صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 11:58
المحور:
الادب والفن
من أمثال العرب : (( أُرِيها السُّهَا وتُرِيني القَمَر)) , وهو مثل يقال في البليد تشرح له أمراً ويفهم غيره , والسُّها كويكب صغير في بنات نَعْش لا يكاد يُرى , وأصل المثل أن رجلاً أشار بإصبعه إلى السها لتراه امرأة , ثم طلب منها أن تشير إليه , فأشارت إلى القمر , فقال مقولته تلك نافضاً يده منها , وهناك من الأمثال المترجمة المتداولة بين الناس المثل القائل (( أشير الى القمر والأحمق ينظر إلى اصبعي )) , ويقال أن أصله مثل صيني , ومعناه واضح معلوم , وفي التراث العربي مثل له معنىً أعمق وأبعد غورًا , يقول : (( أريه السُّهى ويريني القمر )) , وهو مثل عربي قديم يضرب للشخص الذي يناقش صاحبَه في أمور دقيقة , فيناقشه صاحبُه في أمر واضح بيّن يحسب أنه محل النقاش , والسُّهى : نجم بعيد , يقع مجاورًا لنجم المئرز, كان الناس يستخدمون نجم السُهى لاختبار قوة أبصارهم , والمثال (أريه السهى ويريني القمر) يحكي حال كثير من الحوارات وما يتخللها من الاعتراضات التي لا تتناول النقطة محل النقاش , لا أدري إن كان استعمال هذا المثل في المناقشة يخرج المرء عن دائرة التهذيب مع الغير, أو إن كان يتضمّن ثناءً على النفس , لكنه دقيق في دلالته على كثير من المناقشات التي يفسدها الكلام بلا علم .
سبب كتابتي هذه المقامة , هو أني قرأت قبل أيام هذا البيت الشعري مكتوبا في أحد المواقع :(( شَكَونا لهم أحزاب العراق === فعابوا علينا لحوم البقر , فكانوا كما قيلَ فيما مضىِ === أُريها السُهى وتريني القمرْ)) , عندما بحثت في المعنى لم أجد ترابط بين حزب وبقر , فلماذا يعيبون ؟ ,هل أنهم لا يأكلون لحم البقر ؟ هل يأكلونه , ويحرموه على غيرهم ؟ فلماذا العياب ولماذا يعيبون , هل لأنهم من كتلة أخرى أو طراز أخر؟ فكرت ربما المقصود الغرب , ولكن أهل الغرب أيضا يأكلون لحوم البقر , ربما لحوم الخنازير أكلها يجعل الغيرة تقل لدى الآكلين , ولكني وجدت القصة ومعناها بفضل العم جوجول , أنها تتعلق بالحجاج أبن يوسف الثقفي عندما كان أميرا على العراق من قبل الأمويين في عهد عبد الملك.
أصابت أهلَ السَّواد الحاجةُ , وقَلَّ عندهم مردودُ الأرض , فقالوا : إلى الأمير نتوجَّه , ومَن يكلِّم الأمير؟ مَن يجرؤ أن يكلَّم الأمير؟ إنَّه فلان , نديمه , لا بل فلان , ثُمَّ استقرَّ الرأي أنْ يذهبوا جميعًا إليه , وفدٌ كاملٌ بلغة العصر , وصَلُوا إلى فسطاطه وقالوا بعد السلام والإذن ومراسم الدُّخول : دامَ فضلُك , لنا حاجةٌ نَوَدُّ قضاءَها , قلَّت المواسم وكِدنا لا نجني من أرضنا قفيزًا ولا إردبًّا , وكادت ألاَّ تعطي دينارًا ولا درهمًا , فقد ساء الحرث , إنِّي أتَفَهَّم حاجتكم , ولكن اشرَحُوا لي الأمر , فقال في نفسه : وكيف تقلُّ المواسم إذا قَلَّ الحرث وتَكثُر إذا كَثُرَ الحرث؟ وكيف يَكثُر الحرث إذا كثرت لوازمه؟ وكانوا يحرثون أرضهم على البقر, فقال في نفسه : يجب أن يَكثُر البقر , شرَح الوفْد حاجته وأطنَبُوا في شرْح المسألة، وعَد الأمير بالحل وهو يحسبها حسابًا لم يثقله , توجَّه إليهم قائلاً : غدًا تَعرِفون الحلَّ , ظنَّ القوم أنَّ الحجَّاج أميرَهم سيُصِيبهم بأعطياته , فتدفن حاجاتهم , وتسعد حياتهم , فقد يدعوهم غَدًا للعَطايا والهِبات , لكن الطبل سارَ في إمارته وسار معه مبلغ السلطان بأَمْرِ الأمير ينشُر في كلِّ زاويةٍ ومكان , في القُرَى وفي البلدان , وليُعلِم الشاهد فيكم الغائب : قرَّر مولانا الأمير منْع ذبْح البقر في الريف والحضر, وكل مَن يُخالِف يُعاقَب عقوبةً بالغة , ومَن يُخالِف الأمير؟ وقد دانَتْ له العِراق وقد عصيت على غيره , حتى دانَ له ما حوْل إمارته قدر إمارته وأكثر, وكيف يُخالِفونه وهم يعلَمون أنَّه يتطلَّع إلى الرُّؤوس في العِقاب , ولا يرى في غيرها مُؤدِّبًا ووازِعًا ؟ رصَد شاعرٌ أديبٌ ما حَلَّ به وبقومه , فأوجز ذلك في بيتَيْن حفظ فيهما الواقعة , وأثبت فيهما حدوثها وذكر الحل الذي قدَّمَه الحجاج , فقال الشاعر: (( شكونا اليه حال السواد فحرم فينا لحوم البقر , فكان كما قيل من قبلنا أريها السها وتريني القمر )) .
وهكذا لغير الله الشكوى لا تكون , ولو كانت إلى ذي قلب حنون , لكنَّه ضعْف البشر , تُصِيبهم الفاقَة فيَظنُّون الحلَّ عند أصحاب المال , وتَنالُهم الحاجات فيَسأَلون الحكَّام قَضاءَها , وهو أمرٌ قديم قِدَمَ الغِنَى والفقر , وقِدَم الحاكم والمحكومين , والأمير ورهطه , والملك ومملكته , والحاكم ومحكوميه , هم في الحقيقة سواء , فكلُّهم أصحاب حاجات وإنْ أعطوا وإنْ أخَذُوا , ولا يُعقَل أنْ يُصبِح صاحب الحاجة معطيًا مطلقًا وإنْ أعطى , فهو وإنْ أعطى يُعطِي ممَّا أخَذ.
السُّهَا أو السُّهَى أو السّتا أو الصَّيْدَقُ أو نُعَيْشُ (وورد في بعض المخطوطات والكتب باسم يَعِيشُ , وهو تصحيف كلمة نُعَيْش) هو نجم مرافق لنجم المئزر وأكثر خفوتاً منه , لكنهما نجم مزدوج بالنسبة للناظر من على سطح الأرض بالعين المجردة , الموجود في كوكبة الدب الأكبر بنات نعش الكبرى , نجم السُها Alcor : إسم فلكي أصيل لنجم شهير , وهو واحد من أشهر نجوم السماء , وهو أحد نجوم المغرفة الشهيرة في كوكبة الدُب الأكبر , وعندما ننظر للمغرفة , ثاني النجوم في يد المغرفة هو نجم (( المئزر Mizar )) , وعندما ندقق جيداً في نجم المئزر سنجد له رفيقاً ذو لمعان خافت , هذا هو نجم (( السُها )) , وهو ليس لامعاً جداً ولكنه بالرغم من ذلك ذو شهرة كبيرة , ففي الثقافة العربية القديمة كان يعتبره العرب معياراً لقوة الإبصار , فنجم السُها يُشكل زوجاً نجمياً مرئي مع نجم (( المئزر)) ,لكن السُها أخفت بكثير , فكان يعتبر أن الإنسان ذو البصر الحاد هو الذي يستطيع أن يميز السُها بجوار المئزر.
يعتبرالمثل (( أُرِيها السُّهَا وتُرِيني القَمَر)) نموذجا لجمالية الأمثال العربية , وقدرتها على تلخيص مواقف معقدة بكلمات قليلة , فمعناه اللغوي الظاهري : أنك تحاول أن تُري شخصًا نجمًا صغيرًا خافتًا (السُّهَا) , بينما هو يريك القمر الساطع , أي أنه يتجاهل ما تقدمه ويركز على شيء آخر أكبر وأكثر أهمية (أو ربما مختلفًا تمامًا) , ويحمل هذا المثل إسقاطات عميقة على الديناميكيات السياسية في عراق بريمير , لأننا غالبًا ما نجد هذا النوع من التباين في الأولويات ووجهات النظر , والتركيز على القضايا الثانوية وإهمال الأساسية , حيث نجد ان جهة سياسية أو حكومية تحاول التركيز على إنجازات صغيرة أو قضايا هامشية لتشتيت الانتباه عن المشاكل الكبيرة والجذرية التي يعاني منها البلد , مثل الفساد المستشري , أو الأوضاع الاقتصادية الصعبة , أو الخلافات العميقة بين المكونات , في هذه الحالة , تكون الحكومة أو الجهة السياسية (( تُري السُّهَا )) للمواطنين , بينما هم يتطلعون إلى حلول جذرية وشاملة (( القَمَر )) , أو قد ترفع بعض القوى السياسية سقف التوقعات بوعود كبيرة وطموحة (( القَمَر )) , بينما تكون الإجراءات المتخذة أو القدرة الفعلية على تحقيق هذه الوعود محدودة ومتواضعة (( السُّهَا )) , هذا يخلق فجوة بين ما يُعرض وما ينتظره الناس.
#صباح_حزمي_الزهيري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟