أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم برسي - الدولة النكرة: محاكم التفويض وخرافة السيادة















المزيد.....

الدولة النكرة: محاكم التفويض وخرافة السيادة


ابراهيم برسي

الحوار المتمدن-العدد: 8316 - 2025 / 4 / 18 - 08:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في بلدٍ مثقلٍ بالتشظي، حيث يُعاد اختراع الخراب يوميًا بوجوه مألوفة، وحيث تُدار الحروب بمنطق إعادة تدوير القتلة، لا تملك الكتابة ترف الحياد.

ليست الغاية من هذا النص أن يُشرح المأساة، بل أن يظل مفتوحًا على قلقها. أن يقاوم سردية المُنقذ، ويتتبع ظلال الفاعل في زمن التشويش.



في عالمٍ معطوب مثل السودان، لا يمكن التمييز بسهولة بين الفاعل والضحية، ولا بين الخطيئة والمكيدة.

ففي هذا الركام، الذي يمتد من كوبر حتى تندلتي، ومن مليط إلى الفشقة، تنهض الحرب كحالة غريزية لا تحتاج إلى مبرر، بل إلى سيناريو من التدليس تحيكه نخب مشوهة، ومؤسسات مستلبة، وذاكرة جمعية أُخضعت للغسيل الطويل. وما الجبهة الإسلامية إلا رأس هذا السيناريو، حيث الكارثة لم تكن في “عودتها” بقدر ما كانت في أنها لم تذهب أصلًا.

لقد ابتلعت الدولة منذ انقلاب 1989، ثم لبست جلباب الثورة بعد سقوطها، وتنكرت في هيئة المؤسسة العسكرية، وتحالفت مع بقايا الدولة العميقة، وأعادت بناء خطابها ضمن سرديات “السيادة”، و”الوطنية”، و”مواجهة التمرد”، لتغدو الحرب ذاتها أداة تأهيل لها، لا خاتمة لسقوطها.



حين اندلعت المعارك، صباح السبت 15 أبريل 2023، بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، والدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، كانت الجبهة الإسلامية قد أكملت بالفعل مشروع اختراقها للمؤسسة العسكرية، عبر الشبكات السرية، والواجهات القبلية، ورجال الأعمال الإسلاميين الذين مولوا العمليات، من ود إبراهيم حتى علي كرتي. فالمعركة، وإن بدت صراعًا بين “رجلين”، إلا أن ما كان يجري في الخفاء هو عودة الدولة الظل إلى السطح، معززة بتحالفات إقليمية من أنقرة إلى طهران، ومن الخرطوم إلى موسكو، ومسنودة بخطاب إعلامي يربط النجاة من “الانهيار” ببقاء الجنرال.



لم يكن صدفة أن يُفتح المجال الجوي، بعد ساعات من اندلاعها، فقط لتهريب قادة النظام السابق إلى الخارج. ولا أن تخرج فتوى من هيئة العلماء، ذات الخلفية الكيزانية، تسند الحرب بوصفها “دفعًا للصائل”. ولم يكن صدفة أن تُجهض كل المبادرات التي قادتها قوى مدنية ومبعوثون دوليون — من جدة إلى أديس — بفعل تعطيل متعمد من مكونات داخل الجيش نفسه، خوفًا من أن تُفضي التسوية إلى محاسبة. فالكارثة، كما قال والتر بنيامين، ليست فقط في أن هناك “حالة طوارئ”، بل في أن هذه الطوارئ هي القاعدة التي يُعاد إنتاجها لإيقاف عجلة التاريخ.



ما الذي يجعل الفاعل ينجو من المحاسبة ليعود بصفته مخلّصًا؟

هذا سؤال لا يُطرح في المؤتمرات، بل في تفاصيل الانهيار التي نعرفها ولا نجرؤ على مواجهتها. والمفارقة هنا. كيف لمن ثار ضدهم الشارع أن يعودوا من باب الحرب؟ كيف تحوّلت الجريمة إلى سردية خلاص؟

هذا الانتقال السلس من موقع المتهم إلى موقع “المنقذ” لا يمر إلا عبر آلة إعلامية مشغولة بإعادة تشكيل الإدراك الجمعي وترويض الذاكرة. وهو ما نجحت فيه الجبهة الإسلامية ببراعة، مستفيدة من الارتباك، ومن هشاشة الوعي الجماعي، ومن نخب اعتادت أن تسمي الخراب “قدرًا”.



منذ اليوم الأول، كانت الحرب تمضي وفق مسار يُراهن على استنزاف الذاكرة. المدن التي احترقت، مثل الجنينة وكتم ونيالا، لم تكن فقط ساحات قتال، بل نماذج لإبادة مركبة استهدفت الجغرافيا والبشر والعلاقات الاجتماعية. حيث لا يكفي قتل المساليت، بل يجب نفيهم، وتغيير تركيبة دارفور، ثم تدوير الضحية كجريمة جماعية ملتبسة. وقد فعلت الجبهة الإسلامية ما هو أكثر من القتل: إذ أعادت بناء خطابها على أطلال الجثث، ومررت عبر أبواقها، في الداخل والخارج، سردية “التمرد القبلي” و”الانفلات”، في تنويع رديء لخطاب البشير نفسه، عندما قال ذات مرة: “لن نتركها لمن يريدون تخريب الدين والوطن”.



في الخرطوم، حيث الرماد صار هواءً، كان المشهد أكثر مأساوية: البنايات التي شُيدت في عهد “النهضة الكيزانية” كانت تحترق، لكنها لم تكن وحدها. كان يحترق معها وهم الدولة، وبنية المؤسسات، وفكرة “الوطنية” التي ضلل بها الجيش مواطنيه. لأن الجيش نفسه — وقد تماهى مع الجبهة — صار جهازًا للحفاظ على امتيازات قادته، لا لحماية المدنيين. لقد رفض التحقيق في مجزرة القيادة، ثم تواطأ في انقلاب أكتوبر 2021، ثم أعاد إنتاج نفسه في خطاب الإنقاذ باسم الحرب. وكل ذلك تحت عين “الراية الإسلامية”، التي تدّعي أنها لا تزال الحارس الأمين للهوية.



ومع ذلك، فالخطر الأكبر لم يكن في الجبهة نفسها، بل في استعداد الطبقة الوسطى المهزومة نفسيًا لتصديق خطابها من جديد.

حين تُرفع صور الجنرال في أم درمان باعتباره “منقذًا”، ويُبَث بيان من مسجد بالسجانة عن “نُصرة الدولة ضد العملاء”، فذلك يعني أن أدلجة العقول نجحت، وأن النخب قد فشلت، وأن التراكم المعرفي لم يكن كافيًا لخلق حس جمعي مضاد.



تستند الجبهة، في هذا المسار، إلى شبكة إخوانية عالمية تمدها بالدعم السياسي والمالي والإعلامي. من أنقرة، حيث يُعاد تدوير خطاب أردوغان عن “نصرة الإسلام” لتبرير إرسال المسيّرات؛ إلى الدوحة، التي تمول إعلامًا يشتبك بذكاء مع النسيج الاجتماعي السوداني؛ إلى جماعات في طرابلس ودمشق وبيروت ترسل المرتزقة والسلاح — في تحالف مأساوي بين الدولة الفاشلة والمليشيا العقائدية. وما كان ذلك ليحدث لولا هشاشة الدولة السودانية، وتواطؤ بعض من داخل الأجهزة، وخوف كبار الضباط من المثول في لاهاي، أو أمام محكمة سودانية مستقلة.



لقد بلغت الحرب، في ربيع 2025، عامها الثاني ودخلت في الثالث دون أفق، لأن أطرافها لا تبحث عن حل، بل عن تثبيت مواقعها عبر النار.

الجبهة الإسلامية لا تريد وقف الحرب، لأن الحرب تُمنحها الوقت لإعادة ترتيب أوراقها، وتنظيف سجلها، وتقديم نفسها للغرب كضامن “للاستقرار” أمام “الخطر القبلي”. والجيش لا يريد وقف الحرب، لأن نهاية الحرب تعني بداية الأسئلة: من قتل؟ من أمر؟ من استفاد؟

والدعم السريع لا يريد وقفها، لأنه بات يملك أرضًا، وسلطة موازية، وشبكة علاقات إقليمية تناور بها.



منذ أن دخل البرهان بورتسودان، ومن هناك بدأ يرسل مبعوثيه من تل أبيب إلى موسكو، ومن طهران إلى القاهرة، بدا واضحًا أن ما يجري ليس إعادة تأسيس للدولة، بل تسويق لها كسلعة قابلة للتدوير، مقابل أن يغض العالم الطرف عن الجرائم. إنه شكل متأخر من النيوليبرالية العسكرية، حيث تُباع سيادة البلد مقابل حصانة القتلة، ويُصبح الدم شرطًا لتمويل المؤتمرات.



أمام هذا كله، تبقى المقاطعة فعل مقاومة. أن ترفض الاصطفاف، وأن تكتب، وأن تشكك، وأن تفضح — تلك أفعال صغيرة في وجه آلة ضخمة، لكنها أفعال تُعيد للذات جدواها. كما قال كامو: “التمرد هو تأكيد للوجود”. فنحن لا نملك سوى التمرد على سردية الفاعل المفترض، واختراق اللغة التي كُتبت بها الحرب، وفضح المقولات التي أعادت بها الجبهة نفسها في جسد الوطن. هذه ليست مجرد حرب. إنها محاولة لإعادة استعمار الذات، والهوية، والمستقبل، بقفازات محلية.



وكما قال محجوب شريف، وهو يُعرّي الزيف بكلمات لا تهاب:

“ فلنزحف نحو النور،

لو نَنحت بالأظفار،

من حقّنا نحلم

بي عالم يتسالم،

عالم ضدّ التسليح..”



وهنا، تحديدًا، يجب أن ننتبه: فالسودان لا يُحرق فقط بالرصاص، بل بالكلمات التي تُزيّف التاريخ وتُجمّل القتلة.

والسؤال الفلسفي الأكبر لم يعد: من بدأ الحرب؟

بل: لماذا صدّقناهم؟ ولماذا لا نزال نمنحهم شرف الحكاية؟



#ابراهيم_برسي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سردية لندن: مؤتمر غاب عنه القتلة ولم يصفّق له كهنة السلطان
- غسان كنفاني: هشاشة الاسم والمنفى المؤجّل
- عندما يصير الجسد ساحة معركة: تراجيديا الإنسان السوداني بين ا ...
- ما بين الدال والمدلول في حكم المعلول: شكوى الجلاد إلى لاهاي
- -ارجم دميتك وامضِ: أُمّة تُساق بالتكبير في مآلات بلا معنى-
- النظام ساقط… ولكن الظل قائم: في طقوس الإنكار وانفجارات الكذب ...
- مقاطعة الإعلام الحربي كأداة مقاومة ضد آلة الدعاية العسكرية
- مازق المثقف في المنفي: بين التماهي والهويات المنقسمة
- البحر والمدينة: ثنائية القسوة والخلاص عند حنا مينا
- من المتحف القومي إلى مكتبة الترابي: كيف يُعاد تشكيل السودان ...
- -اللجنة- لصنع الله إبراهيم.. كيف تسائل الرواية أنظمة القهر؟
- حين يصبح الجسد عقيدة: وشوم وزير الدفاع الأمريكي وسؤال الأيدي ...
- شيطان التفاصيل عبد الحي يوسف: من الجهاد إلى الفساد إلى هروبه ...
- من الطاعة إلى الهيمنة: كيف تُستخدم المصطلحات السياسية والدين ...


المزيد.....




- لِمَ انتظر هذا الرجل سن التقاعد حتى يمارس شغفه بتحويل الخردة ...
- -إن مت أريد موتا صاخبا-.. مقتل المصورة الصحفية فاطمة حسونة ب ...
- نعيم قاسم: لن نسمح لأحد بنزع سلاح حزب الله وسنواجه من يسعى ل ...
- قصة عروس في غزة فقدت عريسها قبل الزفاف بيوم
- الصحافة في عصر التزييف العميق: رؤى وتحديات من منتدى الإعلام ...
- اليمن: غارات أميركية على صنعاء والحديدة والجوف تخلف أكثر من ...
- محاكمة -التآمر-..أحكام بالسجن بين 13 و66 عاماً على قادة المع ...
- -نوفوستي-: المحتالون الذين يهاجمون الروس عبر الهاتف يعملون ت ...
- رابطة صينية تتهم واشنطن بانتهاك قواعد التجارة الدولية بشكل ص ...
- أورتاغوس -تتثاءب- ردا على أمين عام حزب الله


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم برسي - الدولة النكرة: محاكم التفويض وخرافة السيادة