منى نوال حلمى
الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 21:43
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
" يجب أن تتحلى بشئ من الجنون ، حتى تستطيع أن تقطع الحبل ، وتكون حرا "....
" خطيئة لا يغفرها الله ، هى عندما تدعوك امرأة اليها ، ولا تذهب ". " لا أخاف شيئا ،
لا أتمنى شيئا .... أنا حر " . ... لكل انسان حماقاته الكبيرة ، لكن الحماقة الكبرى ، هى ألآ يكون لديه حماقات ؟... " أنا لا أؤمن بأى فكرة ، لا أؤمن بأى شخص ، أؤمن فقط بنفسى ، بزوربا "... " فى كل الأوقات أستطيع أن أرقص ، ارادة الحياة تتجلى ذروتها فى الرقص ".
هذه كلمات أنتونى كوين ، الشهير بزوربا اليونانى ، فى فيلم يحمل هذا الاسم 1964 ، عن رواية نيكوس كازانزاكيس 18 فبراير 1883 – 26 أكتوبر 1957 ، ووضع الموسيقى ميكيس تيودوراكس 25 يوليو 1915 – 2 سبتمبر 2021 .
اليوم 21 أبريل 2025 ، الذكرى العاشرة بعد المائة لميلاد أنتونى كوين ، واحد من أهم فنانى الفن السابع على مستوى العالم .
الخلطة الفريدة بين جيناته الايرلندية من أبيه ، وجيناته المكسيكية من أمه ، أضفت سحرا وجاذبية ودهشة ، على ملامحه ، وبنيانه الجسدى . وهذا مكنه من اضفاء التنوع فى أعماله، خاصة فى الأفلام التاريخية ، والحربية و السير الذاتية . لا ننساه فى " لورانس العرب " فى دورعودة أبو تايه ، " فيفا زاباتا " ، عن شخصية الثائر ايميليانو زاباتا ، و" أسد الصحراء " عن شخصية عمر المختار ، و" شهوة للحياة " عن شخصية فنسنت فان جوخ .
أما فيلم زوربا اليونانى 1964 ، فقام بدور البطولة مع ايرين باباس ، وآلن باتس ، موسيقى ميكيس تيودوراكس ، واخراج مايكل كاكويانيس . وهو يجسد شخصية حقيقية ، التقى بها المؤلف خلال سفرياته . وهكذا وقف انسان بسيط ، لا يعرفه أحد ، الا رجل مسافر ،
متساويا فى الأهمية ، والاستحقاق ، مع الثوار ، والزعماء ، والفنانين المبدعين ، ان لم يكن أكثر منهم .
أعتقد أن فيلم " زوربا اليونانى " ، لو هو العمل الوحيد الأوحد ، فى مسيرة
" أنتونى كوين " ، لكان كافيا جدا ، لاعتلاء القمة . فقد أهدانا " رقصة زوربا " ، احدى أجمل وأشهر الرقصات الشعبية اليونانية ، جزيرة كريت .
أحب الحرية ، وأعشق الرقص . وزوربا اليونانى ، بدون خُطب ، وشعارات ، ومزايدات ، هو نبى الحرية ، ورسول الرقص ، بلا منافس ، ولا شبيه . زوربا لا يتكلم عن الحرية ، بل يفعلها ، يفعل الحرية ، بأن يقطع حبل العبودية ، لا يتكلم عن الحياة ، بل يفعلها ، يفعل الحياة . والرقص هو ذروة التعبير عن حياتنا ، بجميع تفاصيلها ، ولوحاتها ، أحزانها ،
وأفراحها . زوربا ، يكره الكتب التى تستهلك حياة صديقه " باسيل " ، فى التفكير والتنظير والمنطق الأكاديمى الجامد . وتحجب عنه المتع الحقيقية . لقد أسماه " دودة " الكتب ، المسجونة داخل " شرنقة " معقدة الخيوط .
زوربا لا يملك الا لغة الجسد ، يطوعها كما شاء . يتمايل ، محتضنا الهواء ، يقفز لأعلى مثل شجرة مثمرة رشيقة ، أو سحابة لم تقرر بعد ، هل تكون عاصفة ، أم مطرا .
" ان كل يوم يمر علينا ، دون أن نرقص ، هو يوم ضائع ، ومفقود ... كل حقيقة لا يصحبها ضحكات صاخبة ، هى كلام باطل .... سنندم على سنوات العمر التى انتهت ، دون أن نرقص ، ولو مرة واحدة ، ". هكذا تكلم " فريدريك نيتشه " 15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900 ، فيلسوف القوة ، الذى اعتبر أن اجادة الرقص ، احدى صفات " الانسان الأعلى " ، لأنه أعظم تجلى لارادة الحياة . بل انه قال : " ان الرقص منذر بالخطر .. ان الأقدام الرشيقة ، هى التى تجر الجيوش ، وهى التى تقرع طبول الحرب ". وهو القائل :
" لا تتجادلوا مع انسان لا يجيد الرقص ".
بالطبع ، الرقص خطير ، ومخيف . ليست صدفة ، أن أبشع المحرمات دينيا ، وأقوى المحظورات الاجتماعية والثقافية ، هى التى تقع على " الجسد " الانسانى ، وبصفة خاصة ،
جسد " المرأة " .
ان الانسان الذى يرقص ، يتحرك حركات متتالية ، على ايقاعات قصيرة ، متناغمة ، ويمكنها الانطلاق الى الأسرع أو الأبطأ ، أكثر أو أقل صخبا ، تخلق لوحة تشكيلية ، تمتع العيون والآذان ، تبهج وتسعد النفوس . نحن بالرقص نطير دون أجنحة ، ونعبر عن أصعب العواطف والأفكار ، دون أن نتكلم ، أو نمسك بالقلم ، أونشدو على الأنغام ، أو نشكل الصلصال .
فى جميع الفنون ، هناك عنصر مشترك ، وهو " مقاومة " الصخب والفوضى ،
المحيطة بالانسان . بالابداع الفنى ، يتحول الصخب الى نوتة موسيقية ، محملة بالأسرار ، ويصبح للفوضى خريطة محددة ودقيقة ، توصلنا الى مدن ، تنير بآلاف المعانى .
لا يوجد ما يحرر الانسان ، مثل الرقص . ومنذ نشوئه ، ارتبط بذروة الفردية ، والذاتية، والتعبير الحميم ، والخروج عن الأنماط السائدة ، فى المشاعر والعلاقات . الراقصة على خشبة المسرح ، ليست انسانا ، وانما عبوة من العواطف الناسفة . والراقص فى ساحة الرقص ، ليس بشريا ، وانما أقوى تجلى الهى . وكلنا يعلم الارتباط العضوى الوثيق ، بين الصوفية ، والرقص ... الله يحترمك عندما تعمل .. لكنه يحبك عندما ترقص ". مقولة شهيرة من التراث الصوفى .
جميع الأساطير القديمة ، تحتوى على ما يُعرف ب تيربسيكور ، وهى كلمة يونانية ، تعنى الشعور باللذة والسرور ، من خلال الرقص ، و" الاندماج " الكلى مع تعبيرات الجسد .
ان فاسلاف نجنسكى ، الراقص الروسى ، 12 مارس 1889 – 8 أبريل 1950 ، حصد شهرته العالمية ، من براعته فى تطويع جسده للباليه ، وتصميم حركات راقصة ، تتحدى خيال الناس ، وقدرات الجسد البشرى ، فى مواجهته للجاذبية الأرضية . فى النهاية ، أودت بصحته العقلية ، فاستحق لقب " اله الرقص المجنون ".
وفى الديانات الأرضية مثل الهندوسية ، يلعب الرقص دورا أساسيا ، حيث الاله " شيفا " ، يُعرف بقوته التدميرية ، وهو يصارع الشياطين ، وينظم سير الكون ، عن طريق الرقص ، ويعبر أتباعه بدورهم عن ايمانهم واخلاصهم ، بالطقوس الدينية الراقصة .
وأتذكر هنا جلال الدين الرومى ، سلطان العارفين 30 سبتمبر 1207 – 17 ديسمبر 1273 ، مؤسس " المولوية " ، أحد الطرق الصوفية السُنية ، حيث يدور الراقصون الدراويش ، حول الشيخ فى المركز ، لساعات طويلة ، حتى الابتعاد عن العالم الأرضى
المادى ، وصولا الى نشوة الصفاء الروحانى ، ومن ثم التواصل مع الله ، فى وحدة كلية
لا تنفصم . قال الرومى : " لا يفنى فى الله ، منْ لم يعرف قوة الرقص ".
ان قوة الرقص ، تأتى من أنه يلم الشتات المتبعثر ، المتناقض للانسان ، المجزأ بين
عقل ، وجسد ، وأحاسيس ، فى وحدة متماسكة متناغمة . الانسان المجزأ ، المنقسم ، يسهل اخضاعه ، والسيطرة عليه ، تأكيدا لمقولة : " فرق تسد .
عندما أتم زوربا اليونانى ، أقصد أنتونى كوين ، عامه الخامسة والثمانين 2016 ،
جائته دعوة من ميكيس تيودوراكس ، لأداء رقصة زوربا ، على المسرح ، بعد نصف قرن ،
من انتاج الفيلم .
كامل العدد ، وكامل الفضول ، وكامل الدهشة ، كان المسرح .. تبادل الاثنان حضنا ، لنصف دقيقة . لكنه حمل ذكريات خمسين عاما . بهدوء خلع زوربا ، الجاكت .. وبدأ يرقص رقصته ، تحمل الطزاجة الأولى ، والشغف الأول . صفق له الجمهور ، وما زال يصفق حتى الآن . خاطب أنتونى كوين ، الجمهور قائلا : " رقصة زوربا هى رقصة الحياة ". التقط ميكيس تيودوراكس الميكرفون ، فورا بعد هذه الكلمات الخمس ، يضيف : " وما الحياة الا الحرية .. رقصة زوربا هى رقصة الحرية ".
عندما سئلت عن ماهية الرقص ، باعتبارها واحدة من أيقوناته العالمية ، قالت " مارتا جراهام " 11 مايو 1894 – 1 أبريل 1991 ، أن الرقص ، هو لغة الروح الخفية .
فكرتى عن الرقص دائما ، أنه " نار أشعلها مستصغر الشرر ". واذا كانت الراقصة أو الراقص ، لا يعرف فن الاحتراق ، أو يخافه ، فعليه البحث عن شئ آخر .
هناك أشياء فى الحياة ، لا تعترف بالمنطقة الرمادية . اما " كل شئ " ، أو " لاشئ " .
قبلة العاشقين مثلا . لا يوجد شئ اسمه ، " نصف قبلة ". اما أن تكون طريقا مختصرا الى الموت ، أو لا تكون . التركيز والدقة ، والاستغراق فى اللحظة ، هى " السر " للشعور بالمتعة ، ثم ارسالها الى الآخر .
زوربا اليونانى ، موجود فى كل مكان ، وليس فقط فى جزيرة " كريت " اليونانية . لكنه محاصر بالأفكار التسلطية ، التى لا تزدهر ، الا بوجود ثقافة " القطيع " ، التى تمجد التشابه والتنميط والبرمجة ، وتزدرى الخروج من الطوابير ، وعلب السردين .
رسالة زوربا ، هى ألا نكف عن محاولتنا ، لصنع فارق بيننا ، وبين الكراسى التى نجلس عليها .... لكل انسان " ايقاع " خاص ، عليه اكتشافه . لكل انسان " رقصته " المصممة حسب مقاسات جسده ، و تستطيع اخراج " العفريت " من داخلنا . وما " العفريت " ، الا الحقيقة العارية لأنفسنا ، أمام أنفسنا ، أولا .
زوربا اليونانى ، موجود فى كل مكان ، وليس فقط فى جزيرة " كريت " اليونانية . لكنه محاصر بالأفكار التسلطية ، التى لا تزدهر ، الا بوجود ثقافة " القطيع " ، التى تؤثم جسد الانسان ، تمجد التشابه والتنميط ، وتزدرى الخروج من الطوابير ، وعلب السردين .
رسالة زوربا ، هى ألا نكف عن محاولتنا ، لصنع فارق بيننا ، وبين الكراسى التى نجلس عليها .... لكل انسان " ايقاع " خاص ، عليه اكتشافه . لكل انسان " رقصته " المصممة حسب مقاسات جسده ، و تستطيع اخراج " العفريت " من داخلنا . وما " العفريت " ، الا الحقيقة العارية لأنفسنا ، أمام أنفسنا ، أولا .
كل العالم المتحضر الراقى ، يحتفل كل عام باليوم العالمى للرقص ، فى 29 أبريل .
ويهدف الى تشجيع الحكومات على دعم فنون الرقص ، ماديا ، وثقافيا ، وادخالها فى جميع مراحل التعليم ، وتمويل مهرجانات ومسابقات الرقص ، واستمرار التوعية بأهمية وضرورة
الرقص ، فى علاج الأمراض العضوية والنفسية .
فى بلادنا ، " مينفعش " نحتفل ب 29 أبريل . حسب المفكرة العربية ، يأتى يوم 30 أبريل ، بعد يوم 28 أبريل .
وقع اليوم التاسع والعشرون ، فى بلادنا ، رغم أنه " لم يكن يرقص " .
أحيانا أتسائل ، لماذا نمشى ، اذا كنا نستطيع أن نرقص ؟. هل نخاف الوقوع ؟؟.
تتعثر خطوات الانسان ، ويقع ، لأنه يرقص على ايقاع مزيف ، مسروق ، مقلد .
لم يسقط أبدا ، منْ يلبس رقصته .
نحن لا نشعر بالسعادة ، لأننا نعى أننا ، لا نرقص بالقدر الكافى ، أو لآننا لا نحصل على الحد الأدنى للرقص ، المطلوب للبقاء أصحاء النفس والجسد .
=============================================
#منى_نوال_حلمى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟