حين تكشف الرقمنة المستور: الأمن السيبراني في عطلة مدفوعة الأجر

الشهبي أحمد
كاتب ومدون الرأي وروائي
(Echahby Ahmed)

الحوار المتمدن-العدد: 8319 - 2025 / 4 / 21 - 04:50
المحور: قضايا ثقافية
    

حين يخرج مسؤول رسمي، بنبرة مُتفائلة أقرب إلى النشوة، ليُعلن أمام الكاميرات أننا أصبحنا من “الدول الرائدة في الأمن السيبراني”، لا تملك إلا أن تحبس ضحكة مرّة، أو تمضغ سخرية تُشبه ابتسامة موظف حكومي عالق في نظام معلوماتي لا يعمل. فالمسؤول، كعادته، يهوى التطبيل الرقمي، ويؤمن أن إطلاق منصة جديدة أو توقيع اتفاقية مع شركة أجنبية كافيان ليجعلانا في مصاف الدول التي تحمي بيانات مواطنيها كما تُحمى الأسرار النووية.

لكن بعد أيام قليلة من هذا الإنجاز الافتراضي، جاء الرد حاسماً من حيث لا ننتظر: هجوم سيبراني يُسقط مواقع إلكترونية رسمية، يُعطل الخدمات، ويُفجّر مفاجأة الموسم بتسريب معطيات حساسة من موقع CNSS، من بينها أجور كبار المسؤولين، التي خرجت إلى العلن وكأن أحدهم قرر فجأة أن يُمارس الشفافية مكانهم. أرقامٌ فلكية، وامتيازات خرافية، والناس تكتشف أن أولئك الذين يطالبونهم بشد الحزام، لا يلبسون أصلاً سراويل ضيقة.

لا أحد نطق باعتراف صريح. فقط بعض العبارات المعلّبة: "خلل تقني"، "محاولة اختراق تم التصدي لها جزئياً"، وعبارة كلاسيكية تُستعمل في مثل هذه الكوارث: "الأمور تحت السيطرة". والحقيقة أن ما تحت السيطرة فعلاً هو الخطاب الرسمي، أما المعطيات، فصارت في نزهة حرة على أرصفة الإنترنت.

نحن لا نُنكر أهمية الرقمنة، فهي ضرورة وليست ترفاً. لكن أن نرمي بأنفسنا في العصر الرقمي ونحن بلا درع حقيقي، ونخدع أنفسنا بتقارير مرتبة وعروض PowerPoint أنيقة، فتلك مغامرة قد تتحول بسهولة إلى مهزلة وطنية. الرقمنة، حين لا تكون مصحوبة بتكوين حقيقي، وحماية فعالة، وحكامة مسؤولة، لا تختلف كثيراً عن تركيب باب حديدي في كوخ من قش.

الطريف في كل هذا أن المواطن، الذي بالكاد فهم كيف يملأ استمارة إلكترونية، وجد نفسه فجأة طرفاً في فضيحة أمنية دولية. مواطن بسيط، يعيش في حي شعبي، أصبح يعرف كم يتقاضى مدير المؤسسة الفلانية، وأكثر من ذلك، بدأ يسأل: من يحمي بياناتي؟ من يضمن أن ملفي الطبي، أو شكاياتي، أو حتى شكلي في صورة البطاقة الوطنية، لن تظهر في مزاد رقمي في أحد منتديات القرصنة؟

الرقمنة عندنا، للأسف، تشتغل بمنطق “زواق القدّام”. منصات أنيقة، وتصميمات جذابة، وإعلانات مبتهجة، بينما الجدار الخلفي هشّ، يكفي أن يمرّ هاكر متدرّب ليأخذ معه ما يشاء. كل هذا ونحن ما نزال نصدّق أن كلمة السر القوية، وحظر خاصية “النسخ”، تكفي لتأمين مئات الآلاف من المعطيات الشخصية.

في النهاية، لا الأمن السيبراني مجرد ملصق على تقرير حكومي، ولا الرقمنة عصا سحرية ترفع عنا بلاء البيروقراطية. إنها مسؤولية ثقيلة، تبدأ من الصدق مع الذات، لا من التفاخر في المؤتمرات. وإلى أن نفهم هذا، سيظل المواطن المغربي كلما فتح موقعاً إلكترونياً رسمياً، يقرأ في ذهنه تلك العبارة المألوفة: “الصفحة غير متوفرة مؤقتاً... أو دائماً، من يدري؟”.

#الشهبي_أحمد (هاشتاغ)       Echahby_Ahmed#          

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات