مزهر جبر الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 8318 - 2025 / 4 / 20 - 15:03
المحور:
الادب والفن
(وحوش معاصرة)
كان يحدق عبر النافذة الى فتائل من دخان تتصاعد الى عنان السماء. لهيب النار يرتفع الى السماء، والى الجوانب. كل الانحاء من حوله، بدت كتلة من نار ودخان. قال مع نفسه:- بصري ضعيف جدا، مسامعي ضعيفة، جسدي منهك. تهاطل الدمع على خديه. لم يبكِ. الدمع رغما عنه، تدفق من عينيه، انسكب في فمه. صدره يضيق. حاول ان يتنفس بعمق؛ لم يتمكن. ضاقت الدنيا قبالته على ما وسعت. فجأة، قريبا من الشقة والنافذة التي اخرج منها رأسه الى الهواء المشبع بالحرارة، والدخان.. ابصر طائرة تحوم حول العمارة الفارغة. الشقق فيها خالية من سكانها، إلا هو وزوج ابنه، وحفيده الوحيد. سقط على بيادر من افرشة، بعضها سليمة فيما بعضها الأخر محترقة او ان قسم منها كان محترقا جزئيا. قبل سقوطه بثانية؛ سمع صوت الانفجار. ثم بعد لحظات؛ ساد السكون في المكان. :- ما هذا؟ ثمة اصوات تطن في اذنيَ. اصوات اطفال او صوت طفل واحد، ربما اكثر من طفل. تلفت الى جانبيه، الى امامه، الى السماء؛ ثم حدق في الركام تحته. بالكاد تمكن من النهوض. وقف منتصبا بكامل قامته، إنما بانحناء. تمدد بكامل جسده على ركام من حجارة وقطعة من الخرسانة، وقطع حديد، وشظايا زجاج، شعر بلسعة حرارة قوية على عجيزتيه، تحام وظل على وضعه هذا. على بعد بوصات منه؛ حذاء نسائي هنا ورجالي هناك، واحذية اطفال ممزقة، وملابس نسائية ورجالية ولأطفال كلها ممزقة، واخرى نصفها محترق. قال بألم لا يطاق:- انهما هما. بكى بصمت. لم يعد يسمع صوت الطفل، فقد انفجر في رأسه، دوي الطائرات. تأكد انه طفل واحد، أنه حسن حفيده، تحت الركام. :- لكن اين امه؟ تمزق مرة أخرى صمت المكان، انفجارات على مقربة منه. اشتدت حزم الدخان والسنة النار. غطت كل السماء فوقه. لايزال متمددا على تلة الانقاض. وضع اذنه على الفراغات في هذه التلة. عاد يسمع بكاء الطفل، كأنه الانين. نادته زوج ابنه، من الغرفة الأخرى:- ابي، حسن معاك. لم تنتظر اجابة جده. قالت:- اين ذهب هذا الطفل، انه حرك، لم يهدأ ولو للحظة. :- ابنتي، حسن، هنا، في حضني. سألها على الرغم منه، لأنه، كان قد سألها اكثر من مرة منذ هذا الصباح الى الآن. :- ماهي اخبار محمد؟ اجابته لقد جاء في الليل، ليلة البارحة. لقد مر على غرفتك، وقبلك على جبينك وانت نائم. لم يشأ ان يوقظك. امضى وطرا من الليل هنا. في الفجر، صلى صلاة الفجر، وغادر. وعد انه سوف يمر في اقرب فرصة تسنح له. بدأ ينبش في تلة الانقاض هذه، بقطعة حديد انتزعها على الرغم من ضعف بدنه، بعد جهد كبير؛ من بين الركام. دقيقة ربما اكثر قليلا من دقيقة، شعر بالتعب. الطفل يبكي بكاءا مرا على بعد منه، ربما اقل من ربع متر، غير ان جسده لم يعد كما كان قبل، على الاقل، سبعة عقود. في ذلك الوقت كان يغيب عن البيت احيانا اسابيع واخرى ايام حسب الظروف والاحوال. فز في منتصف الليل، على صراخ امه:- حسن انهض، استيقظ، لقد جاءوا. كان البيت يخيم عليه الرعب والخوف. اقتعد في زاوية الغرفة يلفه الخوف، يرتجف رعبا وخوفا. :- امي، ابي. لم يردا عليه. سمع اصوات من عمق الفناء الخارجي، اصوات غير مفهومة له، اصوات غربية جدا، على مسمعيه. رطانة. غرق البيت كل البيت في الظلام، الفانوس الوحيد قد اطفأ. ازيز الرصاص شق صمت الليل. وجد نفسه على غير إرادة منه؛ يتكور على جسده، رعبا. :- ابي، امي، ناداهما وهو يبكي. اشتد صوت الرصاص. اخذ مدفوعا بالخوف، يزحف الى الباب، رويدا رويدا، بلغ الباب.:- ابي، امي. نظر إليهما، كانا يقفان قبالة النافذة المطلة على الفناء. ابوه يقف في ركن الشباك، وامه تقف في الركن الثاني. الرصاص الذي انطلق من بندقتي ابواه؛ اضاء المكان. بللت دموعه قطعة الحديد التي لايزال ممسكا بها. نبش ونبش ونبش. هده التعب. عادت الانفجارات تدوي في كل النواحي، وعلى مقربة منه. طائرات تتجول في السماء فوقه، صواريخ، قنابل. ابنية تنهار، عمارات تتحول الى ركام. :- هنا جهنم، فجرتها شياطين الارض. تمتم بهذه الجملة مع ذات نفسه. صوت الطفل، يسمعه بوضوح تام. :- حسن اصمد، رجاءً اصمد، لم يبق ألا القليل، وسوف انتشلك؛ امهلني ثانية، استرد بها، قوتي. حاول ان يتنفس بعمق، غير ان صدره، لم يعنه. كرر عدة مرات، ثم هدأ، بانتظار ان تضخ الراحة ولو لثانية؛ القوة في جسده، ان يتنفس براحة، ان يهدأ الألم في صدره، ألم اشتد عليه، كأنه سكاكين تعمل قصا في القفص، قفصه الصدري. صرخ بكل ما في حنجرته من قوة، وبضغط الوجع المميت، أو أنه احسه مميت. رددت صدى صرخته؛ جميع جنبات الدمار، في كل العمارات التي صارت ركام، او التي لم تزل تقاوم الدمار، البيوت، الساحات، الشوارع، المستشفى القريب، المدرسة القريبة، وايضا رفات الذين ارتقت ارواحهم الى عليين. انين الطفل، حسن حفيده، بدأ يخفت. وضع اذنه تماما على تلة الانقاض. :- انه لا يزل حيا. تهاطل الدمع من عينيه، رغما عنه. تجالد على ألمه، تحامل عليه. نبش بأظافره في التراب، في الحديد، في شظايا الخرسانة، ثم استعمل في النبش، أصابع، أظافر كلتا يديه؛ على ازاحة هذا الركام. صواريخ، قنابل، طائرات تدور حوله، تحلق في السماء، قريبا من الارض. دبابات مير كافا، بعيدا؛ تفتر في الشوارع المهجورة، تسلل من هنا، من هناك، من هنالك؛ تبث ضجيجها في الخرائب. تنبه الى ان رتل منها تموضع وراء العمارة التي ربما تبعد اكثر من مائتين من الامتار. احدها تحث سيرها نحوه. شعر بان كل جسده على ضعفه؛ بدأ يهتز، يرتجف. وجد في هذه اللحظة او في هذه الثانية؛ ان هناك في داخله صراخ، او، انه نواح ولا هو بالنواح، إنما هو نواح قادم إليه من اعماق نفسه، من ازمان مضت، وتركت في كل كيانه ندوب لا يمكن لها ان تندمل، ظلت تنزف كل ذاك الزمن الذي خلا. وضعه جده في حضنه، لفه بمعطه، خوفا عليه كما فهم لاحقا ما قام به جده في تلك السنوات الخوالي. كان الدرب ترابي ومرهق المشي عليه في اتجاه غزة. يطوق مسير قافلة من نساء وشيوخ وكبار السن، واخريين؛ الرصاص والبرد وفي البداية كان المطر. مسير القافلة استغرق اكثر من يومين. في البداية هطل المطر مصحوبا بالرعد والبرق، مطرا غزيرا. عندما توقف المطر في سماء مدلهمة وقاتمة؛ كان وابل من الرصاص ينهال عليهم من التلال ومن الوديان، ومن الجانبين بلا هوادة. استبشر، انفرجت اسارير نفسه؛ فقد توقفت الدبابة على مقربة من العمارة التي صارت اثرا لا وجد لها كعمارة، بل هيكل تتلاعب فيها الرياح،على مقربة امتار منه. بدأت تدور حولها. فوقها، داخلها، حولها؛ جنود مدججين بالسلاح، يتلفتون حولهم، اعناقهم تشرئب، عيونهم تحدق في تلال الحجارة والخرسانة وشظايا الحديد. :- اصمد حسن، حتى يرحلوا، لا استطيع الحركة، خوفا من ان يكتشفوا مكاني. جاءت دبابة الى هنا، ربضت على بعد امتار مني. ظلت بقية الدبابات الى ما وراء العمارة الوحيدة التي لاتزال قائمة بهيكلها، لكن احدها عادت الى المكان. :- هل تسمعني. انتظرها ان تنسحب هي ايضا، وتلتحق بالبقية. عم المكان صمت وسكون مخيف، يحمل في ثناياه، الموت والخراب. لم يرفع رأسه، ظل لصق التلة، عيناه تنظر الى الدبابة القريبة منه، تبعد امتار قليلة. :- انسحبوا، ماذا تنتظرون؟ اتبعوا جماعتكم. خاطب صمتا طاقم دبابة مير كافا :- ما هذا؟ أه أه أه. تبسم فيما رأى رأس من بين تلال الانقاض، ملثم بالسواد، يحدق في الجهات الاربع، عيناه تقدحان شررا، او هو هكذا تصورها في خياله. بدأ يزحف ببطء، بشكل دائري، احتمى بالانقاض. دقائق قليلة جدا، الرأس اقترب كثيرا من خلف الدبابة، ظهر الرجل بكامل قامته، يلفه السواد من اخمس قدميه الى رأسه، برهة، اصبح تحتها. خرج راكضا بسرعة خاطفة؛ تخيله في مخيلته كأنه البرق، مر سريعا، مختفيا كأنه لم يكن. انفجار هائل مزق سكون الخرائب. ارتفع التكبير باسم الله للكائنات السماوية، في اعماق السماء البعيدة، والقريبة الى حد ان رؤيتها كانت واضحة، إنها تنظر الى ما يحدث تحتها، الى الابن، الى الحفيد، الى الأب، الى الأم، الى الجد. ارتفعت ألسنة اللهب، حزم الدخان، وقطع حديد الدبابة التي اصبحت اثر بعد عين؛ تناثرت في كل بقعة من الارض المحيطة بها. الدبابات الأخرى، تحركت بسرعة من خلف العمارة، فتحت فوهات مدافعها، وبنادق جنودها، الى جميع الانحاء من حولها، لا على التعين، لكنها ركزت مدافعها على التلة القريبة جدا، من الدبابة المتفجرة. الرجل ارتفع مع انقاض التراب وقطع الحديد والخرسانة، وهو في الاعلى؛ سمع صوت انفجار القذيفة تحته. تاليا، بعد اقل من ثانية؛ سمع صراخ الطفل. سقط جسده على التلة التي تحولت الى حفرة. عيناه ظلتا تبصران. رأى الجسد الملفع بالسواد حتى رأسه، كان منبطحا ارضا، على بعد امتار، يتحرك نحوه ببطء، لكن بهمة. عندما بلغهما؛ لملم اشلاء الطفل، وضعه الى جانب رجل كهل، لم يبق منه سوى رأسه، وقسم من صدره. سحبهما الى خرسانة ضخمة، نبتت على الارض على بعد مترين منه. احتمى وراء هذه القطعة الخرسانية، التي لم تتحول الى شظايا. دبابات مير كافا تفتر في الانحاء حوله، على مقربة منه، ظل على وضعه بانتظار ان تغير الدبابات وجهتها، حين تدور حول محورها؛ بحثا عنهم. :- أنها لن تغادر المكان ابدا، هو يعرف هذا. قال لنفسه. قبل المغادرة قَبًلَ جبين ابيه وهو نائم، لم يشأ ايقاظه. زوجته وقفت في يدها طفله الذي لم يبلغ بعد الخامسة من عمرة. مشى على الطريق الترابي، والذي كان يوما معبدا بالأسفلت، يوما لم يكن بعيدا من الآن. واصل مشيه محتميا بظلام الليل، بين الخرائب. طنين اصوات تطن في رأسه، قادمه إليه من اعماق ذاكرته. صراخ، توجع، حسرات، نواح، بكاء اطفال. :- اماه انا جوعان وعطشان. كلها كادت تفجر دماغه. إنما في تزامن لهذه الاصوات؛ اصوات اخرى هي ايضا ترن في دروب دماغه، رنينا مدويا وقويا جدا. :- تقدم بلا وجل. هم هناك وراء البناية. بعيدين عنها، بعدا لا يتيح لهم كشف حركتك نحو الدبابة تلك المنفردة، وراء هيكل العمارة تلك. احتمي ببقيا تلك البنايات المهدمة على الجانب، والقريبة من البناية الهدف. انظر، يرومون دخول هيكل العمارة البعيدة الى حد ما عن البقية، هذا واضح من اتجاه تحركهم نحوها، هم مجموعة من المشاة، بينهم ضباط، وضابط اخر برتبة كبيرة. امامك ربع ساعة لا اكثر، او ربما اقل. تحرك زحفا على بطنه، بقوة وسرعة. حين عاد، ابصر وجهين لرأسين تغطيهما الاتربة والسخام. هيا بسرعة ادخل. :- انتظر ثواني لا غير. أحتضنه القائد، طبع قبلة على جبينه. مروحيتان تدوران في السماء قربهم، ارتج النفق ارتجاجا قويا.:- انصتوا. قال امر المجموعة. صوت سيارة اسعاف، ثم ابتلع صوتها دوي احدى المروحيتين التي حطت في المكان. تأمل وجه الطفل. مسح التراب عنه، ثم مسح التراب عن وجه الكهل. صرخ بصمت شق صدره:- ابي، ابني. احتضنهما. انفجر ببكاء مر، لكن بصمت. لفهما وغارا معا في النفق..
#مزهر_جبر_الساعدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟