|
الصمود والتحدي: قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياسية في قصيدة (هذيان) للشاعر يحيى السماوي
سهيل الزهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 23:59
المحور:
الادب والفن
مقدمة:
تشكل قصيدة "هذيان" للشاعر يحيى السماوي نصًا شعريًا يتداخل فيه الخاص بالعام والذاتي بالوطني، ضمن بنية رمزية متقنة تُعبِّر عن تجربة اغتراب قسري وانتماء جريح. فهي ليست مجرد حالة ذهنية تنطق بالتيه أو الاضطراب، بل تتحول إلى صرخة إنسانية وسياسية تفضح واقعًا منهكًا بالخداع والخذلان، وتفتح فضاءً شعريًا يُعيد فيه بناء الوطن عبر اللغة بعد أن فقد جذوره في الجغرافيا. ولا يمكن فهم هذه القصيدة دون الوقوف عند التجربة الشعرية للشاعر ذاته، إذ يُعد السماوي شاعرًا وطنيًا من الطراز الأول ظل وفيًا لقضايا الوطن رغم المنفى. يعبر عن حبه للوطن بأشعار مشبعة بالحنين والتأمل، ويشخص أزماته دون تجميل؛ فهو يسعى عبر شعره إلى كشف أسباب الخلل واقتراح إمكانيات التغيير. يستلهم رموزه من ثلاثة منابع أساسية: التناص الديني والتناص التأريخي والتناص الأسطوري، ويُعرف عنه استخدامه المبدع لتقنية القناع في التعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية. تتميز القصيدة بقدرتها على توحيد مشاعر الألم والرفض مع لمسة من الحنين، حيث توظف صورًا من الطبيعة وعناصر الحياة اليومية لتجسد التباين بين الطموحات الفردية والجماعية، وبين الهوية الأصيلة والاغتراب القسري. كما تتجلى في النص إشارات قوية إلى وحدة الجراح الوطنية؛ إذ يمتد الألم من البصرة جنوبًا إلى "بيرة مكرون" في كردستان، ليصبح جرحًا مشتركًا يجمع معاناة الشعب بأكمله.
أولًا: العنوان – "هذيان" كمدخل تأويلي شامل
دلالة العنوان ووظائفه في قصيدة "هذيان"
يمثّل العنوان بوصفه العتبة النصية الأولى مفتاحًا تأويليًا أساسًا؛ فهو يفتح أفق التلقي ويضع القارئ في حالة استعداد لفهم المضامين والدلالات. في قصيدة"هذيان" للشاعر يحيى السماوي، يتجاوز العنوان معناه النفسي المباشر المرتبط بحالة ذهنية مشوشة، ليغدو رمزا متعدد الأبعاد يجسد الأبعاد الاجتماعية والسياسية إلى جانب الأبعاد النفسية. فـ "الهذيان" هنا لا يُفهم كغيره من الانفعالات الداخلية المعزولة، بل يُتخذ بعدًا وجوديًا يُعبّر عن تفكك داخلي ناتج عن صدمة الاغتراب، وخراب العالم، وانهيار قيم الانتماء. هذا يجعل العنوان صرخة إنسانية وسياسية تُدعو إلى الوعي والتمرد وإعادة بناء الهوية الوطنية، كما يتبين من التصوير الشعري الذي يشير إلى الانقسام بين الطموحات والواقع القاسي. يؤدي العنوان في هذه القصيدة ثلاث وظائف أساسية: 1. الوظيفة التعيينية: يضع العنوان القارئ أمام تجربة شعورية خاصة، فيُمهّده لدخول عالم النص الداخلي. فهو يُعلن حالة في اضطرابٍ متعمدٍ، تتطلب إعادة قراءة المفاهيم الثابتة، وهو ما يتجلى في صورة "الهذيان" كحالة عقلية وصراعية تعكس الحالة الوطنية. 2. الوظيفة الوصفية: يكشف العنوان عن الجو النفسي والفكري الذي يسود النص؛ فهو يرسخ فكرة الاضطراب الشامل ليس فقط في أذهان الأفراد، بل في الحالة العاطفية للمجتمع بأسره. مثلاً، حين يصف السماوي تجربة الهذيان، يصبح هذا الوصف إشارة إلى انزلاق الهوية بين الحلم والواقع، بين الصوت المقموع والرغبة في الإفصاح. 3. الوظيفة الدلالية الضمنية: تتجلى هذه الوظيفة بشكل تدريجي؛ ففي كل قراءة يُعمق القارئ فهمه بأن "الهذيان" ليس مجرد اضطراب فردي، بل هو مرآة للمأساة الجمعية. فالقصيدة تضع هذا العنوان كرمز يستحضر انتقادات لاذعة للنظام والواقع السياسية والاجتماعية غير العادلة، حيث يتحول الهذيان إلى شكل احتجاجٍ على عالم مختلّ. وتتجلى جمالية العنوان أيضًا عبر الانزياح اللغوي الذي يُعد سمة بارزة في أسلوب السماوي، إذ لا يُقصَد من "الهذيان" اختلالًا عقليًا بحتًا؛ بل هو شكلٌ من أشكال الاحتجاج على عالم يفقد معانيه، ويصبح علامةً على التوتر بين الحلم والواقع. تعكس هذه الشحنة الرمزية المكنونة في العنوان مختلف أوجه المقاومة والانكسار والحنين والتمرد، لتكشف عن خلاصة التجربة الشعرية الكامنة في القصيدة. إنه عنوان يُوحي بتوتر داخلي لا ينفصل عن توتر خارجي؛ فهو تعبيرٌ شعري عن وعي مأزوم يعيش في وطن مفكك، تحت فوضى عارمة، ويبحث عن خلاصه في لغة متمردة على السائد. على سبيل المثال، في قراءة بعض الصور النصية المتفرعة من العنوان، يتجلى أن الشاعر يسعى لإعادة تأطير مفاهيم الانتماء والهوية في ظل الانقسامات المعيشية والاجتماعية، مما يبرز دلالات نقدية ترتبط بأزمة حضارية لا تعرف سوى التردي.
ثانيًا: القصيدة
هذيان _______ مـا أقـربَ الـسـمـاءَ مـن عـيـنـي.. ومـا أبـعـدَ الأرضَ عـن قـدمـي! * كـنـخـلـةٍ تـنـتـصـبُ وسـط الـريـح: جذري في مكانٍ وظلي في مكانٍ آخرَ أتـدلّـى مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ الـغربة مُـتـَّـهَـمـاً بـيـقـيـنـي فـي مـحـكـمـة الـظـنـون ولـيـس مـن نـبـيٍّ جـديـدٍ يُـخـيـطُ جُـرحـي الـمـمـتـدَّ مـن نـخـيـل الـبـصـرة حـتـى سـفـوح " بيره مكرون «! * أنـا الـراعـي.. لا أمـلـكُ مـن الـقـطـيـع إلآ: الـروثَ والـبـعـر! ومن النفطِ إلاّ: السخامَ والدخان! وأملكُ مـن الـوطـن: بـعـضَ تـرابـهِ الـعـالـق بـحـذائـي حين عبرتُ حدودَهُ بجواز سفرٍ مُزوَّر.. وأمـلـكُ مـن ساستِهِ الذين امتلكوا قصور الدنيا: وعـداً بـمـرحـاضٍ فـي الـجـنـة!
ومع ذلك: سأبقى مبتسمًا رغم قوس النارِ الملتفِّ حول رقبتي!
ثالثُا: تحليل النص – من الرمزية إلى المواجهة
1- المشهد الافتتاحي:
"ما أقربَ السماءَ من عيني / وما أبعدَ الأرضَ عن قدمي!"
يعرض الشاعر تناقضًا بين مشهدين يبدوان متضادين على المستوى المادي. فعبارة "ما أقربَ السماءَ من عيني" تُشير إلى بُعد فكري قريب يُعبّر عن رغبات أو تصورات يمكن الاقتراب منها ذهنيًا، بينما تُبرز عبارة "وما أبعدَ الأرضَ عن قدمي" فقدان الارتباط بالواقع المادي. وفي هذا السياق، يحمل الحديث عن بعد الأرض دلالة مزدوجة؛ فهي لا تعكس فقط انقطاع الصلة مع الجذور والظروف الحسية، بل تؤكد أيضًا حالة الاغتراب عن الوطن، حيث يبدوا الشاعر منفصلًا عن تربة أصله التي كانت يومًا رمزًا للانتماء والأمان. بهذا، يستخدم الشاعر هذا التباين ليُظهر الصراع بين عالم التصوّر والشعور الملموس، مُسلطًا الضوء على الحالة المادية والانفصال عن الوطن. إذ أن "الأرض" هنا تمثل ليس فقط الواقع المحيط والذي يفترض أن يثبت الفرد وترسخ هويته، بل تُعبّر أيضًا عن فقدان القرب من الوطن، مما يضفي على النص بعدًا نقديًا يعكس شعور الاغتراب والانفصال عن الجذور الوطنية.
2- استعارة النخلة المشطورة:
كنخلةٍ تنتصب وسط الريح... جذري في مكانٍ وظلي في مكانٍ آخرَ تـدلّـى مـشـنـوقـاً بـحـبـلِ الـغربة في هذه الاستعارة يتجلّى استخدام الشاعر لصورة النخلة كرمز متعدد الأبعاد يُعبّر عن معاناة الانفصال والانتماء معًا. يبدأ النص بتصوير النخلة ككيان ثابت يقف شامخًا وسط عاصفة الرياح، حيث يعلن الشاعر من خلال عبارة "جذري في مكان" ارتباطه العميق بأصول الوطن وهويته الراسخة كما تُمثّلها الجذور. وعلى النقيض من ذلك، يظهر عبارة "وظلي في مكان آخر" حالة الانفصال بين الداخل والظاهر، إذ يُشير الظل هنا إلى بُعد منفصل لا ينتمي إلى نفس الإطار المكاني، مما يعكس الانقسام النفسي والمادي الذي يعاني منه الفرد في حالة الاغتراب. يتجاوز التباين الموضّح بين الثبات والانفصال مجرد تصوير جمالي، حيث يُعيد الشاعر من خلاله صياغة الهوية الشعرية لتتحول إلى صرخة نقدية تُفضح واقع الاغتراب والانهيار السوسيو-سياسي. ففي سياق هذه القراءة، تصبح النخلة أكثر من مجرد رمز نباتي، إذ تتحول إلى أيقونة معقدة متعددة الطبقات تُجسّد الهوية الوطنية المقسومة بين الأصل والمنفى، وهو ما يُسلط الضوء على محاولات التجذر في زمن يفرض فيه الواقع الانقسام والتشتت. كما تُضفي صورة "أتدلّى مشنوقًا بحبل الغربة" بعدًا وجوديًا على الاغتراب؛ إذ لا يخلو من الدلالة على أن قيد الاغتراب يتجاوز الانفصال الجغرافي، بل يمتدّ ليخلّد حالة ألم وجودي مستمر يعانيها الشاعر في ظل ظروف الانفصال والضياع. باختصار، يسعى الشاعر إلى دمج الرموز الطبيعية مع تجارب الوجدان المرهقة لتسليط الضوء على الصراع الدائم بين الرغبة في الثبات ورغبة البقاء على اتصال بالجذور، وبين واقع الانفصال الذي يفرض نفسه في مختلف جوانب الحياة. هكذا، تتحول النخلة إلى رمز نقدي يشمل معاناة الهوية الوطنية، مما يتيح للقارئ استيعاب التوتر الأساسي بين الهوية والاغتراب في ظل واقع اجتماعي وسياسي متشظٍ.
3- حالة الاتهام والشك المحيط باليقين:
"مُتَّهماً بيقيني في محكمة الظنون"
يبدأ الشاعر بتحويل اليقين إلى كيان يُدان ويُتهم ضمن "محكمة الظنون"، حيث تتحول الأفكار الثابتة والمفاهيم المعتقدة إلى موضوع مطروح للشك والنقد. إن عبارة "متَّهماً بيقيني" لا تعني أنه يُهاجم يقينه بشكل عشوائي، بل تشير إلى أن حتى الثوابت التي يُعتد بها تصبح عرضة للمساءلة في بيئة يغلب عليها الريبة والشك. تُعد "محكمة الظنون" رمزًا مليئًا بالتساؤلات، فهي ليست مؤسسة قانونية بقدر ما هي مساحة فكرية تُحاكم فيها المشاعر والأفكار تحت وطأة عدم الثقة. بهذا، يُظهر الشاعر كيف أن اليقين، الذي يُفترض أن يكون قاعدة صلبة، يتحول إلى مفهوم متغير وغير مستقر في ظل مناخ من الشك المتواصل، مما يفتح الباب لتفكيك المفاهيم الثابتة وإعادة تقييمها.
4- مفردات الاغتراب القاسي:
"وليس من نبيٍّ جديدٍ يُخيط جرحي الممتدّ من نخيل البصرة حتى سفوح بيره مكرون"
استخدام الصورة الرمزية والجغرافية:
يُوظّف الشاعر صورة رمزية ذات طابع جغرافي وشعبي لتحديد مدى اتساع الألم. فتحديد الجرح بأنه يمتد من "نخيل البصرة" إلى "سفوح بيره مكرون" يؤكد أن معاناة الشاعر ليست خاصة بفئة أو منطقة بعينها، بل هي تجربة وطنية تشمل كافة مكونات الشعب العراقي. هذا الاستخدام يسلّط الضوء على الوحدة في الوجدان الجمعي رغم الانقسامات الجغرافية أو الاجتماعية. رمزية "النبي الجديد": الشاعر لا يقصد بالنبي الجديد المفهوم الديني التقليدي، بل يستخدمه كرمز لحاجة المجتمع العراقي إلى قيادة تغييرية وقادرة على شفاء الجراح وإرساء العدالة الاجتماعية. إذ يشير إلى أنه ليست مجرد كلمات أو وعود دينية تُستشعر في المناسبات، بل يحتاج الشعب إلى شخصية قيادية تُترجم الوعود إلى أفعال ملموسة تُضمّد الجراح وتعيد الثقة والانتماء. الجراح كرمز للوحدة والجماعية: الجرح الممتد الذي تذكره العبارة يُجسد معاناة جماعية، إذ يمثّل الذكرى المؤلمة للانقسامات والتهميش في المجتمع. هذا الجرح ليس مجرد تجربة فردية، بل هو صرخة موحّدة ضد الانقسام والتهميش الذي يعيشه المواطنون. الشاعر بذلك يتخذ من الألم وقالب الانتهاكات تجربة سياسية واجتماعية تُبرز الحاجة إلى تجاوز الخلافات من أجل قلب صفحة جديدة من العدالة والمصالحة. الدلالة السياسية والنقد الاجتماعي: يجسد المقطع نقدًا لاذعًا للأنظمة التي تترك الجراح مفتوحة وغير معالجّة، مؤكِّدًا بأن الشعوب التي تعاني من الظلم والتهميش تحتاج إلى قيادة تغييرية لا تعتمد على الرموز الفارغة أو الوعود الباطلة، بل تسعى لإصلاح الواقع وتحقيق العدالة. إن هذا الموقف يُعد تحديًا للسلطات التي تترك الشعب يتألم دون أن تتحمل مسؤوليتها عن الانقسامات والخيبات.
5- التعبير عن الهوية المُهملة:
أنـا الـراعـي.. لا أمـلـكُ مـن الـقـطـيـع إلآ: الـروثَ والـبـعـر! ومن النفطِ إلاّ: السخامَ والدخان! يُصوِّر الشاعر نفسه برمز الراعي الذي فقد القدرة على امتلاك سوى بقايا لا قيمة لها، مثل "الروث" و"البعير"، في إشارة إلى حالة العجز والفقر التي يعاني منها نظامه. هنا يُظهر الشاعر كيف أن الهوية الوطنية المُهملة لم تعد تحمل الأمل أو الازدهار، بل أصبحت رمزًا للإحباط الجماعي والضياع. كما يُبرز النص التناقض الجذري بين ما كان من المفترض أن يكون مصدر النهضة—النفط الذي يرمز إلى الثراء والعزة الوطنية—وما تحول إليه في الواقع، أي "السخام" و"الدخان". هذا الاستخدام للرموز يكشف عن الخيانة الأعمق؛ حيث تُستغل موارد الوطن لخدمة مصالح نخبة محدودة تُضاعف من الفجوة بين الغنى والفقر، بينما يظل المواطن العادي مُنهَكًا بتلوث يعكس الفساد المنتشر في هذا النظام. بهذا، يُقدِّم الشاعر نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا حادًا، يعكس حالة الانقسام والانفصال بين الطموحات المتداعية للشعب والواقع المُرّ الذي يفرضه النظام. تتجسد الهوية الوطنية هنا في صورة شذوذ، تجمع بين ملامح الإحباط واليأس كدلالة على سخونة الظلم والاستغلال، مما يجعل القصيدة صرخة احتجاجية ضد تلك المعادلات غير العادلة.
6- فوضى الهوية والانتماء:
وأملكُ مـن الـوطـن : بـعـضَ تـرابـهِ الـعـالـق بـحـذائـي حين عبرتُ حدودَهُ بجواز سفرٍ مُزوَّر .. يُجسّد الشاعر في هذا المقطع معاناة الاغتراب والتمزق النفسي من خلال تصويره لحالة فقدان الهوية والانتماء. يقول: "وأملكُ من الوطن بعضَ ترابه العالق بحذائي حين عبرتُ حدودَهُ بجواز سفرٍ مزوَّر.. " في هذه الأسطر، لا تُعدّ الذرات العالقة بالحذاء مجرد بقايا أثر لعبور جغرافي؛ بل تتحوّل إلى رمز لهوية مفقودة وحنين معنوي ثقيل. فالوطن هنا لم يعد ملكًا يتمتع به الشاعر، بل صار أثرًا يُنتزع منه مع كل خطوة، مما يدل على حالة الانفصال والاغتراب العميق. كما يُبرز الشاعر استخدامه لجواز السفر المزوّر ليس كدلالة على انتهاك قانوني فحسب، بل كاستعارة كبرى لفقدان الشرعية في العيش ضمن حدود الهوية والانتماء الحقيقي. هذا الجواز المزور يرمز إلى مأزق الذات التي تُنازع بين الرغبة في الانتماء والواقع الذي لا يعترف بها، أي أن الوثائق التي كان يُفترض أن تُثبت علاقتها بالوطن ما هي إلا أوراق تُزيّن صورة زائفة بدلًا من أن تعكس الانتماء الحقيقي. بهذا، يُظهر النص حالة من الفوضى والاضطراب داخل الذات، حيث يعاني الفرد من انفصال بين هويته المُتوقعة وهويته الواقعية في وطن لا يبقي له مكانًا ثابتًا، مما يعكس نقدًا حادًا للواقع السياسي والاجتماعي الذي يُسرق فيه الفرد حتى جزئاته الأكثر حميمة
7- ترف القصور ووعود المراحيض: سخرية سوداء من سلطة تُراكم وتخدع:
"وأملك من ساسته الذين امتلكوا قصور الدنيا / وعدًا بمرحاض في الجنة"
تناول القصيدة فكرة الترف المبالغ فيه لدى السلطة مقابل وعود جوفاء للشعب بأسلوب السخرية السوداء، وتحديدًا في البيت الشعري "وأملك من ساسته الذين امتلكوا قصور الدنيا / وعدًا بمرحاض في الجنة". من خلال هذا التباين، يكشف الشاعر عن التفاوت الحاد بين الاستغلال الفاحش للثروات والامتيازات من قبل قادة المتنفذين، وبين الوعود التي تبدو فارغة وتقدم للفقراء بطريقة استهزائيه، مثل الوعد بـ"مرحاض في الجنة." يتجاوز الشاعر بذلك النقد التقليدي ليبرز العلاقة غير المتكافئة بين السلطة والشعب، حيث يتم توظيف السخرية السوداء لتحويل مسألة الوعد بالجنة إلى سخرية مؤلمة، مما يكشف عن كيفية استخدام الدين كغطاء لممارسات الفساد السياسي والتمييز الطبقي. إذ أن هذا الطرح ليس مجرد مفارقة شعرية، بل هو دعوة لوعي مجتمعي يندد بنظام يمنح المواطن القليل، فيما يحصر الثروة والكرامة والقرارات المصيرية بين أيديه. 8. لحظة التحدي في النهاية:
"ومع ذلك: سأبقى مبتسمًا / رغم قوس النار الملتفّ حول رقبتي"
تعبير عن الإصرار على الحياة والمقاومة، وعن التمسك بالأمل والكرامة رغم كل المعاناة. الابتسامة هنا ليست خضوعًا، إنما فعل تحدٍ وجودي، كأنها سلاحه الأخير أمام القهر. قوس النار هي صورة مركبة ذات دلالة قوية، تعكس الضغوط المفروضة والتهديد الدائم، وربما تشير إلى شيء عسكري مثل ساحة معركة أو خطر محيط. النار تعبر عن الخطر والعذاب والعنف، وربما ترمز إلى الرقابة السياسية أو القمع. الجزء المتعلق بالالتفاف حول الرقبة يعكس البعد الجسدي الحسي للعذاب، حيث تعتبر الرقبة رمزًا للحياة والتنفس والكلام، وكل ما يهددها هو تهديد للوجود أو للحرية. بشكل عام، الشاعر يوحي بأنه محاصر بالخطر والكبت وربما الموت، لكنه يظل مبتسمًا متحديًا تلك الظروف. هذا يمثل ذروة المقاومة الشعرية والوجودية، حيث تتحول المعاناة إلى عنصر للصمود بدلاً من الانكسار. من الناحية السياسية، قوس النار قد يعبر عن الحصار من السلطة أو الاحتلال أو القمع الاجتماعي والسياسي الذي يطوق الشاعر أو شعبه، ومع ذلك فهو لا يتخلى عن الأمل أو الكبرياء. على الصعيد النفسي، الابتسامة تحمل معنى الرفض الصامت أو التمسك بالذات رغم الألم. إنها توازن داخلي بين الخارج المضطرم والداخل الصامد.
رابعًا: الشعر كأداة للتغيير: التأمل السياسي في هذيان
تطرح قصيدة "هذيان" رؤية شاعرية مشحونة بالغضب والخذلان، حيث يتحول الشعر إلى وسيلة لمساءلة الواقع السياسي وتفكيك بنية النظام التي تمارس التهميش والخداع. العنوان "هذيان" لا يُشير فقط إلى اضطراب نفسي، بل يتجاوز ذلك ليصبح رمزًا لحالة التشويش الناتجة عن واقع سياسي واجتماعي مختل، حيث يتحول الحلم إلى جحيم يومي. في مقاطع متعددة، يُظهر الشاعر نقدًا لاذعًا للأنظمة الحاكمة من خلال صور رمزية مثل: ● "ليس من نبيٍّ جديدٍ يخيط جرحي"، ● "مرحاض في الجنة" مقابل "قصور الدنيا"، ● "قوس النار الملتفّ حول رقبتي"، ● "جواز السفر المزوَّر" و"بعض تراب الوطن العالق بالحذاء". كلها صور تكشف عن واقع شعب مسحوق بين وعد الخلاص الكاذب وواقع الإقصاء، بين الخطاب الديني المفرغ من محتواه، وبين غياب العدالة الاجتماعية والسياسية. في "هذيان"، لا ينفصل الألم الفردي عن الوجع الجماعي، بل يعكس أزمة وطنٍ تتجسد في ذات الشاعر، فيتمدد "الجرح" من نخيل البصرة حتى "سفوح بيره مكرون"، دلالة على امتداد المعاناة بين مكونات الشعب العراقي. هذه الرمزية تُبرز أن الظلم واحد، والخذلان مشترك، والحرية ما زالت حلمًا بعيدًا، مما يجعل من القصيدة صرخة سياسية واجتماعية تدعو إلى مقاومة القهر وإعادة صياغة الهوية الوطنية. رابعًا: الأسلوب الفني والبناء التعبيري يعتمد الشاعر في قصيدته على لغة رمزية معاصرة تجمع بين عبارات كلاسيكية وأخرى حديثة، مما يجعل النص يتفاعل بعمق مع واقع الوجدان الانساني، فيلامس آلامه وآماله. يتسم النص بافتتاحيات قوية تقسم المساحات الإدراكية بين السماء والأرض، ويستخدم تراكيب فنية مثل التشبيه والاستعارة لتوضيح الانفصال بين الحلم والواقع، مما يخلق حالة من التوتر الشعري بين الداخل والخارج. تتميز اللغة بثرائها المجازي وتكثيف الصورة الشعرية، حيث يختار الشاعر عبارات نارية وصادمة تُظهر بوضوح الجراح الاجتماعية والسياسية، مما يعزز من أثر النص على المتلقي عبر خلق حالة من الموافقة الشعورية على قسوة الواقع. وفي ذات السياق، تُستخدم السخرية السوداء لكشف زيف الواقع والسلطة، مما يضفي فاعلية نقدية على الرسالة. من خلال الرمزية والمفارقات، يخلق الشاعر عالمًا شعريًا متعدد الطبقات، يظهر فيه تناقض واضح بين ما يُشاع من وعود رنانة وبين الواقع المُر الذي يعيشه المواطن. تُبرز رموز مثل "بيره مكرون" الاضطهاد الشامل الذي يشمل كافة مكونات الشعب، مؤكدًا على وحدة المعاناة في مواجهة نظام يمارس الظلم ويخدع المواطنين بوعود زائفة. كما أن هذه الرموز تتحول إلى دعوة لإعادة صياغة الهوية الوطنية على أساس مقاومة مشتركة للألم والظلم، تتجاوز الانقسامات وتوحّد القوى في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية.
خاتمة: الهذيان كفعل مقاومة
قصيدة "هذيان" ليست مجرد خطاب شعري عن الاغتراب، بل هي وثيقة روحية وسياسية توثق معاناة شعب يُخدَع ويُقصى، ومع ذلك يظل متشبثًا بكرامته ووعيه. من خلال العنوان وما يحمله من أبعاد، ينجح الشاعر في تحويل الهذيان من حالة مرضية إلى أداة فكرية وجمالية تُقاوم التسلط؛ فتُعيد للذات المنفية صوتها، وللأرض المهملة ظلها. تشكل القصيدة لوحة فنية تحمل بداخلها صراعات داخلية ومجتمعية متشابكة، إذ يستعرض الشاعر حالة ذهنية غامرة تتمازج فيها عوامل الإصرار على البقاء مع مرارة الانتماء لمجتمع مضطرب. إن العنوان "هذيان" لا يُعبر فقط عن اضطراب عقلي، بل يعكس تشويش الواقع الذي يحول الحلم إلى جحيم يومي، وتسخر الأبيات من فساد السلطات واستغلال الثروات، فيتحول ألم الفرد إلى نقد حاد لهذا النظام. علاوة على ذلك، يدعو النص إلى التفكير الجماعي حول كيفية تحويل حالة الألم إلى قوة محفزة للتغيير الاجتماعي والسياسي، إذ تستلهم القصيدة من واقع الاضطهاد صرخة تحدٍ تطالب بإعادة صياغة الهوية الوطنية وبناء جسور المقاومة في وجه الفوضى والظلم. وفي النهاية، تبقى رسالة "هذيان" صرخة أمل ومسالة تدعو إلى صمود الذات، حتى وإن كان ذلك بالصمت والابتسامة المتمردة في مواجهة قوس النار الذي يحيط بها.
#سهيل_الزهاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءات نقدية : دراسة بنيوية ورمزية لقصيدة -مهرجان- للشاعر يح
...
-
*قصيدة العَلْمُ الأَحْمَرُ / الشاعر النرويجي أرنولف أوفيرلان
...
-
الشاعر سيجبيورن اوبستفلدر (1866- 1900) رائد الحداثة في النرو
...
-
مُستيقِظاً في عَتْمَةِ الغَبَشِ
-
نضال الطلبة ضد المعاهدات العراقية - البريطانية ( 1922- 1930
...
-
الوند العظيم
-
أفجعتها المصيبةُ
-
المثقفون (النشاط الفكري والسياسي في العهد العثماني )
-
النظام التعليمي في العراق ونشوء المثقفين 1900 - 1934
-
رحلة إلى قلب المخاطر
-
يجب عليك أن لا تنام
-
حزني
-
نشوء وتطور الرأسمالية في العراق
-
تركت صَمْتها هذا أعمق الأثر في نفسه
-
المناضلة الجسورة جیران شیخ محمود
-
الشهيد البطل حامد الخطيب المكنى ابو ماجد
-
ثورة أكتوبر الاشتراكية وحركة التحرر الوطني في العراق
-
نشوء الاقطاع ونضال الفلاحين في العراق*
-
في ذكرى إعدام الشهيد ماهر الزهاوي
-
الشاعر سيجبيورن اوبستفلدر (1866- 1900) رائد الحداثة في النرو
...
المزيد.....
-
المترجم سامر كروم: لماذا ينبض الأدب الروسي بحب العرب؟
-
العمود الثامن: زعيم الثقافة
-
التورنجي يتحدث عن تجربته الأدبية والحركة الأنصارية في جبال ك
...
-
الكشف عن الإعلان الترويجي لفيلم -المشروع X-.. ما قصته؟
-
فلة الجزائرية: تزوجت كويتيا ثريا أهداني طائرة خاصة ومهري لحن
...
-
الكشف عن الإعلان الترويجي لفيلم -المشروع X-.. ما قصته؟
-
مصر.. جدل بسبب اللغة الثانية وقرار وزير التعليم أمام القضاء
...
-
-معرض الكتاب- في الرباط يتذكر -السي بن عيسى- رمزا ومثالا يحت
...
-
إسرائيل زيف الرواية: الجيش يحقق مع نفسه
-
بعد وفاة الراحل سليمان عيد .. فيلم فار ب 7 تراوح يتصدر أعلى
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|