النزعة”. هكذا تتبادل العصبيات وظيفة “إنتاج العدو” داخلياً.
⸻
ثالثاً: العصبيات القومية والإثنية والقبلية – بقايا ما قبل الدولة أم أدوات للهيمنة؟
في كثير من الأحيان، تُبرَّر القومية بأنها “مقاومة للاستعمار”، لكن القومية الإثنية (العربية، الفارسية، التركية، الكردية) تحوّلت إلى شوفينيات إقصائية تُعيد إنتاج العدو من داخل شعوب المنطقة نفسها، كما في عداء القوميين العرب للفرس، أو عداء الأتراك للأرمن والكرد، أو احتقار بعض العرب للأفارقة والأكراد.
أما العصبية البدوية، فهي شكل من أشكال “اللاوعي الجمعي” الذي يضفي القداسة على القبيلة والدم والنسب، ويُقصي الفئات “الدونية” كالفلاحين والحرفيين والنساء، مما يجعلها بيئة خصبة لإنتاج الفكر السلفي التكفيري من جهة، والخضوع للسلطة القمعية من جهة أخرى.
⸻
رابعاً: الهويات القاتلة واغتيال الوعي الطبقي
حين يُقتل العامل لأنه شيعي أو يُطرد الفقير لأنه كردي أو تُنتهك امرأة لأنها تنتمي للطائفة “الخطأ”، فإن الصراع لم يعد صراعاً بين مستغِل ومستغَل، بل بين ضحايا تمّت تعبئتهم ضد بعضهم البعض.
هنا تبرز خطورة ما سمّاه مهدي عامل: “الطائفية ليست بنية فوقية مستقلة، بل هي علاقة إنتاج في مجتمعات لم تُنجز بُناها الرأسمالية بعد”. أي أن الطائفية ليست مجرد “رأي”، بل علاقة مادية تُعيد إنتاج التبعية والانقسام الاجتماعي².
⸻
خامساً: لماذا تُستهدف إيران؟ من “الفرس المجوس” إلى “الرافضة الصفويين”
العصبيات ليست محايدة ولا تتوزع بشكل عشوائي. إيران الشيعية الفارسية تشكّل النموذج الأوضح لهوية مركّبة تَكثّف فيها العداء السني والعربي والبدوي، وهو عداء بُني على:
• إرث أموي ـ عباسي يُمجّد قتلة آل البيت ويشيطن كل ما هو “فارسي”.
• إرث فقهي سني يُحرّف الخلاف السياسي مع الشيعة إلى تكفير ديني.
• دعاية حديثة بعثية وخليجية تصف إيران بالصفوية والمجوسية والرافضية.
• خطاب وهابي يُنكر حتى “إسلام” الشيعة، ويكفّرهم جماعياً³.
هكذا، صارت إيران عدوة لا لسياساتها فحسب، بل لهويتها الفارسية ـ الشيعية ـ الثورية. وبدلاً من أن يُنتقد نظامها من زاوية طبقية أو ديمقراطية، يُحارَب من زاوية مذهبية وعنصرية، تُضعف حركة النضال وتشتت الطبقة العاملة.
⸻
خاتمة: الحاجة إلى ماركسية بلا أقنعة
المطلوب اليوم ليس وعظاً أخلاقياً ضد العصبية، بل مشروعاً ماركسياً يُعرّي أصولها المادية، ويُفكك بنيتها الأيديولوجية، ويكشف دورها في تشتيت الوعي الطبقي وإدامة الاستغلال.
العصبية ليست قدراً، بل أداة. ومعركتنا ليست بين شيعي وسني، أو عربي وفارسي، بل بين من يملك ومن لا يملك.
وسنواصل في الجزء الثاني هذا المسار بتحليل تاريخ الحضارة الفارسية وإسهامها الحضاري، لنكشف زيف السردية التي جعلت من إيران مجوسية، ومن الفرس أعداءً.
⸻
المراجع:
1. Gramsci, Antonio. Selections from the Prison Notebooks. Translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith. New York: International Publishers, 1971.
2. عامل، مهدي. في الدولة الطائفية. بيروت: دار الفارابي، 1990.
3. Algar, Hamid. Wahhabism: A Critical Essay. New York: Islamic Publications International, 2002.
————————————————————————————————————————-
الجزء الثاني: فارس وإيران – من حضارة سبعة آلاف عام إلى دولة مقاومة
وفيه سنكشف الجانب المطموس من صورة إيران: تاريخها العريق، إرثها الحضاري، وتحوّلها من إمبراطورية كبرى إلى دولة تُستهدف بسبب مشروعها السياسي، لا بسبب قوميتها أو مذهبها فقط. وسنسعى إلى محاكمة السرديات القومية والدينية التي شوّهت هذا التاريخ، خاصة عبر الخطاب البعثي والوهابي.
⸻
الجزء الثاني: فارس وإيران – من حضارة سبعة آلاف عام إلى دولة مقاومة
مقدمة: التاريخ المغيّب في خطاب الكراهية
لم تكن إيران “مجوسية”، ولا الفرس “أعداء العرب” كما يُشاع في أدبيات الكراهية السنية والقومية. على العكس، فإن بلاد فارس كانت واحدة من أعرق حضارات الشرق، وساهمت في بناء الثقافة الإسلامية ذاتها. لكن خطاب العداء الحديث، الذي غذّاه البعث والوهابية، اختزل إيران في صورة “الآخر” الطائفي والقومي، فجرّدها من عمقها التاريخي، وحوّلها إلى هدف للكراهية الجماعية.
⸻
أولاً: حضارة تمتد إلى سبعة آلاف عام
تشير الآثار إلى أن حضارات عريقة نشأت في إيران منذ الألف الخامس قبل الميلاد، مثل حضارة “جيروفت” في الجنوب، و”العيلاميين” في الغرب، ثم جاء الفرس الأخمينيون (550 ق.م) بقيادة كورش الكبير، الذي أسّس أول إمبراطورية متعددة القوميات والأديان، واحترم الأديان وأطلق أسرى اليهود من بابل⁴.
بعد الأخمينيين، تعاقب على إيران:
• البارثيون (247 ق.م – 224 م)
• الساسانيون (224 – 651 م)، الذين كانوا قوة عظمى أمام البيزنطيين.
• ثم دخلت في العصر الإسلامي، وازدهرت فيها الفلسفة والعلوم والتصوف.
إيران لم تكن على هامش التاريخ، بل مركزاً لإنتاج الفكر والعلوم والآداب. من ابن سينا والفارابي إلى الخيام والرومي، كان الفرس فاعلين لا تابعين.
⸻
ثانياً: الفرس والإسلام – اندماج لا انقسام
لم يكن دخول الإسلام إلى بلاد فارس مجرد غزوٍ غربيٍ لشرقٍ “مجوسي”، بل كان بداية لانصهار ثقافي.
ففي العصر العباسي، كانت الطبقة المثقفة والعلمية في الدولة من الفرس: الوزراء، العلماء، النحويون، والمترجمون. ساهم الفرس في بناء الدولة الإسلامية حتى أن **العصر العباسي سُمّي بعصر “النفَس الفارسي”**⁵.
بل إن التشيّع، الذي بات سمة بارزة في إيران لاحقاً، لم يكن نبتاً فارسياً غريباً، بل نشأ في الحجاز والكوفة، وكان في بداياته عربياً بامتياز. الفرس تبنّوه لاحقاً بعد أن وجدوا فيه تعبيراً عن معارضة السلطة العباسية والأموية، لا نكاية بالإسلام، بل دفاعاً عن آل البيت.
⸻
ثالثاً: إيران الحديثة – بين الثورة والحصار
عام 1979، فاجأت إيران العالم بثورة شعبية أطاحت بحكم الشاه المدعوم غربياً، وأسّست دولة تقطع مع التبعية الاقتصادية والسياسية للغرب.
ومنذ ذلك الحين، دخلت إيران في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة، وإسرائيل، وأنظمة الخليج.
الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980–1988) لم تكن فقط نزاعاً حدودياً، بل كانت حرباً استباقية شنّها البعث بدعم خليجي وغربي لإجهاض مشروع الثورة الإسلامية. وقد أسفر العدوان عن مئات آلاف القتلى والجرحى، واستخدام أسلحة كيماوية ضد المدنيين الإيرانيين.
ورغم الحصار والعقوبات منذ أكثر من أربعة عقود، حققت إيران:
• تطوراً صناعياً وتكنولوجياً في مجالات الطب، الطاقة، والنووي.
• تعليماً مجانياً متقدماً ونسبة أمية شبه معدومة.
• برامج فضاء وصناعات عسكرية متقدمة.
• بنية تحتية للبحث العلمي تتفوق على معظم دول المنطقة⁶.
⸻
رابعاً: ماذا يخيف في إيران؟ الطائفة، القومية، أم الاستقلال؟
حين يُهاجم الإعلام السني والخليجي إيران بوصفها “صفوية”، و”مجوسية”، و”رافضية”، لا يكون العداء جوهرياً للتشيّع أو الفارسية، بل عداءً للاستقلال والتمرد على الهيمنة.
فإيران لا تخضع للبنك الدولي، ولا تفتح أسواقها لنهب الشركات الغربية، ولا تُطبّع مع إسرائيل، بل تدعم المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق.
لذلك، صار خطاب الكراهية الطائفي والقومي ضرورة أيديولوجية لتحشيد الجماهير ضدها، بدل طرح السؤال الحقيقي:
لماذا لم تستطع أنظمتنا العربية “السنية” أن تحقق ما حققته إيران تحت الحصار؟
⸻
خامساً: التشيّع والزوار – حين يتجاوز الدين الطائفية
ورغم أن إيران تُشيطَن في الخطاب العربي، فإن الملايين من الإيرانيين يزورون العراق سنوياً، من منطلق إيماني وحبٍّ للأئمة، لا بوصفهم “فرساً مجوساً”، بل بوصفهم أئمة آل البيت الذين استشهدوا دفاعاً عن العدالة.
لم تنجح الكراهية الطائفية في قطع هذه العلاقة الروحية، رغم ما فعله صدام حسين، ورغم التفجيرات والحرائق، ما يدل على أن الشعوب أحياناً تملك وعياً أعمق من نخبها.
⸻
خاتمة: إعادة الاعتبار لإيران في التاريخ والثورة
إيران ليست “عدو الأمة”، بل جزء منها. عداؤها ليس قدراً مذهبياً، بل نتيجة لمواقفها السياسية الرافضة للهيمنة الغربية، ودعمها للمقاومة.
واختزالها في صورة “الصفوية المجوسية” ليس إلا إعادة إنتاج للكراهية كأداة سياسية، تهدف إلى تجريد الجماهير من حلفائها المحتملين، وتحويل أنظارهم عن عدوهم الحقيقي: الإمبريالية، والرجعية، والرأسمال الطفيلي.
⸻
المراجع:
4. Briant, Pierre. From Cyrus to Alexander: A History of the Persian Empire. Translated by Peter T. Daniels. Winona Lake: Eisenbrauns, 2002.
5. Lewis, Bernard. The Arabs in History. Oxford: Oxford University Press, 2002.
6. Alfoneh, Ali. “How Intertwined Are the Revolutionary Guards in Iran’s Economy?” Middle East Quarterly, Spring 2008.
—————————————————————————————————————————————————-
الجزء الثالث: الطائفية والعداء لإيران في العراق والعالم العربي
مقدمة: الطائفية كأداة تشتيت – من الصراع الطبقي إلى الانقسام الطائفي
منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، شهدت المنطقة العربية سلسلة من التحولات الجيوسياسية التي كان لها تأثير عميق على مواقف الطبقات السياسية والشعبية في كل من العراق والدول العربية المجاورة. في العراق بشكل خاص، كانت الطائفية سلاحاً ذا حدين: فهي أداة استخدمتها الأنظمة القمعية لتفريق المجتمع وفرض سلطتها، وفي الوقت ذاته أداة استخدمها بعض القوى السياسية لتوسيع نفوذها الإقليمي في مواجهة إيران.
إيران، التي تعتبر نفسها حامية الثورة الإسلامية والمقاومة ضد الإمبريالية الغربية، شكلت منذ عام 1979 تحدياً كبيراً للأنظمة العربية، خصوصاً تلك التي تنتمي إلى المعسكر السني أو التي تسعى لاحتكار السلطة تحت مظلة القومية العربية. وبذلك، تحول الصراع مع إيران إلى صراع ذو أبعاد طائفية وقومية، واستخدمت بعض القوى السياسية العداء لإيران كأداة لتعبئة الشارع العربي ضد النظام الإيراني.
⸻
أولاً: النظام البعثي العراقي والعداء لإيران
منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران، بدأ نظام صدام حسين في العراق بتوظيف العصبية الطائفية ضد إيران بشكل استراتيجي، حيث صُوّرت إيران بوصفها “عدواً طائفياً” و "مجوسياً”، مُستغلاً في ذلك الإرث العميق للعداء بين السنة والشيعة الذي تسببت فيه الفتنة الكبرى. في عام 1980، شن النظام البعثي حرباً شاملة ضد إيران تحت شعار “حماية العالم العربي من التوسع الصفوي”، مستعيناً في ذلك بالتعبئة الطائفية لتوحيد الشعور العربي ضد “الفرس الشيعة”.
كان هذا الهجوم العسكري في جوهره محاولة للحد من تأثير الثورة الإسلامية على الداخل العربي، وإبعاد العراق عن الهيمنة الإيرانية في ظل تنامي الحركة الثورية في المنطقة. ولم يكن صدام حسين وحلفاؤه وحدهم من شاركوا في هذه الحرب، بل ساعدت الدول العربية (خاصة دول الخليج) في تمويل الحرب ضد إيران، وهو ما شكل تعاوناً طائفياً معادياً للأهداف الثورية الإيرانية.
في المقابل، كانت إيران تدافع عن مشروعها الثوري، مستندة إلى خطاب ديني وحضاري يعزز الهوية الشيعية الإسلامية في مواجهة التدخلات الغربية والعربية.
⸻
ثانياً: الأحزاب القومية العربية وصراع الهوية
لكن الطائفية لم تقتصر على الأنظمة الدكتاتورية مثل النظام العراقي، بل امتد تأثيرها إلى العديد من الأحزاب القومية العربية، خصوصاً تلك التي تتبنى الأيديولوجيا البعثية والقومية العربية. في هذه السياقات، أصبحت إيران العدو الأول لكل ما هو “عربي”، بل وصُوّرت الثورة الإسلامية كخطر على هوية الأمة العربية.
لا شك أن الحركات القومية العربية، على الرغم من دعواتها للوحدة ضد الإمبريالية والاستعمار، استخدمت العداء لإيران لتشويه صورة الثورة الإسلامية وإفشال أي محاولة لتحرير المنطقة من الهيمنة الغربية. فقد صُوّرت إيران، التي كانت تحاول تجاوز الهويات التقليدية في المنطقة، بوصفها تهديداً لآمال القومية العربية، وذلك بتأكيدها على الهوية الإسلامية الشيعية في مواجهة الموروث الثقافي العربي السني.
⸻
ثالثاً: الطائفية والعداء لإيران في التيار السني
في العالم العربي بشكل عام، ارتبط العداء لإيران بنظرة دينية طائفية تتجسد في الحملة المستمرة ضد “الرافضة” و "الصفويين”. هذا الخطاب الطائفي لم يكن يقتصر على الحركات السلفية أو الوهابية فقط، بل امتد ليشمل أجزاء واسعة من المجتمعات السنية في معظم الدول العربية. المصطلحات التي ارتبطت بالعداء لإيران مثل “المجوس” و“الصفويين” شكلت أداة شحن طائفي ضد إيران بشكل عام.
إن هذه العصبية الطائفية لا تعكس فقط العداء للثورة الإيرانية بسبب مواقفها السياسية، بل تمتد لتشمل العنصرية العرقية ضد الفرس، وكأن هناك حاجة للإشارة إلى هوية عرقية ودينية في محاولات محو الهوية الإيرانية في الخطاب السني. الطائفية، في هذا السياق، تستخدم لتثبيت الهوية السنية في مواجهة الهوية الشيعية، وتطويق كل محاولات التقارب بين أبناء المنطقة.
⸻
رابعاً: الطائفية والتشيع في العراق – الواقع المعقد
في العراق، الشيعة، وهم أكبر مكون ديني في البلاد، وجدوا أنفسهم في صراع دائم مع النظام الحاكم تحت شعار “العروبة السنية” التي كانت تروج لها الأنظمة البعثية في العراق. وبعد سقوط النظام البعثي في 2003، تغيرت المعادلة بشكل كامل، وبدأت الشيعة في العراق يواجهون عداءً طائفياً حاداً في ظل صعود القوى السنية القومية، التي كانت ترفض أي تقارب مع إيران تحت شعار العداء الطائفي.
رغم أن جزءاً من هذا العداء كان مرتبطاً بالتنظيمات السنية المتطرفة مثل القاعدة وداعش، إلا أن الخطاب الطائفي السني في العراق كان له تاريخ طويل في تحجيم دور الشيعة في السياسة والاقتصاد، وفي تهميشهم في الحياة العامة. كان هذا الصراع الطائفي بمثابة استمرار لمشروع التفريق بين الطوائف، وهو ما سعى النظام البعثي إلى استغلاله.
⸻
خامساً: الشيوعيون وحزب البعث – الرؤية الماركسية في ظل الطائفية
حتى في التيار اليساري، حيث يعتقد البعض أن الطائفية لا مكان لها، كان الحزب الشيوعي العراقي يعاني من صراع داخلي بين مسألة الولاء الوطني والعداء الطائفي الذي أظهره بعض القياديين في فترات معينة.
وعلى الرغم من أن بعض اليساريين العرب كان لديهم مواقف تقدمية تجاه إيران الثورية، إلا أن جزءاً منهم كان يرى في الإسلام السياسي تهديداً للفكر الماركسي، مما دفعهم إلى تبني خطاب مناهض لإيران رغم الاختلاف الطبقي في الرؤية.
⸻
خاتمة: كيف نواجه الطائفية؟
الطائفية، في جوهرها، هي أداة لتفكيك الجبهة الطبقية، وهي وسيلة لتدمير أي وحدة سياسية بين الطبقات المستغلة في الدول العربية. لقد حوّلت الطائفية الصراع السياسي إلى صراع طائفي زائف، في وقت كانت فيه الطبقات الحاكمة تسعى إلى قمع أي محاولة لتوحيد الطبقة العاملة في المنطقة ضد الإمبريالية والرأسمالية المحلية.
لا يمكننا مواجهة هذه التحديات بدون فهم عميق لكيفية استخدام الطائفية كأداة للمزيد من التفتيت، بل يجب بناء جبهة طبقية موحدة تستند إلى المصالح الاقتصادية والطبقية، بعيداً عن القوالب الطائفية والقومية.
⸻
المراجع:
• Al-Khalil, Samir. Iraq: The Roots of the Arab–Iranian Conflict. London: Saqi Books, 1988.
• Norton, Augustus Richard. Hezbollah: A Short History. Princeton: Princeton University Press, 2007.
• Al-Rasheed, Madawi. The Shi’a of Saudi Arabia. London: I.B. Tauris, 201
————————————————————————————————
الجزء الرابع: مواقف الشيوعيين، القوميين، والدينيين في ظل العصبية الطائفية والعنصرية
مقدمة: ديناميكيات العصبية في السياسة
في سياق الحرب الباردة والمشاريع السياسية الكبرى في الشرق الأوسط، تحوّلت العصبية الطائفية والعنصرية إلى جزء من معادلات الصراع السياسي. كانت هذه العصبيات أداة لتقسيم المجتمعات العربية والإسلامية، وتعميق الانقسامات بين القوى المختلفة، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على موقف هذه القوى من إيران، خاصة بعد قيام الثورة الإسلامية.
في هذا الجزء، سنقوم بتسليط الضوء على مواقف الشيوعيين العرب، القوميين، والدينيين تجاه إيران، وكيف تفاعلوا مع الثورة الإيرانية ومع الحكومات الشيعية في العراق وسوريا ولبنان، في سياقات الطائفية والعداء لإيران.
⸻
أولاً: الشيوعيون والموقف من إيران – تناقضات تاريخية
الشيوعيون العرب، على الرغم من انحيازهم إلى المشروع الثوري ضد الاستعمار والإمبريالية، لم يكن لديهم موقف موحد تجاه إيران. فالمواقف تجاه الثورة الإيرانية 1979 كانت محكومة بتناقضات تاريخية ودينية وأيديولوجية.
موقف الشيوعيين العرب من الثورة الإيرانية
مع بداية الثورة الإيرانية، ورغم أن الشيوعيين العرب نظروا إلى الانتصار الإيراني كحركة مقاومة ضد الإمبريالية الأمريكية، فإنهم نظروا في الوقت ذاته بقلق شديد إلى التوجه الديني لهذه الثورة، إذ أن المشروع الثوري الإيراني كان إسلامياً بامتياز. ومن هنا نشأت إشكالية الطائفية والإيديولوجيا بالنسبة لبعض الشيوعيين.
الحزب الشيوعي العراقي على سبيل المثال كان في البداية متحفظًا على الثورة الإيرانية بسبب الطابع الديني لها، إلا أنه في ذات الوقت كان يحترم الاستقلال الإيراني عن الهيمنة الغربية. بعض الشيوعيين العرب، خاصة في لبنان واليمن، شهدوا تحوّلاً في مواقفهم عندما رأوا أن إيران قد أصبحت قاعدة هامة لدعم الثورات الشعبية في المنطقة، مثل دعمها للمقاومة في لبنان ضد الاحتلال الإسرائيلي، ودورها في العراق في مواجهة الاحتلال الأمريكي.
ومع الوقت، بدأ الشيوعيون في بعض الدول العربية بمراجعة مواقفهم تجاه إيران الثورة، ولكن مع ذلك استمر هناك تباين بين التيارات الشيوعية بين أولئك الذين كانوا يراهنون على بناء جبهة طبقية موحدة من دون تأثير ديني، وبين أولئك الذين كانوا يرون أن التحالف مع إيران يجب أن يكون مشروطًا برؤية واضحة لعدم فرض الهيمنة الطائفية.
⸻
ثانياً: القومية العربية – العداء لإيران بسبب القومية والدين
أما بالنسبة للأحزاب القومية العربية، فكان الموقف من إيران أكثر تعقيداً. كان هناك نوع من التماهي مع إيران الشاه بسبب علاقاتها الغربية في فترة السبعينات، وبالتالي كان العداء لإيران بعد الثورة الإسلامية في 1979 مبنيًا على معاداة الإيديولوجية الإسلامية التي حاولت إيران تصديرها.
الحزب البعثي وتوظيف العداء لإيران
كما ذكرنا في الجزء السابق، استخدم حزب البعث العراقي بقيادة صدام حسين العصبية الطائفية بشكل ممنهج ضد إيران. وبالرغم من أن العراق كان يعتبر نفسه جزءًا من حركة القومية العربية، كانت المعاداة لإيران هي السمة الطاغية في الخطاب البعثي، حيث تم تصوير الثورة الإيرانية كخطر على الهوية العربية، بينما صُوّرت إيران بأنها تهديد شيعي فارسي لا يتماشى مع مفاهيم العروبة والهوية العربية السنية. من خلال هذا الخطاب، أُثِيرَت العصبية الطائفية لتوظيفها في بناء جبهة موحدة ضد إيران وحلفائها.
أما الأحزاب القومية العربية الأخرى، مثل حزب البعث السوري، فقد كان موقفها أكثر حذرًا، حيث حافظت على تحالفات استراتيجية مع إيران، خاصة في مواجهة التهديدات المشتركة من إسرائيل والولايات المتحدة. وكان حزب البعث السوري يدرك أن إيران، رغم طائفيتها، تعتبر حليفًا استراتيجيًا في محاربة الإمبريالية وتوسيع نفوذها الثوري في المنطقة.
⸻
ثالثاً: التيار الإسلامي – الطائفية في مواجهة الثورة الإيرانية
إن التيار الإسلامي السني، سواء كان سلفيًا أو إخوانيًا، كان له موقف مزدوج من الثورة الإيرانية. على الرغم من أن إيران كانت تتبنى مواقف إسلامية ضد الإمبريالية، إلا أن الصراع الطائفي المتمثل في الشيعة والسنة جعل من مواقف معظم القوى الإسلامية السنية تجاه إيران معقدة للغاية.
العداء السلفي الوهابي لإيران
التيار السلفي الوهابي، المدعوم من المملكة العربية السعودية، كان العداء لإيران جليًا، حيث اعتبرت إيران الشيعية تهديدًا مباشرًا للمذهب السني، وكذلك للمرجعية الوهابية التي سعت لتعزيز تفوقها الديني والسياسي في المنطقة. هذا العداء كان يتخذ طابعًا طائفيًا، حيث اعتبرت إيران المصدر الأول في نشر الشيعة كأيديولوجيا وعقيدة دينية في المنطقة، وهو ما جعلها تهديدًا لمشروعهم الطائفي السني.
الإخوان المسلمون وتضارب المواقف
أما بالنسبة لتيار الإخوان المسلمين، فقد اختلفت مواقفهم تجاه إيران. ففي البداية، كان العديد من الإخوان في مصر وسوريا يشعرون بالإعجاب بالثورة الإيرانية لأنها كانت ثورة شعبية ضد الاستبداد والإمبريالية، وقد منحهم ذلك أملًا في بناء نظام إسلامي. ومع ذلك، سرعان ما بدأ الإخوان في التشكيك في الثورة الإيرانية عندما بدأوا يرون في إيران قوة محورية في تعزيز الشيعية على حساب السنية، خاصة في سياق الصراع المذهبي في العراق ولبنان.
⸻
رابعاً: المواقف الإقليمية – إيران والتحديات الإيديولوجية
يستمر العداء لإيران في العديد من الدول العربية، سواء من دول الخليج أو الأنظمة السنية في المنطقة، كما تتفاوت المواقف حسب الظروف السياسية والأيديولوجية في تلك الدول. كانت المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، تُحْدِث تحالفات مع القوى السنية بهدف مكافحة النفوذ الشيعي الإيراني في المنطقة، خاصة في العراق ولبنان واليمن، وكانت التدخلات العسكرية في اليمن تندرج ضمن هذا السياق، حيث تم تصوير إيران كخصم محوري في المنطقة.
⸻
خاتمة: ضرورة تجاوز الطائفية
إن مواقف الشيوعيين، القوميين، والإسلاميين من إيران تستدعي مراجعة جذرية، وذلك من خلال تجاوز التصنيفات الطائفية التي تعرقل التقدم السياسي في المنطقة. من الضروري أن نُعَرِّف إيران كدولة ذات هوية ثقافية ودينية خاصة دون أن نسمح لتلك الهوية بأن تكون أداة لتفريق الأمة. الطائفية ليست حلاً للصراعات السياسية، بل هي عائق أمام الوحدة الوطنية في مواجهة الإمبريالية والأنظمة الرجعية في المنطقة.
⸻
المراجع:
• Dawisha, Adeed. Arab Nationalism in the Twentieth Century: From Triumph to Despair. Princeton: Princeton University Press, 2003.
• Maktabi, Rania. The Sunni-Shia Divide and Its Impact on Arab Politics. Beirut: Arab Center for Research and Policy Studies, 2015.
• Fandy, Mamoun. The New Arab Politics: Regionalism and the Search for Unity. New York: Cambridge University Press, 2007.
———————————————————————————————————————————————————————
يتبع القسم الثاني
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟