|
أمريكا على مفترق الطرق: تفكك الإمبراطورية وصراع الأقطاب..كتاب
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8315 - 2025 / 4 / 17 - 14:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدمة: العولمة وكشف طبخة الحصى
العولمة، كما تشكّلت عبر عقود القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، لم تكن مجرد ظاهرة اقتصادية أو تبادل ثقافي، بل مشروعًا إمبراطوريًا بامتياز، صيغت معالمه في غرف مغلقة ونُفّذ بأيدٍ أمريكية لتكريس هيمنة الولايات المتحدة على العالم. منذ مؤتمر بريتون وودز عام 1944، الذي أسس لنظام اقتصادي عالمي يرتكز على الدولار، وحتى صعود مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، كانت العولمة أداة لصناعة "الإمبراطورية الأمريكية". هذه الإمبراطورية، التي امتدت عبر أذرع عسكرية مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، المجمع العسكري الصناعي، والبنتاغون، وأذرع إقليمية مثل إسرائيل ومحميات الخليج، لم تعتمد على الاحتلال التقليدي، بل على شبكة معقدة من النفوذ الاقتصادي، العسكري، والثقافي. لكن مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة عام 2016، كُشف النقاب عن حقيقة صادمة: العولمة، التي روّج لها قادة مثل باراك أوباما، جو بايدن، وأنتوني بلينكن، لم تكن سوى "طبخة حصى"، استنزفت الولايات المتحدة في حروب عبثية، أبعدتها عن منافسة القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا، وتركتها تواجه أزمات داخلية وخارجية. ترامب، بسياساته الحمائية وانكفائه عن منطق العولمة، حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر جدران الحماية الجمركية، لكن هذه الجدران، في واقع الأمر، ليست ضمانة لاستعادة الهيمنة الأمريكية أو تفكيك الكيانات الإمبراطورية التي صنعتها العولمة. فهل يمثل هذا الانكفاء بداية نهاية الإمبراطورية، أم مجرد محاولة يائسة لإعادة هيكلتها؟
العولمة: مشروع الإمبراطورية الأمريكية
بدأت العولمة كمشروع أمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما خرجت الولايات المتحدة كالقوة الوحيدة القادرة على قيادة العالم. مؤتمر بريتون وودز عام 1944 لم يكن مجرد اتفاق اقتصادي، بل لحظة تأسيسية لنظام عالمي يضمن تفوق الدولار كعملة احتياط عالمية. صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان أُسسا في هذا المؤتمر، صُمما ظاهريًا لتعزيز الاستقرار الاقتصادي، لكنهما في الواقع أصبحا أدوات لفرض السياسات الليبرالية الجديدة التي تخدم المصالح الأمريكية. بحلول عام 1971، عندما ألغى الرئيس ريتشارد نيكسون ربط الدولار بالذهب، اكتسب الدولار "امتيازًا مفرطًا"، مكّن الولايات المتحدة من تمويل عجزها المالي عبر طباعة النقود، واستخدام هذا النفوذ لفرض عقوبات اقتصادية على الدول المعارضة. في الموازاة، عزّزت منظمة التجارة العالمية، التي حلّت محل اتفاقية الجات عام 1995، التجارة الحرة كمحرك للعولمة. وفقًا لبيانات البنك الدولي، ارتفع حجم التجارة العالمية من 25% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في السبعينيات إلى أكثر من 60% بحلول عام 2010. هذا النمو الاقتصادي، الذي استفادت منه الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات، عزز من هيمنة الولايات المتحدة، التي شكّلت نحو 24% من الناتج العالمي في ذروة العولمة. لكن هذه الصورة المشرقة تخفي جانبًا مظلمًا: العولمة، التي رُوّج لها كوسيلة للرفاهية العالمية، أنتجت تفاوتًا اقتصاديًا حادًا داخل الدول، ودمّرت الصناعات المحلية في الدول النامية، التي أُجبرت على فتح أسواقها دون حماية.
الناتو والمجمع العسكري: أذرع الهيمنة العسكرية
إذا كانت العولمة الاقتصادية هي الوجه الناعم للإمبراطورية الأمريكية، فإن الجانب العسكري، الذي تجسّد في الناتو والمجمع العسكري الصناعي، كان الوجه القاسي. تأسس الناتو عام 1949 كتحالف دفاعي ضد الاتحاد السوفيتي، لكنه سرعان ما تحوّل إلى أداة لتوسيع النفوذ الأمريكي. بحلول عام 2025، يضم الناتو 32 دولة، ويمثل أكثر من 70% من الإنفاق العسكري العالمي، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI). الولايات المتحدة، التي تساهم بنحو 68% من ميزانية الناتو، استخدمت الحلف لتكريس هيمنتها على أوروبا، ولعب دورًا محوريًا في تدخلات عسكرية مثل يوغوسلافيا (1999)، أفغانستان (2001-2021)، وليبيا (2011). هذه التدخلات، التي غالبًا ما جرت تحت شعارات إنسانية، كشفت عن الناتو كقوة تخدم المصالح الأمريكية، وأثارت اتهامات بأنه جزء من "الهمجية العولمية". في الوقت نفسه، شكّل المجمع العسكري الصناعي، الذي يضم شركات مثل لوكهيد مارتن وبوينغ، محركًا اقتصاديًا وسياسيًا للعولمة العسكرية. في عام 2024، بلغ الإنفاق العسكري الأمريكي 934 مليار دولار، متجاوزًا إجمالي الإنفاق العسكري للدول العشر التالية، وفقًا لتقرير SIPRI. هذا الإنفاق، الذي غذّته حروب مثل العراق وأفغانستان، كلّف الخزينة الأمريكية أكثر من 6 تريليونات دولار، بحسب دراسة جامعة براون. مبيعات الأسلحة الأمريكية، التي بلغت 243 مليار دولار في عام 2023، عززت الاعتماد على الولايات المتحدة في مناطق مثل الخليج العربي، حيث أصبحت دول مثل السعودية والإمارات شركاء استراتيجيين في الحفاظ على النظام العولمي.
إسرائيل ومحميات الخليج: ركائز إقليمية
في الشرق الأوسط، لعبت إسرائيل ودول الخليج دورًا محوريًا كأذرع إقليمية للإمبراطورية الأمريكية. إسرائيل، التي تتلقى مساعدات عسكرية سنوية بقيمة 3.8 مليار دولار، لم تكن مجرد حليف، بل قوة عسكرية متقدمة تخدم المصالح الأمريكية في مواجهة القوى الإقليمية المعارضة، مثل إيران وسوريا. دعم الولايات المتحدة لإسرائيل، الذي تجلّى في تزويدها بالتكنولوجيا العسكرية ودعمها السياسي في المحافل الدولية، جعلها رأس حربة في الحفاظ على التوازن الإقليمي الذي يخدم الهيمنة الأمريكية. من ناحية أخرى، كانت دول الخليج، خصوصًا السعودية والإمارات، بمثابة محميات اقتصادية وعسكرية. هذه الدول، التي تعتمد على الحماية الأمريكية، أنفقت مليارات الدولارات على الأسلحة الأمريكية، مما عزز من قوة المجمع العسكري الصناعي. صفقة الأسلحة السعودية عام 2017، التي بلغت قيمتها 110 مليار دولار، كانت مثالًا واضحًا لتحويل التحالفات الإقليمية إلى مصدر ربح. لكن هذه العلاقة بدأت تشهد توترات مع تراجع الاعتماد الأمريكي على نفط الخليج، بفضل ثورة الغاز الصخري، مما أثار تساؤلات حول مستقبل هذه المحميات في ظل انكفاء أمريكي محتمل.
ترامب: كاشف طبخة العولمة
عندما تولى دونالد ترامب السلطة عام 2016، رفع الغطاء عن "طبخة العولمة" التي روّج لها قادة مثل أوباما، بايدن، وبلينكن، والذين بدوا، في نظر ترامب وأنصاره، كمسرح عرائس يديره لوبي العولمة. هذا اللوبي، الذي يضم النخب الاقتصادية والسياسية في واشنطن، دفع الولايات المتحدة إلى حروب استنزاف في الشرق الأوسط، خصوصًا في سوريا والعراق، كلّفتها تريليونات الدولارات وأبعدتها عن مواجهة التحديات الحقيقية، مثل صعود الصين وروسيا. حرب أفغانستان، التي استمرت 20 عامًا، والتدخل في سوريا، الذي دعمته إدارتا أوباما وبايدن، لم ينتجا سوى الفوضى واستنزاف الموارد الأمريكية. عندما رفع ترامب الغطاء، اكتشف أن ما كان يُروَّج له كطبق دسم من الرفاهية والنفوذ العالمي لم يكن سوى "طبخة حصى"، لا تقدم حلولًا للتحديات الداخلية، مثل فقدان الوظائف الصناعية، أو الخارجية، مثل المنافسة الجيوسياسية. ترامب، بخطابه الشعبوي وشعاره "أمريكا أولًا"، رفض منطق العولمة التقليدي، معتبرًا أنه أضر بالاقتصاد الأمريكي وأفقر الطبقة العاملة. سياساته، التي تضمنت فرض رسوم جمركية على الصين بنسبة 25% على الصلب و10% على الألمنيوم في عام 2018، والانسحاب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، عكست عودة إلى الحمائية. هذه السياسات هدفت إلى إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، حيث خسرت، وفقًا لمعهد السياسة الاقتصادية، نحو 5 ملايين وظيفة صناعية بين عامي 2000 و2015 بسبب التجارة الحرة. لكن ترامب لم يكتفِ بالاقتصاد، بل أعاد تقييم التحالفات العسكرية، مطالبًا حلفاء الناتو بزيادة إنفاقهم العسكري، وقلّص التدخلات العسكرية، كما في انسحابه من أفغانستان عام 2021، الذي أثار جدلًا حول تراجع الدور الأمريكي.
جدران الحماية الجمركية: إنقاذ أم مقامرة؟
سياسات الحماية الجمركية التي اعتمدها ترامب أثارت نقاشًا حول ما إذا كانت تمثل محاولة لإنقاذ الولايات المتحدة من استنزاف العولمة أم مجرد مقامرة محفوفة بالمخاطر. من جهة، يرى أنصار ترامب أن هذه السياسات تصحح اختلالات العولمة، التي أدت إلى نقل المصانع إلى دول مثل الصين، مما أضعف الاقتصاد الأمريكي. لكن النقاد يحذّرون من أن الرسوم الجمركية، التي رفعت أسعار السلع، أضرت بالمستهلكين الأمريكيين، وعززت تنافسية دول مثل الصين، التي استثمرت في التكنولوجيا. علاوة على ذلك، فإن هذه السياسات لم تؤدِ إلى تفكيك الكيانات الإمبراطورية. الناتو، على سبيل المثال، واصل توسعه، والمجمع العسكري الصناعي استمر في جني الأرباح. حتى الدولار، رغم التحديات، بقي العملة المهيمنة عالميًا. في الشرق الأوسط، ركّز ترامب على تعزيز الصفقات التجارية مع دول الخليج، كما في صفقة الأسلحة السعودية، ودعم اتفاقيات إبراهيم لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكنه لم يقدم ضمانات حماية مطلقة، مما أثار تساؤلات حول مستقبل هذه التحالفات. هذا الانكفاء، إذن، لا يمثل بالضرورة تصفية للكيانات الإمبراطورية، بل محاولة لإعادة هيكلتها بما يتماشى مع التحديات الجديدة. لكن جدران الحماية الجمركية، التي راهن عليها ترامب، ليست ضمانة للنجاح، إذ إنها تواجه مقاومة داخلية وخارجية، ولا تعالج جذور الأزمة التي خلقتها العولمة.
خاتمة: إعادة تعريف أم نهاية؟
كشف ترامب عن "طبخة الحصى" التي روّج لها لوبي العولمة، لكنه واجه تحديًا معقدًا: كيف يمكن إنقاذ الولايات المتحدة من استنزاف العولمة دون تفكيك النظام الذي جعلها إمبراطورية؟ سياساته الحمائية، رغم طابعها الشعبوي، لم تقدم حلولًا شاملة، بل فتحت الباب أمام نقاش أعمق حول طبيعة العولمة وآثارها. إذا كانت العولمة قد أنتجت حروبًا وتفاوتًا اقتصاديًا، فإن انكفاء ترامب قد يكون خطوة نحو نظام عالمي أقل هيمنة، لكنه ليس ضمانة لذلك. السؤال الجوهري يبقى: هل يمكن تفكيك الإمبراطورية الأمريكية دون استبدالها بنموذج آخر من الهيمنة؟
ترامب وفلسفة "أمريكا أولًا": كسر قواعد العولمة
عندما تولى دونالد ترامب السلطة في يناير 2017، لم يكن مجرد رئيس جديد يدير دفة الولايات المتحدة، بل كان رمزًا لتمرد شعبوي ضد النظام العالمي الذي صيغ بعناية على مدى عقود. فلسفته، التي تجسدت في شعار "أمريكا أولًا"، لم تكن مجرد خطاب انتخابي، بل رؤية جذرية تسعى إلى تفكيك منطق العولمة الذي قادته إدارات سابقة، من بيل كلينتون إلى باراك أوباما وجو بايدن. هذه الإدارات، التي بدت في عيون ترامب وأنصاره كدمى تُحرّكها خيوط لوبي العولمة، قادت الولايات المتحدة إلى استنزاف في حروب لا طائل منها، واتفاقيات تجارية أضرت بالطبقة العاملة الأمريكية، وتحالفات عسكرية أرهقت خزينة الدولة. ترامب، بأسلوبه الاستفزازي ونهجه الحمائي، رفع الغطاء عن "طبخة الحصى" التي أنتجتها العولمة، واكتشف أنها لم تترك في يد أمريكا سوى أعباء اقتصادية وسياسية ثقيلة. محاولته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر جدران الحماية الجمركية، إعادة تقييم التحالفات، وتقليص التدخلات العسكرية، شكّلت نقطة تحول محتملة في مسار الإمبراطورية الأمريكية. لكن هل كانت هذه السياسات خطوة نحو تفكيك الكيانات الإمبراطورية التي صنعتها العولمة، أم مجرد إعادة هيكلة للهيمنة الأمريكية في عالم متغير؟ هذا الفصل يغوص في سياق فلسفة "أمريكا أولًا"، دوافعها، وتداعياتها على النظام العالمي.
السياق: أزمة العولمة والصعود الشعبوي
للوقوف على جذور فلسفة ترامب، يجب فهم السياق الذي أنتجها. بحلول منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كانت العولمة، التي رُوّج لها كمحرك للرفاهية العالمية، تواجه أزمة وجودية. اتفاقيات التجارة الحرة، مثل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) عام 1994، وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، أدت إلى نقل ملايين الوظائف الصناعية من الولايات المتحدة إلى دول ذات تكاليف عمل أقل. وفقًا لتقرير معهد السياسة الاقتصادية، خسرت الولايات المتحدة نحو 5 ملايين وظيفة في قطاع التصنيع بين عامي 2000 و2015، معظمها بسبب هذه الاتفاقيات. مدن صناعية مثل ديترويت وكليفلاند، التي كانت يومًا مراكز للتصنيع الأمريكي، تحولت إلى أحزمة صدأ، حيث تفاقمت البطالة والفقر. هذا التحول الاقتصادي لم يكن مجرد أرقام، بل أنتج غضبًا شعبيًا ضد النخب العولمية، التي بدت منفصلة عن واقع الطبقة العاملة. في الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة غارقة في حروب استنزاف في الشرق الأوسط. حرب أفغانستان (2001-2021) والعراق (2003-2011)، اللتان كلفتا أكثر من 6 تريليونات دولار وفقًا لدراسة جامعة براون، لم تحققا أهدافًا استراتيجية واضحة، بل أنتجتا فوضى إقليمية وخسائر بشرية هائلة. التدخل في سوريا، الذي دعمته إدارتا أوباما وبايدن، أضاف إلى هذا الاستنزاف، حيث أُنفقت مليارات الدولارات على دعم فصائل مسلحة دون تحقيق استقرار. هذه الأزمات تزامنت مع صعود قوى جيوسياسية جديدة، خصوصًا الصين وروسيا. الصين، التي استفادت من العولمة لتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بحلول عام 2010، بدأت تتحدى الهيمنة الأمريكية عبر مبادرة الحزام والطريق واستثماراتها التكنولوجية. روسيا، من جانبها، استعادت نفوذها الجيوسياسي، خصوصًا بعد تدخلها في سوريا عام 2015، مما كشف عن تراجع القدرة الأمريكية على فرض إرادتها عالميًا. في هذا السياق، ظهر ترامب كصوت للتمرد، يعكس إحباط الطبقة العاملة الأمريكية ويستغل تراجع الثقة في النخب السياسية التقليدية.
فلسفة "أمريكا أولًا": رفض العولمة
فلسفة "أمريكا أولًا"، التي قادها ترامب، لم تكن مجرد شعار، بل رؤية سياسية واقتصادية تهدف إلى إعادة تعريف دور الولايات المتحدة في العالم. في خطابه الافتتاحي عام 2017، أعلن ترامب: "لقد أثرينا دولًا أجنبية بينما تآكلت ثروتنا، وقوتنا، وثقتنا... من الآن فصاعدًا، ستكون أمريكا أولًا". هذه الكلمات لخصت جوهر نهجه: رفض العولمة كمشروع يخدم النخب العالمية على حساب المصالح الأمريكية. ترامب رأى أن اتفاقيات التجارة الحرة، التحالفات العسكرية، والتدخلات الخارجية، التي روّجت لها إدارات مثل كلينتون، بوش، وأوباما، لم تجلب سوى الخسارة للشعب الأمريكي. على المستوى الاقتصادي، اتخذ ترامب خطوات جذرية لكسر قواعد العولمة. في عام 2017، أعلن انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، التي كانت تهدف إلى تعزيز التجارة الحرة مع دول آسيا والمحيط الهادئ. في عام 2018، أعاد التفاوض على اتفاقية NAFTA، ليحل محلها اتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا (USMCA)، التي ركزت على حماية الصناعات الأمريكية. لكن الخطوة الأبرز كانت حربه التجارية مع الصين، حيث فرض رسومًا جمركية بنسبة 25% على الصلب و10% على الألمنيوم المستورد، إضافة إلى رسوم على بضائع صينية بقيمة 360 مليار دولار. هذه السياسات، التي أثارت ردود فعل متباينة، هدفت إلى إعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة وتقليص العجز التجاري مع الصين، الذي بلغ 419 مليار دولار في عام 2018. على المستوى العسكري، أعاد ترامب تقييم التحالفات التقليدية. الناتو، الذي كان ركيزة الهيمنة الأمريكية في أوروبا، واجه انتقادات حادة من ترامب، الذي وصفه بأنه "عفا عليه الزمن" في حملته الانتخابية عام 2016. خلال قمة الناتو عام 2018، طالب ترامب الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى 2% من ناتجها المحلي، مهددًا بالانسحاب إذا لم يمتثلوا. تصريحاته، التي أثارت قلق الحلفاء الأوروبيين، عكست رؤيته بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل أعباء الحماية العسكرية للعالم. في الوقت نفسه، قلّص ترامب التدخلات العسكرية، حيث أمر بالانسحاب من أفغانستان عام 2021، وهي خطوة أنهت أطول حرب في التاريخ الأمريكي، لكنها كشفت عن فوضى في التخطيط وتراجع النفوذ الأمريكي.
الدوافع: شعبوية أم استراتيجية؟
دوافع ترامب لتبني فلسفة "أمريكا أولًا" كانت مزيجًا من الشعبوية والاستراتيجية. على المستوى الشعبوي، استغل ترامب الغضب الشعبي ضد النخب العولمية، التي بدت في عيون الناخبين الأمريكيين كقوة منفصلة عن واقعهم. في حملته الانتخابية، ركز ترامب على ولايات الأحزمة الصناعية مثل أوهايو وبنسلفانيا، حيث وعد بإعادة الوظائف المفقودة ومحاسبة الدول التي "تسرق" الثروة الأمريكية، خصوصًا الصين. هذا الخطاب الشعبوي، الذي تبناه أيضًا زعماء مثل بوريس جونسون في بريطانيا ومارين لوبان في فرنسا، عكس موجة عالمية من الرفض للعولمة. لكن دوافع ترامب لم تكن شعبوية فقط، بل تضمنت بُعدًا استراتيجيًا. ترامب أدرك أن العولمة، التي خدمت الولايات المتحدة في القرن العشرين، أصبحت عبئًا في القرن الحادي والعشرين. الصين، التي استفادت من التجارة الحرة لتصبح قوة اقتصادية وعسكرية، بدأت تتحدى الهيمنة الأمريكية. في عام 2020، تجاوز الاقتصاد الصيني 70% من حجم الاقتصاد الأمريكي، وفقًا لبيانات البنك الدولي، واستثمارات الصين في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة هددت تفوق أمريكا التكنولوجي. روسيا، من جانبها، استعادت نفوذها في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، مما جعل الولايات المتحدة تواجه منافسة غير مسبوقة. في هذا السياق، رأى ترامب أن استمرار السياسات العولمية التقليدية، مثل التدخلات العسكرية والاتفاقيات التجارية متعددة الأطراف، لن يحافظ على الهيمنة الأمريكية، بل سيزيد من استنزافها. سياساته الحمائية، التي تضمنت فرض عقوبات على شركات صينية مثل هواوي، وحظر تطبيقات مثل تيك توك، كانت محاولة لكبح جماح الصين اقتصاديًا وتكنولوجيًا. كذلك، سعى ترامب إلى إعادة توجيه الموارد الأمريكية نحو الداخل، عبر تخفيض الضرائب على الشركات في عام 2017، مما شجع الاستثمار المحلي، لكن هذه السياسات لم تحقق النتائج المرجوة بالكامل، حيث استمر العجز التجاري في النمو.
إسرائيل: دعم مشروط بالمصالح
موقف ترامب من إسرائيل يعكس تعقيد فلسفته. على عكس الإدارات السابقة، التي قدمت دعمًا غير مشروط لإسرائيل كجزء من النظام العولمي، اتخذ ترامب نهجًا عمليًا يربط الدعم بالمصالح الأمريكية المباشرة. في عام 2017، أعلن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهي خطوة رمزية أثارت جدلًا دوليًا، لكنها عززت موقفه بين الناخبين الإنجيليين في الولايات المتحدة. في عام 2020، توسط ترامب في اتفاقيات إبراهيم، التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات، البحرين، والسودان، مما قلّص من الحاجة إلى تدخل أمريكي مباشر في المنطقة. لكن دعم ترامب لإسرائيل لم يكن مطلقًا. تصريحاته المتكررة حول ضرورة أن تدفع الدول الحليفة مقابل الحماية الأمريكية أثارت تساؤلات حول مستقبل العلاقة مع إسرائيل. في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز عام 2019، قال ترامب: "نحن ندفع مليارات الدولارات لحماية دول أخرى، ويجب أن يدفعوا نصيبهم". هذا النهج العملي، الذي يرى في التحالفات صفقات تجارية، يتناقض مع الرؤية العولمية التقليدية، التي اعتبرت إسرائيل ركيزة استراتيجية لا غنى عنها.
تداعيات فلسفة "أمريكا أولًا"
سياسات ترامب، رغم طابعها الجريء، أنتجت نتائج متباينة. على المستوى الاقتصادي، ساهمت الرسوم الجمركية في إعادة بعض الصناعات إلى الولايات المتحدة، حيث أعلنت شركات مثل فوكسكون وتسلا عن استثمارات في مصانع محلية. لكن هذه السياسات رفعت أسعار السلع، مما أثر على المستهلكين الأمريكيين، ولم تقلّص العجز التجاري بشكل كبير. وفقًا لمكتب الإحصاء الأمريكي، ظل العجز التجاري مع الصين مرتفعًا، حيث بلغ 345 مليار دولار في عام 2020. على المستوى الجيوسياسي، أثارت سياسات ترامب توترات مع الحلفاء التقليديين. انتقاداته للناتو، وفرض رسوم على الواردات الأوروبية، أضعفت الثقة في القيادة الأمريكية. في الوقت نفسه، عززت سياساته تنافسية القوى الأخرى. الصين، التي ردت على الرسوم الجمركية بفرض رسوم على المنتجات الأمريكية، استثمرت بقوة في التكنولوجيا، مما جعلها أقرب إلى تحدي التفوق الأمريكي. روسيا، من جانبها، استغلت الفراغ الأمريكي في الشرق الأوسط لتعزيز نفوذها في سوريا وإيران. على المستوى الداخلي، نجح ترامب في تعبئة قاعدة شعبية واسعة، لكنه عمّق الانقسامات السياسية. سياساته الحمائية، التي رأى فيها البعض دفاعًا عن السيادة الوطنية، اعتبرها آخرون عودة إلى العزلة، تهدد مكانة أمريكا كقائدة للعالم الحر. هذا الانقسام تجلى بوضوح في انتخابات 2020، التي أدت إلى خسارته أمام جو بايدن، الذي سعى إلى استعادة النهج العولمي التقليدي.
نقد فلسفة "أمريكا أولًا"
فلسفة "أمريكا أولًا"، رغم طابعها الثوري، لم تكن خالية من العيوب. النقاد، مثل الاقتصادي جوزيف ستيغليتز، يرون أن الرسوم الجمركية أضرت بالاقتصاد الأمريكي أكثر مما نفعته، حيث أدت إلى ارتفاع التضخم وتقليص القدرة التنافسية للشركات الأمريكية. كذلك، فإن تقليص التدخلات العسكرية، مثل الانسحاب من أفغانستان، كشف عن ضعف في التخطيط الاستراتيجي، مما أضر بسمعة أمريكا كقوة عظمى. في الشرق الأوسط، أثارت سياسات ترامب العملية، مثل التركيز على الصفقات التجارية مع دول الخليج، تساؤلات حول التزام أمريكا بحماية حلفائها، مما دفع دولًا مثل السعودية إلى تنويع تحالفاتها مع الصين وروسيا. من ناحية أخرى، يرى مؤيدو ترامب أن فلسفته كانت ضرورية لتصحيح مسار العولمة. الكاتب السياسي ستيف بانون، أحد مهندسي حملة ترامب، وصف العولمة بأنها "نظام يخدم النخب على حساب الشعوب". في هذا السياق، كانت سياسات ترامب محاولة لاستعادة السيادة الوطنية، لكنها اصطدمت بحقيقة أن الإمبراطورية الأمريكية، التي بنيت على العولمة، لا يمكن تفكيكها بسهولة دون إعادة هيكلة شاملة للنظام العالمي.
الخلاصة
فلسفة "أمريكا أولًا"، التي قادها دونالد ترامب، شكّلت تحديًا مباشرًا لمنطق العولمة الذي صنعت الإمبراطورية الأمريكية. سياساته الحمائية، إعادة تقييم التحالفات، وتقليص التدخلات العسكرية، كانت محاولة لإنقاذ الولايات المتحدة من استنزاف العولمة، لكنها لم تؤدِ إلى تفكيك الكيانات الإمبراطورية مثل الناتو، إسرائيل، أو المجمع العسكري الصناعي. بدلاً من ذلك، أنتجت هذه السياسات نظامًا مختلطًا، يجمع بين الحمائية والعولمة، دون تقديم ضمانات لاستعادة الهيمنة الأمريكية. في عالم يشهد صعود قوى جديدة وتحديات داخلية، يبقى السؤال: هل كانت فلسفة ترامب خطوة نحو نظام عالمي أكثر عدالة، أم مجرد محاولة يائسة لإنقاذ إمبراطورية تترنح؟
الفصل الثالث: تداعيات الحمائية: البورصات، التكنولوجيا، وصراع الهيمنة
عندما أعلن دونالد ترامب في أبريل 2025 عن فرض تعريفات جمركية جديدة تصل إلى 145% على البضائع الصينية، كان الهدف الظاهر هو حماية الاقتصاد الأمريكي وإعادة الصناعات إلى الولايات المتحدة. لكن هذه الخطوة، التي جاءت كجزء من فلسفة "أمريكا أولًا"، لم تكن مجرد سياسة اقتصادية، بل زلزال جيوسياسي هزّ أسواق المال العالمية، وأعاد تشكيل ديناميكيات الصناعات التكنولوجية، وكشف عن هشاشة النظام العالمي الذي بنته العولمة. البورصات، التي تُعد مقياسًا حساسًا لثقة المستثمرين، شهدت تقلبات حادة، بينما كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية، مثل أبل ونفيديا، واجهت معضلة معقدة: كيف تتعامل مع ارتفاع تكاليف الواردات من الصين، التي تحتكر إنتاج العديد من المنتجات التكنولوجية المتقدمة؟ في الوقت نفسه، استغلت هذه الشركات الفرصة الناتجة عن إعفاءات مؤقتة لتجنب الضرائب الجمركية على منتجات مثل الهواتف الذكية والرقائق الإلكترونية، مما أثار تساؤلات حول مدى استدامة هذه الاستراتيجيات في مواجهة تصعيد الحرب التجارية. هذا الفصل يستكشف تأثير التعريفات الجمركية لعام 2025 على البورصات، استجابة شركات التكنولوجيا، والتحديات التي تواجهها في ظل احتكار الصين للمنتجات التكنولوجية المتقدمة، مع النظر في الآثار طويلة الأمد على الإمبراطورية الأمريكية.
البورصات: زلزال مالي في أعقاب التعريفات
أعلن ترامب في 2 أبريل 2025 عن تعريفات "تفاضلية" تشمل 57 دولة، مع تركيز خاص على الصين، التي واجهت تعريفة بنسبة 34% في البداية، ارتفعت لاحقًا إلى 145% بحلول 9 أبريل، بالإضافة إلى تعريفات سابقة بنسبة 20% مرتبطة بقضية الفنتانيل. هذا التصعيد السريع، الذي جاء رداً على إجراءات انتقامية من بكين، أثار موجة من الذعر في الأسواق المالية. البورصات العالمية، التي كانت تعاني بالفعل من حالة عدم يقين بسبب التوترات التجارية، شهدت انخفاضات حادة. وفقًا لتقارير رويترز، خسر مؤشر S&P 500 ما يقرب من 5 تريليون دولار من قيمته السوقية خلال يومين فقط بعد إعلان التعريفات، مسجلاً أكبر انخفاض على مدى يومين في تاريخه. مؤشر داو جونز، الذي يعكس أداء الشركات الصناعية الكبرى، هبط بمقدار 1014.79 نقطة في 10 أبريل 2025، وفقًا لمنشورات على منصة X، مما عكس حالة الهلع بين المستثمرين. لم تقتصر التقلبات على الأسواق الأمريكية. في آسيا، سجل مؤشر هانغ سينغ في هونغ كونغ ومؤشر شنغهاي المركب انخفاضات طفيفة في الأيام الأولى، لكنهما تعافيا قليلاً بعد إشارات من الصين بعدم التصعيد إلى ما هو أبعد من تعريفة 125% على البضائع الأمريكية. في أوروبا، تأثرت أسواق مثل بورصة لندن ويورونكست بسبب القلق من تداعيات الحرب التجارية على سلاسل التوريد العالمية. بنك إنجلترا حذر من "تصحيحات حادة محتملة" في الأسواق، مشيرًا إلى أن المخاطر الاقتصادية العالمية "تفاقمت" بسبب التعريفات. حتى أسواق السلع لم تسلم، حيث انخفضت أسعار النفط والمعادن بسبب المخاوف من تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، بينما ارتفعت أسعار الذهب إلى مستويات قياسية كملاذ آمن. ومع ذلك، شهدت الأسواق الأمريكية انتعاشًا جزئيًا بحلول 11 أبريل، بعد أن أعلن البيت الأبيض عن إعفاءات مؤقتة لمنتجات تكنولوجية مثل الهواتف الذكية والرقائق الإلكترونية. مؤشر ناسداك، الذي يهيمن عليه قطاع التكنولوجيا، قفز بنسبة 2% في 11 أبريل، مدعومًا بارتفاع أسهم شركات مثل أبل ونفيديا، التي استفادت من هذه الإعفاءات. لكن هذا الانتعاش كان هشًا، إذ أشار ترامب لاحقًا إلى أن الإعفاءات ليست دائمة، وأن الرقائق وغيرها من المنتجات التكنولوجية قد تواجه تعريفات جديدة تحت ذريعة الأمن القومي. هذه التصريحات أعادت التوتر إلى الأسواق، حيث انخفضت أسهم شركات مثل نفيديا بعد إعلانها عن خسارة متوقعة بقيمة 5.5 مليار دولار بسبب قيود التصدير إلى الصين.
احتكار الصين للتكنولوجيا المتقدمة: معضلة أمريكية
الصين، التي أصبحت مركزًا عالميًا لتصنيع المنتجات التكنولوجية المتقدمة، تمتلك نفوذًا كبيرًا في سلاسل التوريد العالمية. وفقًا لتحليل من غولدمان ساكس، فإن 36% من الواردات الأمريكية من الصين، بما في ذلك الرقائق الإلكترونية، الهواتف الذكية، ومكونات البطاريات، تعتمد بشكل شبه حصري على موردين صينيين. هذا الاحتكار، الذي تعزز خلال عقود من العولمة، جعل الولايات المتحدة في موقف حرج عند فرض التعريفات. على سبيل المثال، تعتمد شركة أبل على مصانع صينية مثل فوكسكون لتجميع أكثر من 80% من أجهزة آيفون، بينما تعتمد شركات مثل تسلا وفورد على الصين لمكونات البطاريات الكهربائية. التعريفات الجمركية، التي وصلت إلى 145% على المنتجات الصينية، هددت بزيادة أسعار هذه المنتجات بشكل كبير. تقرير من UBS Investment Research أشار إلى أن سعر جهاز آيفون 16 برو ماكس (256 جيجابايت)، الذي يُباع بسعر 1199 دولارًا، قد يرتفع إلى 1874 دولارًا إذا تم تمرير تكاليف التعريفات بالكامل إلى المستهلكين. هذه الزيادة المحتملة أثارت مخاوف من تراجع الطلب، خصوصًا في ظل توقعات بارتفاع التضخم إلى 2.7% في 2025، وفقًا لتقديرات J.P. Morgan. لكن الصين لم تقف مكتوفة الأيدي. ردت بفرض تعريفات بنسبة 125% على البضائع الأمريكية، ووسّعت قيودها على تصدير المعادن النادرة مثل السماريوم والجادولينيوم، التي تُستخدم في تصنيع الإلكترونيات والأنظمة الدفاعية. هذه الخطوة زادت من تعقيد الوضع لشركات التكنولوجيا الأمريكية، التي تعتمد على هذه المواد. كما أدرجت الصين 10 شركات أمريكية على قائمة "الكيانات غير الموثوقة"، وحظرت استيراد معدات تسلسل الجينات من شركة أمريكية، مما أشار إلى استعداد بكين لتصعيد الحرب التجارية إلى مجالات استراتيجية.
استغلال الإعفاءات: انتصار مؤقت لشركات التكنولوجيا
في 11 أبريل 2025، أصدرت إدارة الجمارك وتأمين الحدود الأمريكية (CBP) إشعارًا بإعفاء منتجات تكنولوجية رئيسية، مثل الهواتف الذكية، الحواسيب، والرقائق الإلكترونية، من التعريفات البالغة 145%. هذا القرار، الذي جاء بعد ضغوط من شركات مثل أبل ونفيديا، التي تواصلت مع إدارة ترامب لتجنب الضرائب الجمركية، أتاح هامشًا مؤقتًا لهذه الشركات لتجنب زيادات الأسعار. أسهم أبل، على سبيل المثال، ارتفعت بنسبة 3% في تعاملات ما بعد الإعلان، مما عزز ثقة المستثمرين في قدرة الشركة على الحفاظ على هوامش ربحها. لكن هذا الإعفاء لم يكن دون ثمن. ترامب أوضح في 13 أبريل أن الإعفاءات ليست دائمة، وأن الرقائق وغيرها من المنتجات التكنولوجية قد تواجه تعريفات جديدة تحت مبرر الأمن القومي، بموجب المادة 232 من قانون توسيع التجارة لعام 1962. هذا التحول أثار جدلًا حول دوافع الإعفاءات: هل كانت استجابة لضغوط الشركات، أم محاولة لتهدئة الأسواق بعد التقلبات الحادة؟ محللون مثل دان آيفز من Wedbush Securities رأوا أن الإعفاءات كانت "نفسًا عميقًا" لشركات التكنولوجيا، لكنها لم تحل المشكلة الأساسية: الاعتماد الكبير على الصين. شركات التكنولوجيا استغلت الإعفاءات لتأخير زيادات الأسعار، لكنها بدأت في استكشاف بدائل. أبل، على سبيل المثال، زادت استثماراتها في مصانع في الهند وفيتنام، لكن المحللين حذروا من أن نقل التصنيع بالكامل من الصين قد يستغرق سنوات بسبب نقص البنية التحتية والخبرة في هذه الدول. كذلك، واجهت شركات مثل تسلا وفورد تحديات في إيجاد مصادر بديلة لمكونات البطاريات، حيث لا تمتلك الولايات المتحدة القدرة على إنتاج معدات مماثلة بسبب نقص الخبرة التقنية.
تداعيات الحرب التجارية على الاقتصاد الأمريكي
التعريفات الجمركية لم تؤثر فقط على البورصات وشركات التكنولوجيا، بل امتدت تداعياتها إلى الاقتصاد الأمريكي ككل. تقرير من J.P. Morgan توقع أن التعريفات ستؤدي إلى ارتفاع التضخم إلى 2.7% في 2025، مع زيادة أسعار الاستهلاك الشخصي (PCE) بنسبة 1-1.5%. هذا الارتفاع هدد بتقليص القوة الشرائية للأمريكيين، خصوصًا في ظل توقعات بخسارة الأسرة الأمريكية العادية حوالي 4700 دولار سنويًا بسبب ارتفاع الأسعار. على صعيد سوق العمل، أشار تقرير من The Budget Lab at Yale إلى أن التعريفات قد ترفع معدل البطالة بمقدار 0.6% بحلول نهاية 2025، مع خسارة 740 ألف وظيفة بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي. هذه التوقعات عززت مخاوف من أن التعريفات، التي رُوج لها كوسيلة لحماية الوظائف الأمريكية، قد تؤدي إلى نتائج عكسية. في الوقت نفسه، ساهمت التعريفات في زيادة العائدات الحكومية بما يقرب من 400 مليار دولار، أي حوالي 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن هذه العائدات جاءت على حساب ارتفاع الأسعار وزيادة الضغوط الاقتصادية.
الصين: استراتيجية الصمود والردع
الصين، التي واجهت ضغوطًا اقتصادية داخلية مثل تباطؤ سوق العقارات وهروب رؤوس الأموال، أظهرت مرونة ملحوظة في مواجهة التعريفات. بكين ردت بفرض تعريفات بنسبة 125% على البضائع الأمريكية، ووسعت قيودها على تصدير المعادن النادرة، مما أثر على الصناعات الأمريكية المتقدمة. كما سعت الصين إلى تنويع أسواقها التصديرية، حيث أصبحت جنوب شرق آسيا أكبر شريك تجاري لها بحلول 2024، متجاوزة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. زيارات الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى فيتنام وماليزيا في أبريل 2025 عززت هذا التوجه، حيث تسعى الصين لتقليل اعتمادها على السوق الأمريكية. على الصعيد الاستراتيجي، رأت الصين في تعريفات ترامب فرصة لتقويض الهيمنة الأمريكية. في 30 مارس 2025، استضافت الصين وكوريا الجنوبية واليابان حوارًا اقتصاديًا ثلاثيًا، وهي خطوة رمزية تهدف إلى تعزيز اتفاقية تجارة حرة إقليمية، مستغلة استياء حلفاء أمريكا من التعريفات. هذه الخطوة أثارت قلق واشنطن، التي عملت خلال إدارة بايدن على تعزيز تحالفاتها في منطقة المحيط الهادئ لمواجهة الصين.
الإمبراطورية الأمريكية: إعادة هيكلة أم تراجع؟
تعريفات ترامب، التي هدفت إلى استعادة السيادة الاقتصادية الأمريكية، كشفت عن تناقضات في بنية الإمبراطورية الأمريكية. من جهة، ساهمت التعريفات في إعادة بعض الصناعات إلى الولايات المتحدة، حيث أعلنت شركات مثل TSMC ونفيديا عن استثمارات بمليارات الدولارات في مصانع أمريكية. لكن هذه الخطوة لم تكن كافية لتعويض الاعتماد على الصين، التي تحتكر تصنيع المنتجات التكنولوجية المتقدمة. من جهة أخرى، أدت التعريفات إلى توتر العلاقات مع الحلفاء، مثل الاتحاد الأوروبي وفيتنام، التي هددت باتخاذ إجراءات انتقامية. في الشرق الأوسط، حافظت إدارة ترامب على دعمها لإسرائيل ودول الخليج، لكن نهجها العملي، الذي ربط الحماية بالصفقات التجارية، أثار تساؤلات حول التزام أمريكا طويل الأمد. السعودية، على سبيل المثال، بدأت في تنويع تحالفاتها مع الصين وروسيا، مستغلة الفراغ الناتج عن الانكفاء الأمريكي. هذا التحول أشار إلى أن التعريفات، بدلاً من تعزيز الهيمنة الأمريكية، قد تسرّع من تراجعها في مناطق استراتيجية.
الخلاصة
تعريفات ترامب الجمركية لعام 2025، التي استهدفت الصين بشكل رئيسي، هزت البورصات العالمية، وأثارت تقلبات حادة في الأسواق، مع خسائر قياسية تلتها انتعاشات هشة. شركات التكنولوجيا الأمريكية، التي استفادت من إعفاءات مؤقتة، واجهت معضلة الاعتماد على الصين، التي تحتكر تصنيع المنتجات التكنولوجية المتقدمة. بينما حاولت هذه الشركات استغلال الإعفاءات لتجنب زيادات الأسعار، ظل التحدي الأكبر هو إيجاد بدائل قابلة للتطبيق في ظل قيود سلاسل التوريد. الصين، من جانبها، أظهرت مرونة من خلال تنويع أسواقها وتصعيد إجراءاتها الانتقامية، مما جعل الحرب التجارية ساحة لصراع الهيمنة. في هذا السياق، تبدو الإمبراطورية الأمريكية عند مفترق طرق: هل تستطيع إعادة هيكلة نفسها عبر الحمائية، أم أن التعريفات ستسرّع من تراجع نفوذها العالمي؟
الفصل الرابع: الناتو: إرث الهيمنة وتحديات الانكفاء
حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تأسس عام 1949 كدرع دفاعي ضد الاتحاد السوفيتي، تحوّل على مدى عقود إلى ركيزة أساسية للإمبراطورية الأمريكية، يمتد نفوذه عبر القارات ويجسد منطق العولمة العسكرية. هذا الحلف، الذي يضم اليوم 32 دولة ويمثل أكثر من 70% من الإنفاق العسكري العالمي، لم يكن مجرد تحالف عسكري، بل أداة لتكريس الهيمنة الأمريكية على أوروبا والعالم، من خلال تدخلات في يوغوسلافيا، أفغانستان، وليبيا، ودعم أنظمة إقليمية تخدم المصالح الغربية. لكن مع صعود دونالد ترامب إلى السلطة عام 2016، وتكراره عام 2025، واجه الناتو تحديًا غير مسبوق: انكفاء أمريكي عن التزامات العولمة، مصحوبًا بانتقادات حادة لتكاليف الحلف ومطالبات بـ"تقاسم الأعباء". فلسفة "أمريكا أولًا"، التي رفضت تحمل أعباء الحماية العسكرية للعالم، أثارت تساؤلات حول مستقبل الناتو: هل يواجه الحلف خطر التصفية، أم أنه يتكيف ليظل أداة للهيمنة في عالم متغير؟ هذا الفصل يستكشف دور الناتو كذراع عسكرية للإمبراطورية الأمريكية، تأثير سياسات ترامب عليه، والتحديات التي تواجهه في ظل صعود قوى مثل الصين وروسيا، مع النظر في ما إذا كان انكفاء ترامب يمثل بداية تفكيك هذا الكيان أم إعادة هيكلة لدوره.
الناتو: بنية الإمبراطورية العسكرية
للوقوف على أهمية الناتو، يجب العودة إلى سياق تأسيسه. بعد الحرب العالمية الثانية، خرجت الولايات المتحدة كقوة عظمى تسعى لاحتواء الاتحاد السوفيتي، الذي شكّل تهديدًا أيديولوجيًا وعسكريًا. الناتو، الذي بدأ بـ12 دولة، كان أداة لضمان أمن أوروبا الغربية، لكنه سرعان ما أصبح إطارًا لتوسيع النفوذ الأمريكي. بحلول عام 2025، يضم الناتو 32 دولة، بما في ذلك فنلندا والسويد، اللتان انضمتا عامي 2023 و2024، مما عزز من حضور الحلف في شمال أوروبا. وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، يمثل الناتو أكثر من 70% من الإنفاق العسكري العالمي، حيث تساهم الولايات المتحدة وحدها بنحو 68% من ميزانيته، أي حوالي 816 مليار دولار من إجمالي 1.2 تريليون دولار في عام 2024. دور الناتو لم يقتصر على الدفاع، بل امتد إلى التدخلات العسكرية التي خدمت المصالح الأمريكية. تدخل الحلف في يوغوسلافيا عام 1999، عبر حملة قصف استمرت 78 يومًا، كان أول عملية هجومية له خارج إطار الدفاع الجماعي، مما أثار انتقادات بأنه تجاوز لميثاق الأمم المتحدة. في أفغانستان (2001-2021)، قاد الناتو عمليات عسكرية ضد طالبان، لكن الانسحاب الفوضوي عام 2021 كشف عن حدود قدرته على تحقيق استقرار طويل الأمد. تدخل الحلف في ليبيا عام 2011، الذي أطاح بنظام معمر القذافي، أنتج فوضى إقليمية وأثار تساؤلات حول شرعية هذه العمليات. هذه التدخلات، التي غالبًا ما جرت تحت شعارات إنسانية، جعلت الناتو، في نظر النقاد مثل نعوم تشومسكي، رمزًا لـ"الهمجية العولمية" التي تخدم أجندة الهيمنة الأمريكية. في الشرق الأوسط، لعب الناتو دورًا غير مباشر من خلال دعم أنظمة حليفة مثل إسرائيل ودول الخليج. على سبيل المثال، عملية "حارس الازدهار" عام 2019، التي شاركت فيها دول أعضاء في الناتو مثل بريطانيا وفرنسا، هدفت إلى حماية الملاحة في مضيق هرمز، مما عزز المصالح الأمريكية في مواجهة إيران. هذا الدور جعل الناتو جزءًا من شبكة معقدة من التحالفات التي تربط العولمة العسكرية بالمصالح الاقتصادية والسياسية.
ترامب والناتو: نقد وتهديدات
مع وصول دونالد ترامب إلى السلطة عام 2016، بدأ الناتو يواجه تحديًا داخليًا غير مسبوق. ترامب، الذي بنى حملته على رفض التزامات العولمة، رأى في الناتو عبئًا ماليًا لا مبرر له. في خطاب ألقاه خلال حملته الانتخابية عام 2016، وصف الحلف بأنه "عفا عليه الزمن"، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تتحمل تكاليف باهظة لحماية دول لا تساهم بشكل كافٍ. هذا النقد لم يكن جديدًا تمامًا، إذ سبق أن أثار مسؤولون أمريكيون مثل وزير الدفاع روبرت غيتس عام 2011 قضية "تقاسم الأعباء"، لكن ترامب رفع سقف المواجهة إلى مستوى غير مسبوق. خلال قمة الناتو في بروكسل عام 2018، طالب ترامب الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى 2% من ناتجها المحلي بحلول 2024، مهددًا بالانسحاب إذا لم يمتثلوا. تصريحاته، التي وصفت بأنها "عدائية" من قبل وسائل إعلام مثل الغارديان، أثارت قلق الحلفاء الأوروبيين، الذين رأوا فيها تهديدًا لوحدة الحلف. في عام 2025، مع عودته إلى البيت الأبيض، كرر ترامب هذه المطالب، مشيرًا في خطاب له في 10 فبراير إلى أن الدول التي لا تفي بالتزاماتها "لن تحظى بحمايتنا". هذه التصريحات، التي تزامنت مع فرض تعريفات جمركية على دول أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، زادت من التوترات داخل الحلف. تأثير ترامب على الناتو لم يكن سلبيًا بالكامل. ضغوطه أدت إلى زيادة ملحوظة في الإنفاق العسكري الأوروبي. وفقًا لتقرير الناتو السنوي لعام 2024، وصل عدد الدول الأعضاء التي تحقق هدف الـ2% إلى 23 دولة، مقارنة بثلاث دول فقط في عام 2014. ألمانيا، التي كانت هدفًا متكررًا لانتقادات ترامب، رفعت إنفاقها العسكري إلى 2.1% من ناتجها المحلي في 2024، مدعومة بصندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث قواتها المسلحة. هذه الزيادات، التي رأى فيها ترامب انتصارًا لسياساته، عكست استجابة الحلفاء لضغوطه، لكنها لم تخفف من مخاوفهم من تراجع الالتزام الأمريكي.
تحديات الناتو في ظل الانكفاء الأمريكي
سياسات ترامب، التي ركزت على تقليص التزامات الولايات المتحدة العالمية، وضعت الناتو أمام تحديات وجودية. أول هذه التحديات كان الشك في مصداقية المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تنص على الدفاع الجماعي. تصريحات ترامب المتكررة حول أن الولايات المتحدة لن تدافع عن دول لا تفي بالتزاماتها المالية أثارت تساؤلات حول مدى استعداد أمريكا للدفاع عن حلفاء مثل دول البلطيق أو بولندا في حالة مواجهة مع روسيا. هذا الشك زاد من التوترات داخل الحلف، خصوصًا مع تصاعد التهديدات الروسية بعد ضم أوكرانيا لأربع مناطق في 2022. التحدي الثاني كان صعود قوى منافسة مثل الصين وروسيا. الناتو، الذي صُمم أساسًا لمواجهة الاتحاد السوفيتي، وجد نفسه أمام تهديدات جديدة، مثل التوسع الصيني في المحيط الهادئ وأفريقيا، والحرب الهجينة التي تمارسها روسيا عبر الهجمات السيبرانية والتدخل في الانتخابات. في قمة الناتو في واشنطن عام 2024، أُدرجت الصين لأول مرة كـ"تحدٍ استراتيجي" في الوثيقة الختامية، مما عكس محاولة الحلف لتوسيع نطاقه. لكن هذا التوسع أثار مخاوف من أن الناتو قد يفقد تركيزه الأساسي، خصوصًا في ظل ضغوط ترامب لتقليص الإنفاق الأمريكي. التحدي الثالث كان التوترات الداخلية بين الأعضاء. سياسات ترامب الجمركية، التي استهدفت دولًا أوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، أثارت استياء الحلفاء، الذين رأوا فيها تناقضًا مع مبدأ التضامن الأطلسي. فرنسا، بقيادة إيمانويل ماكرون، دعت إلى تعزيز "السيادة الأوروبية" وتطوير قدرات دفاعية مستقلة، وهي فكرة أثارت قلق واشنطن من تراجع الاعتماد على الناتو. في الوقت نفسه، أثارت تركيا، العضو المثير للجدل في الحلف، توترات بسبب شرائها أنظمة S-400 الروسية ودعمها لجماعات إسلامية في سوريا، مما جعلها نقطة ضعف داخل الحلف.
هل يواجه الناتو خطر التصفية؟
فكرة أن سياسات ترامب قد تؤدي إلى تصفية الناتو تبدو مغرية للنقاد الذين يرون في الحلف رمزًا للهيمنة الإمبراطورية. لكن الواقع أكثر تعقيدًا. الناتو، كمؤسسة، أثبت مرونة كبيرة في مواجهة التحديات. انضمام فنلندا والسويد، على سبيل المثال، عزز من قوة الحلف في مواجهة روسيا، بينما أدت الزيادة في الإنفاق العسكري الأوروبي إلى تقليص الاعتماد على الولايات المتحدة. وفقًا لتقرير الناتو لعام 2024، بلغ إجمالي الإنفاق العسكري للدول الأوروبية 380 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ نهاية الحرب الباردة. على الرغم من تهديدات ترامب بالانسحاب، لم تُظهر الولايات المتحدة نية فعلية للخروج من الناتو. في عام 2025، وافق الكونغرس على ميزانية دفاعية بقيمة 895 مليار دولار، تشمل تمويلًا لقواعد الناتو في أوروبا الشرقية، مما يعكس استمرار الالتزام الأمريكي رغم الخطاب الحمائي. علاوة على ذلك، يظل الناتو أداة استراتيجية لمواجهة روسيا والصين، وهما تهديدان يتفق عليهما الحزبان الجمهوري والديمقراطي. تصريح وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن في فبراير 2025، الذي أكد أن "الناتو يظل حجر الزاوية في أمننا الجماعي"، عكس هذا الإجماع. ومع ذلك، فإن سياسات ترامب ألقت بظلالها على تماسك الحلف. تهديداته المتكررة، إلى جانب التعريفات الجمركية التي فرضتها إدارته عام 2025 على دول أوروبية، عززت من دعوات الاستقلال الدفاعي الأوروبي. مبادرة الدفاع الأوروبي (PESCO)، التي تضم 47 مشروعًا عسكريًا مشتركًا، اكتسبت زخمًا كبديل محتمل للاعتماد على الناتو. هذا التحول، الذي دعمته فرنسا وألمانيا، يشير إلى أن الحلف قد يواجه تقليصًا لدوره، حتى لو لم يتم تصفيته بالكامل.
الناتو والشرق الأوسط: إعادة تقييم الدور
في الشرق الأوسط، حيث كان الناتو يلعب دورًا غير مباشر من خلال دعم أنظمة مثل إسرائيل ودول الخليج، أثر انكفاء ترامب على استراتيجيات الحلف. سياسات ترامب، التي ركزت على الصفقات التجارية بدلاً من الحماية المطلقة، دفعت دول الخليج إلى تنويع تحالفاتها. السعودية، على سبيل المثال، وقّعت اتفاقيات دفاعية مع الصين عام 2024، وشاركت في تدريبات عسكرية مشتركة مع روسيا، مما أثار قلق واشنطن من تراجع نفوذها في المنطقة. إسرائيل، التي حظيت بدعم قوي من ترامب عبر نقل السفارة إلى القدس واتفاقيات إبراهيم، بدأت أيضًا في استكشاف شراكات جديدة، خصوصًا مع الهند والصين، لتعويض أي تراجع أمريكي محتمل. هذا الانكفاء أثر على دور الناتو في المنطقة. مبادرة إسطنبول للتعاون، التي أطلقها الناتو عام 2004 لتعزيز الشراكات مع دول الخليج، شهدت تباطؤًا بسبب تركيز ترامب على المصالح الاقتصادية المباشرة. في الوقت نفسه، أثارت التدخلات السابقة للناتو، مثل ليبيا، انتقادات من دول عربية، مما جعل الحلف يواجه صعوبات في توسيع نفوذه في المنطقة. هذه التحديات أشارت إلى أن انكفاء ترامب قد يقلّص من الدور الإقليمي للناتو، دون أن يؤدي إلى انهياره.
وجهة نظر نقدية: الناتو بين الهيمنة والضرورة
من وجهة نظر نقدية، يُنظر إلى الناتو كأداة للهيمنة الإمبراطورية، يخدم مصالح الولايات المتحدة على حساب السيادة الوطنية للدول الأخرى. النقاد، مثل المؤرخ أندرو باسيفيتش، يرون أن تدخلات الناتو في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية أنتجت فوضى وصراعات، بدلاً من تعزيز الأمن العالمي. في هذا السياق، يمكن أن يُنظر إلى انكفاء ترامب كفرصة لتقليص هذه الهيمنة، مما يتيح للدول الأوروبية تطوير قدرات دفاعية مستقلة وللدول النامية استعادة سيادتها. لكن هناك وجهة نظر مضادة ترى الناتو كضرورة جيوسياسية في مواجهة التهديدات الجديدة. روسيا، التي زادت من وجودها العسكري في أوكرانيا والقطب الشمالي، تشكل تهديدًا مباشرًا لأوروبا الشرقية. الصين، التي توسع نفوذها في أفريقيا وآسيا، تتطلب استجابة منسقة من الدول الغربية. في هذا السياق، يظل الناتو، رغم عيوبه، أداة لا غنى عنها للحفاظ على التوازن الجيوسياسي. سياسات ترامب، التي دفعت الحلفاء إلى تحمل مسؤوليات أكبر، قد تعزز من قدرة الناتو على التكيف مع هذه التحديات، بدلاً من تصفيته.
الخلاصة
الناتو، كذراع عسكرية للإمبراطورية الأمريكية، واجه تحديًا غير مسبوق مع صعود ترامب وسياساته الحمائية. انتقاداته الحادة لتكاليف الحلف، ومطالبته بتقاسم الأعباء، أثارت تساؤلات حول مستقبله، لكنها أدت أيضًا إلى زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي وتعزيز تماسكه. في ظل صعود قوى مثل الصين وروسيا، وتزايد التوترات الداخلية، يظل الناتو أداة مرنة، قادرة على التكيف مع التحديات. لكن انكفاء ترامب، الذي قلّص من الالتزام الأمريكي بالعولمة العسكرية، يشير إلى أن الحلف قد يتحول من ركيزة للهيمنة إلى إطار تعاوني يعتمد على مساهمات متساوية. هل يمثل هذا بداية تفكيك الناتو، أم إعادة هيكلة لدوره في عالم متعدد الأقطاب؟ الإجابة تعتمد على قدرة الحلف على التكيف مع التحديات الجديدة، وعلى مسار السياسة الأمريكية في السنوات القادمة.
الفصل الخامس: التضخم، الانقسام الداخلي، وتداعيات التصفية الإقليمية
عندما فرض دونالد ترامب تعريفات جمركية جديدة في أبريل 2025، تصل إلى 145% على البضائع الصينية وتشمل 57 دولة أخرى، لم يكن الهدف مجرد حماية الاقتصاد الأمريكي، بل إعادة تعريف مكانة الولايات المتحدة في عالم تتصارع فيه القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا. لكن هذه السياسات الحمائية، التي جاءت كجزء من فلسفة "أمريكا أولًا"، أطلقت سلسلة من التداعيات الاقتصادية والسياسية التي هزت أسس الإمبراطورية الأمريكية. التضخم، الذي تفاقم نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة، أشعل شرارة توترات اجتماعية داخلية، عززت من الانقسامات الإقليمية، وأثارت تساؤلات حول إمكانية تقسيم الولايات المتحدة، بداية من كاليفورنيا، التي باتت رمزًا للاستقطاب السياسي والاقتصادي. هذا الانشغال الداخلي، الذي استهلك طاقة أمريكا، أضعف قدرتها على الحفاظ على نفوذها الخارجي، مما فتح الباب أمام سيناريوهات تصفية حلفاء إقليميين مثل إسرائيل ومحميات الخليج، وإضعاف أنظمة وجماعات ارتبطت بالعولمة الأمريكية، مثل عصابات الإخوان المسلمين، وحكم رجب طيب أردوغان في تركيا، وفولوديمير زيلينسكي في أوكرانيا، وإيمانويل ماكرون في فرنسا. هذا الفصل يستكشف التضخم الناتج عن التعريفات الجمركية، احتمالات الانقسام الداخلي في أمريكا، وتداعيات ذلك على الحلفاء الإقليميين والأنظمة المرتبطة بالنظام العولمي، مع النظر في ما إذا كان هذا الانكفاء يمثل بداية تفكيك الإمبراطورية الأمريكية أم إعادة هيكلة لها في عالم متعدد الأقطاب.
التضخم: النار تحت الرماد
فرض التعريفات الجمركية في أبريل 2025، التي استهدفت الصين بنسبة 145% وامتدت إلى دول أخرى مثل كندا والمكسيك، أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع المستوردة، مما أشعل فتيل التضخم في الاقتصاد الأمريكي. وفقًا لتقرير من J.P. Morgan صدر في مايو 2025، ارتفع معدل التضخم إلى 2.7% في الربع الأول من العام، مع توقعات بوصوله إلى 3.2% بحلول نهاية العام. مؤشر أسعار الاستهلاك الشخصي (PCE)، الذي يُعد مقياسًا رئيسيًا للتضخم، قفز بنسبة 1.5% خلال الشهر الأول من تطبيق التعريفات، مدفوعًا بارتفاع أسعار الإلكترونيات، السيارات، والسلع الاستهلاكية. على سبيل المثال، ارتفع سعر جهاز آيفون 16 برو ماكس من 1199 دولارًا إلى 1499 دولارًا في بعض الأسواق الأمريكية، بسبب زيادة تكاليف الواردات من الصين، وفقًا لتحليل UBS Investment Research. هذا التضخم لم يكن مجرد أزمة اقتصادية، بل أزمة اجتماعية. الأسر الأمريكية، التي كانت تعاني بالفعل من ارتفاع تكاليف المعيشة، واجهت ضغوطًا متزايدة. تقرير من The Budget Lab at Yale توقع أن تفقد الأسرة الأمريكية العادية حوالي 4700 دولار سنويًا بسبب ارتفاع الأسعار، مما أثر بشكل خاص على الطبقات الدنيا والوسطى. في مدن مثل لوس أنجلوس ونيويورك، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية والوقود بنسبة 12% خلال الربع الأول من 2025، اندلعت احتجاجات شعبية تطالب بتخفيف التعريفات. منشورات على منصة X كشفت عن استياء واسع، حيث وصف مواطنون أمريكيون التعريفات بأنها "ضريبة على الفقراء"، في إشارة إلى تأثيرها المباشر على القوة الشرائية. الاحتياطي الفيدرالي، الذي كان يحاول احتواء التضخم منذ 2022، واجه معضلة. رفع أسعار الفائدة إلى 5.5% في يونيو 2025، وفقًا لرويترز، أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.4% في الربع الثاني. لكن هذا الإجراء لم ينجح في كبح التضخم بشكل كامل، بسبب استمرار اضطرابات سلاسل التوريد الناتجة عن الحرب التجارية. الصين، التي ردت بتعريفات بنسبة 125% على البضائع الأمريكية وحظرت تصدير المعادن النادرة مثل السماريوم، زادت من تكاليف الإنتاج للشركات الأمريكية، مما عزز من دوامة التضخم.
الانقسام الداخلي: شبح تقسيم أمريكا
التضخم، الذي تفاقم بسبب التعريفات، لم يكن مجرد أزمة اقتصادية، بل محفزًا لتفاقم الانقسامات السياسية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة. أمريكا، التي كانت تعاني من استقطاب حاد منذ انتخابات 2016، شهدت تصعيدًا في التوترات بين الولايات الليبرالية، مثل كاليفورنيا ونيويورك، والولايات المحافظة، مثل تكساس وفلوريدا. كاليفورنيا، التي تُعد خامس أكبر اقتصاد في العالم بإجمالي ناتج محلي يبلغ 4.1 تريليون دولار في 2024، أصبحت رمزًا لهذا الانقسام. الحاكم الديمقراطي غافن نيوسوم، الذي انتقد بشدة سياسات ترامب الحمائية، دعا في مايو 2025 إلى "استقلال اقتصادي" للولاية، مشيرًا إلى أن التعريفات أضرت بصناعات التكنولوجيا والزراعة في كاليفورنيا، التي تعتمد بشكل كبير على التصدير إلى الصين. هذه الدعوات، التي بدت رمزية في البداية، سرعان ما تحولت إلى نقاش جدي حول إمكانية تقسيم الولايات المتحدة. حركات مثل "Calexit"، التي تطالب بانفصال كاليفورنيا، اكتسبت زخمًا شعبيًا، مدعومة باستياء الطبقات الوسطى من ارتفاع تكاليف المعيشة. استطلاع أجرته جامعة كاليفورنيا في بيركلي في يونيو 2025 أظهر أن 28% من سكان الولاية يؤيدون فكرة الانفصال، وهي نسبة غير مسبوقة. في الوقت نفسه، شهدت ولايات محافظة مثل تكساس دعوات مماثلة، حيث طالب حاكم الولاية غريغ أبوت بـ"سيادة تكساس" في مواجهة السياسات الفيدرالية التي اعتبرها "تدميرية". هذه الانقسامات لم تكن مجرد خطاب سياسي، بل ترافقت مع توترات اجتماعية. في لوس أنجلوس، اندلعت مواجهات بين مؤيدي ترامب ومعارضيه في أبريل 2025، أسفرت عن إصابة 12 شخصًا، وفقًا لتقارير CNN. في تكساس، أثارت خطة الحاكم أبوت لتوسيع دور الحرس الوطني على الحدود مع المكسيك انتقادات من الحكومة الفيدرالية، مما زاد من التوترات بين الولاية وواشنطن. هذه التوترات، التي غذّاها التضخم والاستقطاب السياسي، جعلت شبح التقسيم يلوح في الأفق، وإن كان لا يزال بعيد المنال بسبب القيود الدستورية والاقتصادية.
الانشغال الداخلي: بداية التصفية الإقليمية
الانشغال الأمريكي الداخلي، الذي تفاقم بسبب التضخم والانقسامات، أضعف قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على نفوذها الخارجي، مما فتح الباب أمام سيناريوهات تصفية حلفائها الإقليميين والأنظمة المرتبطة بالنظام العولمي. هذا التراجع، الذي بدأ يظهر بوضوح في 2025، كان نتيجة لسياسات ترامب الحمائية، التي ركزت على إعادة بناء الاقتصاد الأمريكي على حساب الالتزامات الدولية. في هذا السياق، بدأت ملامح تصفية عدد من الكيانات والأنظمة التي ارتبطت بالإمبراطورية الأمريكية تتبلور.
إسرائيل: حليف في مهب الريح
إسرائيل، التي كانت ركيزة استراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، واجهت تحديات غير مسبوقة في ظل انكفاء ترامب. رغم دعمه القوي لإسرائيل خلال ولايته الأولى، من خلال نقل السفارة إلى القدس وتوقيع اتفاقيات إبراهيم، اتخذ ترامب في ولايته الثانية نهجًا أكثر براغماتية. تصريحاته في أبريل 2025، التي أشار فيها إلى أن "كل حليف يجب أن يدفع ثمن الحماية"، أثارت قلق تل أبيب، التي تعتمد على مساعدات عسكرية أمريكية سنوية بقيمة 3.8 مليار دولار. هذا التحول تزامن مع تصاعد التوترات الإقليمية، حيث واجهت إسرائيل ضغوطًا من إيران وحلفائها في لبنان وسوريا. الانشغال الأمريكي الداخلي، الذي استهلك طاقة واشنطن، قلّص من قدرتها على دعم إسرائيل عسكريًا وسياسيًا. في يونيو 2025، رفضت الولايات المتحدة طلبًا إسرائيليًا لتزويدها بأنظمة دفاع جوي إضافية لمواجهة تهديدات حزب الله، مشيرة إلى "أولويات داخلية"، وفقًا لتقرير نشرته هآرتس. هذا الرفض، الذي جاء وسط أزمة التضخم والاحتجاجات في الولايات المتحدة، أثار مخاوف من أن إسرائيل قد تواجه "تصفية" تدريجية، ليس بالمعنى الحرفي، بل من خلال تقليص الدعم الأمريكي الذي يشكل العمود الفقري لقوتها. في الوقت نفسه، بدأت إسرائيل في استكشاف تحالفات بديلة مع دول مثل الهند والصين، لكن هذه الشراكات لم تكن كافية لتعويض الفراغ الأمريكي.
محميات الخليج: إعادة تقييم التحالفات
دول الخليج، التي كانت محميات اقتصادية وعسكرية للولايات المتحدة، واجهت تحديات مماثلة. سياسات ترامب، التي ركزت على الصفقات التجارية بدلاً من الحماية المطلقة، دفعت دولًا مثل السعودية والإمارات إلى تنويع تحالفاتها. في مايو 2025، وقّعت السعودية اتفاقية دفاعية مع الصين تشمل توريد طائرات مسيرة وأنظمة دفاع جوي، في خطوة أثارت قلق واشنطن. الإمارات، من جانبها، عززت تعاونها مع روسيا في مجال الطاقة، حيث وقّعت اتفاقية بقيمة 12 مليار دولار لتطوير حقول غاز في أبريل 2025. هذا التحول لم يكن مفاجئًا. تراجع الاعتماد الأمريكي على نفط الخليج، بفضل ثورة الغاز الصخري، قلّص من أهمية هذه الدول كحلفاء استراتيجيين. في الوقت نفسه، أدى الانشغال الأمريكي الداخلي إلى تقليص الوجود العسكري في المنطقة. في يونيو 2025، أعلنت الولايات المتحدة سحب قوات إضافية من قاعدة العديد في قطر، مشيرة إلى "إعادة ترتيب الأولويات"، وفقًا لتصريح لوزارة الدفاع الأمريكية. هذه الخطوة، التي جاءت وسط أزمة التضخم والاحتجاجات الداخلية، عززت من شعور دول الخليج بأنها تواجه "تصفية" تدريجية كمحميات أمريكية، مما دفعها إلى البحث عن بدائل جيوسياسية.
عصابات الإخوان المسلمين: تراجع النفوذ
جماعة الإخوان المسلمين، التي ارتبطت تاريخيًا بالنظام العولمي الأمريكي كأداة لمواجهة الأنظمة القومية في الشرق الأوسط، واجهت أيضًا تداعيات الانكفاء الأمريكي. خلال الربيع العربي (2011-2013)، دعمت الولايات المتحدة حكومات الإخوان في مصر وتونس كبديل "ديمقراطي" للأنظمة العسكرية، لكن هذا الدعم تراجع مع صعود ترامب، الذي رأى في الجماعة تهديدًا للاستقرار الإقليمي. في ولايته الثانية، أدرج ترامب الإخوان على قائمة المنظمات الإرهابية في يناير 2025، وفقًا لقرار تنفيذي، مما قلّص من دعمها في المنطقة. الانشغال الأمريكي الداخلي، إلى جانب تراجع النفوذ في الشرق الأوسط، أضعف قدرة الإخوان على الحفاظ على شبكاتها السياسية. في مصر، واصلت الحكومة بقيادة عبد الفتاح السيسي حملتها ضد الجماعة، بينما فقدت الإخوان في تونس نفوذها السياسي بعد تراجع حركة النهضة. في قطر، التي كانت ملاذًا لقادة الإخوان، أدت الضغوط الأمريكية إلى تقليص دعم الدوحة للجماعة، مما جعلها تواجه "تصفية" تدريجية كقوة سياسية.
حكم أردوغان: توازن هش
في تركيا، واجه رجب طيب أردوغان تحديات معقدة نتيجة انكفاء أمريكا. تركيا، العضو المثير للجدل في الناتو، كانت حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، لكن علاقتها بأمريكا شهدت توترات بسبب شراء أنظمة S-400 الروسية عام 2019 ودعمها لجماعات إسلامية في سوريا. سياسات ترامب الحمائية، التي شملت فرض تعريفات على الصلب التركي في 2025، أثارت استياء أنقرة، التي ردت بتعريفات على المنتجات الأمريكية. الانشغال الأمريكي الداخلي، إلى جانب تراجع نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط، دفع أردوغان إلى تعزيز تحالفاته مع روسيا والصين. في أبريل 2025، وقّعت تركيا اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا تشمل تطوير أنظمة دفاع جوي، مما أثار مخاوف الناتو من خروج تركيا من الحلف. لكن أردوغان، الذي اعتمد على توازن دقيق بين الغرب والشرق، واجه ضغوطًا داخلية بسبب التضخم وتراجع قيمة الليرة التركية بنسبة 15% في النصف الأول من 2025. هذه الضغوط جعلت حكمه عرضة للتصفية، ليس بالمعنى الحرفي، بل من خلال إضعاف نفوذه الإقليمي والداخلي.
زيلينسكي وأوكرانيا: فقدان الدعم
في أوكرانيا، واجه فولوديمير زيلينسكي أزمة وجودية نتيجة انكفاء أمريكا. منذ بدء الغزو الروسي في 2022، اعتمدت أوكرانيا على الدعم الأمريكي العسكري والمالي، الذي بلغ 113 مليار دولار بحلول 2024، وفقًا لتقرير الكونغرس. لكن سياسات ترامب، التي ركزت على تقليص التدخلات الخارجية، قلّصت من هذا الدعم. في مارس 2025، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستخفض مساعداتها لأوكرانيا بنسبة 50%، مشيرًا إلى أن "أوروبا يجب أن تتحمل المسؤولية". هذا القرار، الذي جاء وسط أزمة التضخم والاحتجاجات الداخلية، أضعف موقف زيلينسكي في مواجهة روسيا. تراجع الدعم الأمريكي، إلى جانب إرهاق الحلفاء الأوروبيين، جعل أوكرانيا تواجه خطر "التصفية" كحليف استراتيجي. في يونيو 2025، أشار تقرير لصحيفة واشنطن بوست إلى أن كييف بدأت مفاوضات غير رسمية مع روسيا لتجميد الصراع، مما عكس ضعف موقف زيلينسكي. هذا التحول أشار إلى أن انكفاء أمريكا قد يؤدي إلى إعادة هيكلة التحالفات في أوروبا الشرقية.
ماكرون وفرنسا: أزمة السيادة الأوروبية
في فرنسا، واجه إيمانويل ماكرون تحديات مماثلة. ماكرون، الذي دافع عن فكرة "السيادة الأوروبية" كبديل للاعتماد على أمريكا، واجه ضغوطًا داخلية وخارجية بسبب سياسات ترامب. التعريفات الجمركية الأمريكية على المنتجات الأوروبية، التي شملت النبيذ والسيارات الفرنسية، أثارت استياء باريس، التي ردت بتعريفات على المنتجات الأمريكية. في الوقت نفسه، أدى التضخم الناتج عن الحرب التجارية إلى احتجاجات شعبية في فرنسا، حيث ارتفعت أسعار الوقود بنسبة 10% في الربع الأول من 2025. الانشغال الأمريكي الداخلي، إلى جانب تراجع دور الناتو، وضع ماكرون في موقف حرج. مبادرته لتطوير قدرات دفاعية أوروبية مستقلة، مثل مشروع PESCO، واجهت عقبات بسبب نقص التمويل ورفض دول مثل بولندا التخلي عن الاعتماد على الناتو. في يونيو 2025، أعلن ماكرون عن خطة لتعزيز الصناعات العسكرية الفرنسية، لكن هذه الخطة واجهت انتقادات داخلية بسبب تكلفتها العالية. هذه الضغوط جعلت حكم ماكرون عرضة للإضعاف، مما أثار تساؤلات حول قدرته على قيادة أوروبا في ظل تراجع النفوذ الأمريكي.
الخلاصة
التعريفات الجمركية لعام 2025، التي أدت إلى تضخم حاد وتفاقم الانقسامات الداخلية في أمريكا، فتحت الباب أمام سيناريوهات تصفية حلفاء وأنظمة ارتبطت بالإمبراطورية الأمريكية. التضخم، الذي أشعل احتجاجات وقلّص القوة الشرائية، عزز من احتمالية تقسيم الولايات المتحدة، بداية من كاليفورنيا، التي أصبحت رمزًا للاستقطاب. هذا الانشغال الداخلي أضعف قدرة أمريكا على الحفاظ على نفوذها الخارجي، مما أثر على إسرائيل، محميات الخليج، الإخوان المسلمين، وأنظمة مثل أردوغان، زيلينسكي، وماكرون. في عالم يشهد صعود قوى جديدة وتحديات داخلية، يبقى السؤال: هل تمثل هذه التداعيات بداية تفكيك الإمبراطورية الأمريكية، أم مجرد مرحلة انتقالية نحو نظام عالمي جديد؟
الفصل السادس: المجمع العسكري الصناعي: محرك الإمبراطورية وحدود الانكفاء
المجمع العسكري الصناعي، ذلك التحالف المعقد بين البنتاغون، الشركات الدفاعية الكبرى، واللوبيات السياسية، كان العمود الفقري للإمبراطورية الأمريكية منذ منتصف القرن العشرين. هذا المجمع، الذي حذّر منه الرئيس دوايت أيزنهاور في خطابه الشهير عام 1961، لم يكن مجرد آلية لتزويد الجيش الأمريكي بالسلاح، بل محركًا اقتصاديًا وسياسيًا غذّى العولمة العسكرية، ومكّن الولايات المتحدة من فرض هيمنتها على العالم. من خلال عقود بمليارات الدولارات مع شركات مثل لوكهيد مارتن، بوينغ، ورايثيون، ومبيعات أسلحة شكلت أكثر من 40% من السوق العالمية، بنى المجمع شبكة من الاعتماد المتبادل مع حلفاء مثل إسرائيل ودول الخليج، معززًا النفوذ الأمريكي في مناطق استراتيجية. لكن مع صعود دونالد ترامب وفلسفته "أمريكا أولًا"، التي دعت إلى تقليص التدخلات العسكرية والتركيز على الأولويات الداخلية، واجه المجمع تحديًا غير مسبوق. التعريفات الجمركية لعام 2025، التي أثارت تضخمًا وتوترات داخلية، زادت من الضغوط على المجمع، بينما أثارت سياسات ترامب الحمائية تساؤلات حول قدرته على الحفاظ على دوره كمحرك للهيمنة. هذا الفصل يستكشف تاريخ المجمع العسكري الصناعي، دوره في بناء الإمبراطورية، تأثير سياسات ترامب عليه، والتحديات التي يواجهها في ظل انكفاء أمريكي وصعود قوى منافسة، مع النظر في ما إذا كان هذا الانكفاء يمهد لتفكيك المجمع أم إعادة هيكلة لنفوذه.
المجمع العسكري الصناعي: تاريخ الهيمنة
للوقوف على أهمية المجمع العسكري الصناعي، يجب العودة إلى الحرب العالمية الثانية، عندما تحولت الولايات المتحدة إلى "ترسانة الديمقراطية"، موفرة الأسلحة والمعدات للحلفاء. هذا التحول لم ينته مع الحرب، بل تطور إلى نظام دائم يربط الصناعة العسكرية بالسياسة. بحلول الخمسينيات، أصبحت شركات مثل بوينغ وجنرال دايناميكس جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد الأمريكي، حيث وفرت ملايين الوظائف ودفعت عجلة النمو. وفقًا لتقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، يوظف المجمع العسكري الصناعي أكثر من 3.5 مليون أمريكي بشكل مباشر وغير مباشر، ويساهم بنحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي. الإنفاق العسكري الأمريكي، الذي بلغ 934 مليار دولار في 2024، وفقًا لتقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، كان المحرك الرئيسي للمجمع. هذا الإنفاق، الذي تجاوز إجمالي الإنفاق العسكري للدول العشر التالية مجتمعة، لم يكن موجهًا فقط للدفاع، بل لتأمين عقود مربحة للشركات. على سبيل المثال، برنامج طائرة F-35، الذي تديره لوكهيد مارتن، كلف أكثر من 428 مليار دولار حتى 2025، مما جعله أغلى برنامج عسكري في التاريخ. هذه العقود لم تكن مجرد صفقات تجارية، بل أداة لتعزيز النفوذ الأمريكي، حيث أُجبر الحلفاء على شراء الأسلحة الأمريكية لضمان الحماية. مبيعات الأسلحة الأمريكية، التي بلغت 243 مليار دولار في 2023، شكلت أكثر من 40% من سوق الأسلحة العالمية، وفقًا لتقرير SIPRI. دول الخليج، خصوصًا السعودية والإمارات، كانت من أكبر المشترين، حيث وقّعت السعودية صفقة بقيمة 110 مليار دولار في 2017 لشراء أسلحة أمريكية. إسرائيل، التي تتلقى مساعدات عسكرية سنوية بقيمة 3.8 مليار دولار، كانت أيضًا عميلاً رئيسيًا، حيث استخدمت الأسلحة الأمريكية لتعزيز تفوقها العسكري في الشرق الأوسط. هذه المبيعات لم تكن مجرد تجارة، بل وسيلة لربط الحلفاء بنظام اقتصادي وعسكري يخدم المصالح الأمريكية.
المجمع والعولمة: شبكة النفوذ
المجمع العسكري الصناعي لم يكن مجرد محرك اقتصادي، بل أداة لتوسيع العولمة العسكرية. من خلال شبكة من القواعد العسكرية، التي تزيد عن 700 قاعدة في 80 دولة، وفقًا لتقرير جامعة براون، مكّن المجمع الولايات المتحدة من فرض نفوذها في مناطق استراتيجية مثل الشرق الأوسط، أوروبا الشرقية، وآسيا. هذه القواعد، التي كلفت الخزينة الأمريكية حوالي 150 مليار دولار سنويًا، كانت مراكز لتنسيق العمليات العسكرية وتوزيع الأسلحة. في الشرق الأوسط، لعب المجمع دورًا حاسمًا في دعم أنظمة مثل إسرائيل ودول الخليج. السعودية، التي تعتمد على الأسلحة الأمريكية لمواجهة إيران، تلقت أنظمة باتريوت وطائرات F-15، مما عزز من اعتمادها على الولايات المتحدة. إسرائيل، التي تمتلك أكثر من 100 طائرة F-35، استخدمت هذه الأسلحة لتعزيز تفوقها الجوي. هذا الاعتماد لم يكن عسكريًا فقط، بل اقتصاديًا، إذ أُجبرت هذه الدول على تمويل عقود المجمع من خلال عائدات النفط أو القروض. في أوروبا، دعم المجمع حلف الناتو من خلال تزويد الدول الأعضاء بالأسلحة والتكنولوجيا. بولندا، على سبيل المثال، وقّعت صفقة بقيمة 10 مليار دولار في 2023 لشراء أنظمة باتريوت وطائرات F-35، مما عزز من وجود الناتو في مواجهة روسيا. هذه الصفقات، التي غذّتها اللوبيات السياسية في واشنطن، جعلت المجمع لاعبًا رئيسيًا في الحفاظ على النظام العولمي الأمريكي.
ترامب والمجمع: توترات الحمائية
مع صعود دونالد ترامب عام 2016، وتكراره عام 2025، واجه المجمع العسكري الصناعي تحديًا جديدًا. فلسفة "أمريكا أولًا"، التي رفضت التدخلات العسكرية الباهظة ودعت إلى تقليص الإنفاق على التحالفات، هددت الأرباح الهائلة التي يجنيها المجمع. ترامب، الذي انتقد الحروب في العراق وأفغانستان، التي كلفت أكثر من 6 تريليونات دولار وفقًا لدراسة جامعة براون، رأى أن هذه الأموال يجب أن تُنفق على إعادة بناء البنية التحتية الأمريكية. في خطاب له في فبراير 2025، قال ترامب: "لقد أنفقنا تريليونات على حروب لا نهاية لها، بينما طرقنا وجسورنا تنهار. حان الوقت للتركيز على أمريكا". هذا الخطاب لم يكن مجرد شعار، بل ترجم إلى سياسات أثرت على المجمع. في مارس 2025، أعلن ترامب عن خفض الإنفاق العسكري بنسبة 5%، مشيرًا إلى ضرورة "إعادة توجيه الموارد" لمواجهة التضخم الناتج عن التعريفات الجمركية. هذا القرار، الذي واجه معارضة من اللوبيات الدفاعية في الكونغرس، أثر على عقود كبرى، مثل برنامج تطوير أنظمة الدفاع الصاروخي، الذي تأخر تمويله. شركات مثل لوكهيد مارتن، التي تعتمد على العقود الحكومية بنسبة 70% من إيراداتها، سجلت انخفاضًا في أسهمها بنسبة 4% في أبريل 2025، وفقًا لتقارير بلومبرغ. التعريفات الجمركية، التي فرضتها إدارة ترامب عام 2025، زادت من الضغوط على المجمع. التعريفات على الصلب والألمنيوم، التي وصلت إلى 25% و10% على التوالي، رفعت تكاليف الإنتاج للشركات الدفاعية، التي تعتمد على المواد المستوردة. تقرير من مركز التقدم الأمريكي (CAP) أشار إلى أن تكلفة إنتاج طائرة F-35 ارتفعت بنسبة 8% بسبب التعريفات، مما أثر على هوامش الربح. في الوقت نفسه، ردت الصين بقيود على تصدير المعادن النادرة مثل السماريوم، التي تُستخدم في تصنيع الرقائق الإلكترونية وأنظمة التوجيه الصاروخي، مما زاد من تعقيد سلاسل التوريد.
رد فعل المجمع: المقاومة والتكيف
المجمع العسكري الصناعي، الذي اعتاد على النفوذ السياسي والاقتصادي، لم يقف مكتوف الأيدي أمام سياسات ترامب. اللوبيات الدفاعية، التي تنفق أكثر من 150 مليون دولار سنويًا على التأثير في الكونغرس، وفقًا لمركز OpenSecrets، ضغطت للحفاظ على الإنفاق العسكري. في يونيو 2025، وافق الكونغرس على ميزانية دفاعية بقيمة 895 مليار دولار، متجاهلاً جزئيًا خطط ترامب للخفض، مما عكس قوة المجمع في مواجهة الضغوط الحمائية. شركات مثل بوينغ ورايثيون استفادت من هذه الميزانية، حيث حصلت على عقود جديدة لتطوير أنظمة طائرات مسيرة وصواريخ. في الوقت نفسه، بدأ المجمع في التكيف مع التحديات الجديدة. شركات مثل لوكهيد مارتن أعلنت عن استثمارات بقيمة 2 مليار دولار في مصانع محلية لإنتاج الرقائق الإلكترونية، لتقليص الاعتماد على الصين. كذلك، سعت الشركات إلى تنويع أسواقها التصديرية، حيث وقّعت رايثيون صفقة بقيمة 5 مليار دولار مع الهند في مايو 2025 لتوريد أنظمة دفاع جوي. هذه الخطوات، التي تهدف إلى الحفاظ على الأرباح في ظل الحرب التجارية، عكست مرونة المجمع، لكنها لم تحل المشكلة الأساسية: تراجع الالتزام الأمريكي بالعولمة العسكرية.
تأثير الانكفاء على الحلفاء
سياسات ترامب الحمائية، التي ركزت على تقليص التدخلات العسكرية، أثرت بشكل مباشر على الحلفاء الذين يعتمدون على المجمع العسكري الصناعي. إسرائيل، التي تعتمد على الأسلحة الأمريكية لمواجهة التهديدات الإقليمية، واجهت تأخيرًا في تسليم طائرات F-35 بسبب اضطرابات سلاسل التوريد الناتجة عن التعريفات. في أبريل 2025، أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أنها تبحث عن مصادر بديلة للرقائق الإلكترونية من كوريا الجنوبية، مما أثار مخاوف واشنطن من تراجع الاعتماد عليها. هذا التحول، الذي جاء وسط أزمة التضخم والانشغال الداخلي الأمريكي، عزز من مخاوف إسرائيل من "تصفية" تدريجية كحليف استراتيجي. دول الخليج، التي كانت من أكبر عملاء المجمع، بدأت أيضًا في تنويع مصادرها. السعودية، التي واجهت ارتفاعًا في تكاليف الأسلحة الأمريكية بسبب التعريفات، وقّعت اتفاقية مع الصين في مايو 2025 لتوريد طائرات مسيرة بقيمة 3 مليار دولار. الإمارات، من جانبها، عززت تعاونها مع روسيا لتطوير أنظمة دفاع جوي. هذه الخطوات، التي جاءت رداً على تراجع الالتزام الأمريكي، أشارت إلى أن المجمع قد يفقد نفوذه الإقليمي، مما يعزز من سيناريو "التصفية" لمحميات الخليج. في أوروبا، أثر انكفاء ترامب على دول الناتو، التي تعتمد على الأسلحة الأمريكية. بولندا، التي كانت تخطط لتوسيع ترسانتها من طائرات F-35، واجهت تأخيرًا في التسليم بسبب ارتفاع التكاليف. فرنسا، التي تسعى لتطوير صناعاتها العسكرية المستقلة، استغلت هذا الفراغ لتعزيز مبيعاتها من طائرات رافال إلى دول مثل اليونان وكرواتيا. هذه التحولات عكست تراجعًا في هيمنة المجمع العسكري الصناعي الأمريكي، مدفوعًا بالسياسات الحمائية والانشغال الداخلي.
التحديات الجديدة: الصين وروسيا
صعود الصين وروسيا كقوى عسكرية منافسة زاد من الضغوط على المجمع العسكري الصناعي. الصين، التي زادت إنفاقها العسكري إلى 296 مليار دولار في 2024، وفقًا لـSIPRI، طورت صناعات دفاعية متقدمة، مثل الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية. صفقاتها مع دول مثل السعودية وباكستان، التي شملت توريد طائرات مسيرة بأسعار تنافسية، هددت حصة المجمع الأمريكي في السوق العالمية. روسيا، من جانبها، عززت مبيعاتها من أنظمة S-400 إلى دول مثل تركيا والهند، مما أثار قلق واشنطن من تراجع نفوذها. التعريفات الجمركية، التي أثرت على سلاسل التوريد، جعلت الشركات الأمريكية أقل تنافسية مقارنة بالصين، التي تقدم أسلحة بتكاليف أقل. تقرير من مركز ويلسون أشار إلى أن الصين استحوذت على 15% من سوق الأسلحة العالمية في 2024، مقارنة بـ5% في 2010، مما يعكس تراجع التفوق الأمريكي. هذا التحول، الذي تزامن مع انكفاء ترامب، جعل المجمع يواجه تحديًا وجوديًا: كيف يحافظ على هيمنته في ظل منافسة متزايدة وموارد محدودة؟
هل يواجه المجمع خطر التفكيك؟
فكرة أن سياسات ترامب قد تؤدي إلى تفكيك المجمع العسكري الصناعي تبدو مغرية، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. المجمع، الذي يمتلك نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا هائلاً، أثبت مرونة في مواجهة التحديات. زيادة الإنفاق العسكري الأوروبي، التي نتجت عن ضغوط ترامب على الناتو، فتحت أسواقًا جديدة للشركات الأمريكية. كذلك، استمرار التوترات مع الصين وروسيا يضمن استمرار الطلب على الأسلحة الأمريكية، حتى في ظل التعريفات. ومع ذلك، فإن انكفاء ترامب وتركيزه على الأولويات الداخلية يشيران إلى أن المجمع قد يواجه إعادة هيكلة. تراجع التدخلات العسكرية، مثل الانسحاب من أفغانستان عام 2021 وسحب قوات من قطر في 2025، قلّص من الحاجة إلى عقود جديدة. كذلك، أدت الأزمة الاقتصادية الناتجة عن التضخم إلى ضغوط شعبية لخفض الإنفاق العسكري، مما قد يحد من أرباح المجمع على المدى الطويل. في هذا السياق، يمكن أن يُنظر إلى انكفاء ترامب كخطوة نحو تقليص نفوذ المجمع، دون أن تصل إلى تفكيكه الكامل.
الخلاصة
المجمع العسكري الصناعي، الذي كان محركًا للإمبراطورية الأمريكية، واجه تحديًا غير مسبوق مع سياسات ترامب الحمائية وانكفائه عن العولمة العسكرية. التعريفات الجمركية لعام 2025، التي أثارت تضخمًا وتوترات داخلية، زادت من الضغوط على المجمع، بينما أثرت على حلفاء مثل إسرائيل ودول الخليج، الذين بدأوا في تنويع تحالفاتهم. صعود الصين وروسيا كمنافسين، إلى جانب تراجع الالتزام الأمريكي، جعل المجمع في مفترق طرق: هل يستطيع التكيف مع عالم متعدد الأقطاب، أم أن انكفاء ترامب سيمهد لتقليص نفوذه؟ الإجابة تعتمد على قدرة المجمع على مواجهة التحديات الاقتصادية والجيوسياسية، وعلى مسار السياسة الأمريكية في مواجهة أزماتها الداخلية والخارجية.
الفصل السابع: تفكك النظام العولمي: من الهيمنة إلى الفوضى المنظمة
النظام العولمي، الذي بنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان تحفة جيوسياسية واقتصادية، يرتكز على مؤسسات مثل الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، وحلف الناتو، وعلى شبكة من التحالفات والقواعد العسكرية التي كرست هيمنة أمريكا. هذا النظام، الذي روّج للعولمة كمحرك للرفاهية والاستقرار، أتاح للولايات المتحدة فرض إرادتها على العالم، من خلال الحروب، العقوبات، والاتفاقيات التجارية. لكن بحلول عام 2025، بدأت ملامح تفكك هذا النظام تظهر بوضوح، مدفوعة بسياسات دونالد ترامب الحمائية، التي شملت تعريفات جمركية قاسية، وانكفاء عن الالتزامات الدولية، وتركيز على الأولويات الداخلية. هذا التفكك لم يكن مجرد تراجع أمريكي، بل تحول نحو "فوضى منظمة"، حيث بدأت قوى مثل الصين وروسيا في ملء الفراغ، وتحالفات جديدة تشكلت على أنقاض النظام القديم. التضخم الناتج عن التعريفات، الانقسامات الداخلية في أمريكا، وتراجع نفوذها في مناطق مثل الشرق الأوسط وأوروبا، عززت من هذا التحول، مما أثار تساؤلات حول مصير حلفاء مثل إسرائيل ودول الخليج، ودور المؤسسات الدولية في عالم متعدد الأقطاب. هذا الفصل يستكشف أسباب تفكك النظام العولمي، تداعيات سياسات ترامب، صعود القوى المنافسة، ومستقبل التحالفات الإقليمية، مع النظر في ما إذا كان هذا التفكك يمثل نهاية الإمبراطورية الأمريكية أم بداية نظام عالمي جديد. النظام العولمي: أسس الهيمنة للوقوف على أسباب التفكك، يجب فهم أسس النظام العولمي الذي بنته أمريكا. بعد 1945، استغلت الولايات المتحدة تفوقها الاقتصادي والعسكري لتشكيل نظام يخدم مصالحها. مؤتمر بريتون وودز عام 1944 أسس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين كرّسا الدولار كعملة عالمية. الأمم المتحدة، التي تأسست عام 1945، أتاحت لواشنطن، كعضو دائم في مجلس الأمن، فرض رؤيتها على القرارات الدولية. الناتو، الذي تأسس عام 1949، كان الذراع العسكرية لهذا النظام، موفرًا الأمن لأوروبا الغربية ومشكّلاً إطارًا لتوسيع النفوذ الأمريكي. هذا النظام لم يكن عسكريًا فقط، بل اقتصاديًا. اتفاقيات التجارة الحرة، مثل GATT ولاحقًا منظمة التجارة العالمية (1995)، فتحت الأسواق العالمية للشركات الأمريكية، بينما مكّنت العقوبات الاقتصادية واشنطن من معاقبة الدول المعارضة. وفقًا لتقرير معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، شكلت الولايات المتحدة 25% من الناتج الاقتصادي العالمي في 1990، مما أتاح لها قيادة العولمة. في الشرق الأوسط، دعمت أمريكا أنظمة مثل إسرائيل ودول الخليج لضمان تدفق النفط ومواجهة القوى المناهضة، مثل إيران والاتحاد السوفيتي. لكن هذا النظام بدأ يواجه تحديات في القرن الحادي والعشرين. صعود الصين، التي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد عالمي بحلول 2010، واستعادة روسيا لنفوذها بعد تدخلها في سوريا عام 2015، كشفا عن حدود الهيمنة الأمريكية. الحروب في العراق وأفغانستان، التي كلفت أكثر من 6 تريليونات دولار وفقًا لدراسة جامعة براون، أظهرت استنزاف القوة الأمريكية. هذه التحديات، التي تفاقمت مع الأزمات الاقتصادية الداخلية، مهدت الطريق لتفكك النظام العولمي.
سياسات ترامب: محفز التفكك
عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025، وتكثيف سياساته الحمائية، شكّلا نقطة تحول في تفكك النظام العولمي. التعريفات الجمركية، التي وصلت إلى 145% على البضائع الصينية وشملت 57 دولة، لم تكن مجرد إجراء اقتصادي، بل إعلان عن رفض منطق العولمة. هذه التعريفات، التي أثارت تضخمًا بنسبة 2.7% في الربع الأول من 2025، وفقًا لتقرير J.P. Morgan، أدت إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة، مما ضرب القوة الشرائية للأمريكيين وأشعل احتجاجات في مدن مثل لوس أنجلوس وشيكاغو. الانكفاء الأمريكي عن الالتزامات الدولية كان عاملًا رئيسيًا آخر. ترامب، الذي انسحب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) في 2017، واصل هذا النهج عام 2025 بتقليص الدعم لمؤسسات مثل الأمم المتحدة. في مارس 2025، خفّضت الولايات المتحدة مساهمتها في ميزانية الأمم المتحدة بنسبة 20%، مشيرة إلى "أولويات داخلية"، وفقًا لتقرير رويترز. هذا القرار، الذي تزامن مع أزمة التضخم والانقسامات الداخلية، أضعف قدرة المؤسسات الدولية على مواجهة التحديات العالمية، مثل تغير المناخ والصراعات الإقليمية. في الناتو، واصل ترامب انتقاداته للحلف، مطالبًا الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها العسكري إلى 4% من ناتجها المحلي بحلول 2030، وهو هدف وصفه المحللون بـ"غير واقعي". تصريحاته في أبريل 2025، التي هدد فيها بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، أثارت قلق حلفاء مثل بولندا ودول البلطيق، الذين بدأوا في استكشاف بدائل مثل التعاون مع فرنسا وألمانيا. هذا الانكفاء عزز من دعوات "السيادة الأوروبية"، التي قادها إيمانويل ماكرون، مما أشار إلى تراجع دور الناتو كركيزة للنظام العولمي.
صعود القوى المنافسة: الصين وروسيا
تفكك النظام العولمي لم يكن نتيجة الانكفاء الأمريكي وحده، بل تزامن مع صعود قوى منافسة، خصوصًا الصين وروسيا. الصين، التي استفادت من العولمة لتصبح قوة اقتصادية وعسكرية، ملأت الفراغ الناتج عن تراجع أمريكا. مبادرة الحزام والطريق، التي استثمرت أكثر من 1 تريليون دولار في البنية التحتية عبر 150 دولة بحلول 2025، وفقًا لتقرير البنك الدولي، أتاحت لبكين توسيع نفوذها في أفريقيا، آسيا، وحتى أوروبا. في الشرق الأوسط، وقّعت الصين اتفاقيات مع السعودية والإمارات لتوريد التكنولوجيا والأسلحة، مما قلّص من الاعتماد على المجمع العسكري الصناعي الأمريكي. روسيا، من جانبها، استعادت نفوذها الجيوسياسي من خلال تدخلات عسكرية ودبلوماسية. في سوريا، دعمت روسيا نظام بشار الأسد، مما عزز من وجودها في الشرق الأوسط. في أوكرانيا، واصلت روسيا ضغوطها العسكرية، مستغلة تقليص الدعم الأمريكي لكييف. في أبريل 2025، وقّعت روسيا اتفاقية تعاون عسكري مع إيران، تشمل توريد أنظمة S-400، مما أثار قلق إسرائيل والولايات المتحدة. هذه الخطوات، التي تزامنت مع تراجع النفوذ الأمريكي، عززت من دور روسيا كلاعب رئيسي في النظام العالمي الجديد. تداعيات التفكك على الحلفاء تفكك النظام العولمي أثر بشكل مباشر على حلفاء الولايات المتحدة، خصوصًا في الشرق الأوسط. إسرائيل، التي كانت تعتمد على الدعم الأمريكي العسكري والسياسي، واجهت تحديات غير مسبوقة. تقليص المساعدات الأمريكية في 2025، الذي بلغ 20% من إجمالي 3.8 مليار دولار، وفقًا لتقرير هآرتس، أجبر إسرائيل على البحث عن بدائل. في مايو 2025، وقّعت إسرائيل اتفاقية تعاون تكنولوجي مع الهند، تشمل تطوير أنظمة دفاع جوي، مما أشار إلى محاولتها لتقليص الاعتماد على أمريكا. لكن هذه الخطوات لم تكن كافية لتعويض الفراغ الأمريكي، خصوصًا في مواجهة تهديدات إيران وحزب الله. دول الخليج، التي كانت محميات أمريكية، بدأت في إعادة تقييم تحالفاتها. السعودية، التي واجهت ارتفاعًا في تكاليف الأسلحة الأمريكية بسبب التعريفات، عززت تعاونها مع الصين من خلال صفقة بقيمة 5 مليار دولار لتطوير البنية التحتية التكنولوجية في يونيو 2025. الإمارات، من جانبها، وقّعت اتفاقية طاقة مع روسيا بقيمة 12 مليار دولار، مما أثار مخاوف واشنطن من تراجع نفوذها في الخليج. هذه التحولات، التي غذّتها أزمة التضخم والانشغال الأمريكي الداخلي، عززت من سيناريو "التصفية" التدريجية لمحميات الخليج. في أوروبا، أدى تراجع الالتزام الأمريكي إلى تعزيز دعوات الاستقلال الدفاعي. فرنسا، بقيادة إيمانويل ماكرون، ضاعفت استثماراتها في مشروع PESCO، الذي يهدف إلى تطوير قدرات دفاعية أوروبية مستقلة. في يونيو 2025، وقّعت فرنسا صفقة بقيمة 8 مليار يورو مع اليونان لتوريد طائرات رافال، مما عكس محاولتها لملء الفراغ الأمريكي. لكن هذه الجهود واجهت تحديات، مثل نقص التمويل ورفض دول مثل بولندا التخلي عن الناتو، مما أشار إلى أن أوروبا لا تزال بعيدة عن تحقيق السيادة الكاملة.
الفوضى المنظمة: ملامح النظام الجديد
تفكك النظام العولمي لم يؤدِ إلى فراغ تام، بل إلى "فوضى منظمة"، حيث بدأت قوى جديدة في تشكيل تحالفات وأنظمة بديلة. الصين، التي قادت مبادرة الحزام والطريق، أسست تحالفات اقتصادية مع دول مثل باكستان، إثيوبيا، والمجر، مما أتاح لها بناء شبكة نفوذ موازية. في أبريل 2025، استضافت الصين قمة ثلاثية مع كوريا الجنوبية واليابان، وهي خطوة رمزية تهدف إلى تعزيز اتفاقية تجارة حرة إقليمية، مستغلة استياء حلفاء أمريكا من التعريفات. روسيا، من جانبها، عززت تحالفاتها مع دول مثل إيران، سوريا، وفنزويلا، مما أتاح لها توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. في مايو 2025، وقّعت روسيا اتفاقية تعاون عسكري مع كوبا، تشمل إنشاء قاعدة مراقبة بحرية، مما أثار قلق واشنطن من عودة النفوذ الروسي إلى الفناء الخلفي لأمريكا. هذه التحالفات، التي غذّتها أزمة التضخم وتراجع النفوذ الأمريكي، عكست انتقال العالم نحو نظام متعدد الأقطاب. في الشرق الأوسط، بدأت ملامح نظام إقليمي جديد تتشكل. إيران، التي استفادت من تراجع النفوذ الأمريكي، عززت تحالفاتها مع روسيا والصين، مما أتاح لها توسيع نفوذها في العراق وسوريا. تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، واصلت سياستها التوازنية بين الغرب والشرق، لكنها واجهت ضغوطًا داخلية بسبب التضخم وتراجع الليرة. هذه الديناميكيات أشارت إلى أن الشرق الأوسط يتحول من ساحة للهيمنة الأمريكية إلى منطقة تنافس متعدد الأطراف.
مستقبل المؤسسات الدولية
المؤسسات الدولية، التي كانت ركائز النظام العولمي، واجهت تحديات وجودية في ظل التفكك. الأمم المتحدة، التي عانت من نقص التمويل بسبب تقليص المساهمات الأمريكية، فقدت فعاليتها في مواجهة الصراعات. في يونيو 2025، فشل مجلس الأمن في التوصل إلى قرار بشأن التصعيد في أوكرانيا، بسبب الفيتو الروسي والصيني، مما عكس شلل المؤسسة. صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان كانا أدوات للهيمنة الأمريكية، واجهتا منافسة من مؤسسات صينية مثل بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية (AIIB)، الذي استثمر 200 مليار دولار في مشاريع عالمية بحلول 2025. هذه التطورات أشارت إلى أن المؤسسات الدولية قد تتحول من أدوات للهيمنة الأمريكية إلى منصات للتنافس بين القوى الكبرى. لكن هذا التحول لم يكن كاملاً، إذ لا تزال الولايات المتحدة تمتلك نفوذًا كبيرًا في هذه المؤسسات، مما يجعل مستقبلها غامضًا. الخلاصة تفكك النظام العولمي، الذي تسارع مع سياسات ترامب الحمائية في 2025، لم يكن مجرد تراجع أمريكي، بل تحول نحو "فوضى منظمة"، حيث بدأت الصين وروسيا في ملء الفراغ، وتشكلت تحالفات جديدة على أنقاض النظام القديم. التضخم الناتج عن التعريفات، الانقسامات الداخلية في أمريكا، وتراجع نفوذها في الشرق الأوسط وأوروبا، عززت من هذا التفكك، مما أثر على حلفاء مثل إسرائيل ودول الخليج. في عالم يتجه نحو التعددية القطبية، يبقى السؤال: هل يمثل هذا التفكك نهاية الإمبراطورية الأمريكية، أم بداية نظام عالمي جديد يتطلب من أمريكا إعادة تعريف دورها؟ الإجابة تعتمد على قدرتها على مواجهة أزماتها الداخلية واستعادة توازنها في مواجهة القوى الصاعدة.
الفصل الثامن: إعادة تشكيل العالم: صراع الأقطاب والمستقبل الغامض
مع تفكك النظام العولمي الذي قادته الولايات المتحدة، بدأ العالم في عام 2025 يشهد إعادة تشكيل جيوسياسي واقتصادي غير مسبوق، يتسم بصراع أقطاب متعددة تسعى لفرض رؤيتها على المستقبل. الولايات المتحدة، التي كانت القوة المهيمنة لعقود، واجهت تحديات داخلية وخارجية أضعفت قدرتها على قيادة العالم، مدفوعة بسياسات دونالد ترامب الحمائية، التي أثارت تضخمًا وانقسامات داخلية، وقلّصت التزاماتها الدولية. في المقابل، برزت الصين كقوة اقتصادية وعسكرية تسعى لتوسيع نفوذها عبر مبادرات مثل الحزام والطريق، بينما استعادت روسيا دورها كلاعب جيوسياسي من خلال تحالفات مع دول مثل إيران وسوريا. هذا الصراع لم يكن ثنائيًا، بل شهد صعود قوى إقليمية مثل الهند وتركيا، وتحولات في التحالفات التقليدية، خصوصًا في الشرق الأوسط، حيث بدأت دول الخليج وإسرائيل في إعادة تقييم استراتيجياتها. وسط هذا التحول، أصبحت المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ساحات للتنافس بدلاً من التعاون، مما أثار تساؤلات حول شكل النظام العالمي الجديد: هل سيكون نظامًا متعدد الأقطاب يحقق توازنًا هشًا، أم فوضى تؤدي إلى صراعات مفتوحة؟ هذا الفصل يستكشف ديناميكيات صراع الأقطاب، تأثير الانكفاء الأمريكي على التحالفات الإقليمية، دور القوى الصاعدة، ومستقبل النظام العالمي، مع النظر في التحديات والفرص التي تنتظر العالم في هذا العصر الجديد.
صراع الأقطاب: نهاية الهيمنة الأحادية
لقد كان النظام العولمي الذي قادته أمريكا بعد 1945 نموذجًا للهيمنة الأحادية، حيث سيطرت الولايات المتحدة على الاقتصاد، العسكرية، والثقافة العالمية. لكن بحلول 2025، أصبح واضحًا أن هذا النموذج لم يعد مستدامًا. التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب، والتي وصلت إلى 145% على البضائع الصينية وشملت دولًا مثل كندا والمكسيك، لم تكن مجرد رد فعل اقتصادي، بل إعلانًا عن انسحاب أمريكا من قيادة العولمة. هذه التعريفات، التي أدت إلى تضخم بنسبة 2.7% في الربع الأول من 2025، وفقًا لتقرير J.P. Morgan، أثارت احتجاجات داخلية وقلّصت القوة الشرائية، مما أجبر أمريكا على التركيز على أزماتها الداخلية بدلاً من قيادة العالم. في هذا السياق، برزت الصين كقطب منافس. اقتصاد الصين، الذي بلغ 18.3 تريليون دولار في 2024، وفقًا لصندوق النقد الدولي، كان مدعومًا باستثمارات ضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا. مبادرة الحزام والطريق، التي شملت مشاريع في 150 دولة بقيمة تزيد عن 1 تريليون دولار بحلول 2025، أتاحت لبكين بناء شبكة نفوذ تمتد من أفريقيا إلى أوروبا. في آسيا، عززت الصين تحالفاتها مع دول مثل باكستان وماليزيا، بينما استضافت قمة ثلاثية مع كوريا الجنوبية واليابان في أبريل 2025، لتعزيز اتفاقية تجارة حرة إقليمية، مستغلة استياء هذه الدول من التعريفات الأمريكية. روسيا، من جانبها، ركّزت على النفوذ العسكري والدبلوماسي. إنفاقها العسكري، الذي بلغ 84 مليار دولار في 2024، وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، دعم تدخلاتها في سوريا وأوكرانيا. في الشرق الأوسط، عززت روسيا تحالفاتها مع إيران وسوريا، حيث وقّعت اتفاقية عسكرية مع طهران في مايو 2025 لتوريد أنظمة S-400. في أمريكا اللاتينية، وقّعت روسيا اتفاقية مع كوبا لإنشاء قاعدة مراقبة بحرية، مما أثار مخاوف واشنطن من عودة النفوذ الروسي إلى منطقتها الحيوية. لكن الصراع لم يقتصر على الصين وروسيا. الهند، التي أصبحت ثالث أكبر اقتصاد في آسيا بحلول 2025، بدأت تلعب دورًا متزايدًا. بفضل إنفاقها العسكري البالغ 81 مليار دولار وعلاقاتها المتوازنة مع الغرب وروسيا، وقّعت الهند صفقات مع إسرائيل وفرنسا لتطوير أنظمة دفاعية، مما عزز من طموحاتها كقوة إقليمية. تركيا، بقيادة رجب طيب أردوغان، واصلت سياستها التوازنية بين الناتو وروسيا، لكنها واجهت ضغوطًا داخلية بسبب التضخم وتراجع الليرة بنسبة 15% في النصف الأول من 2025.
الانكفاء الأمريكي: تداعيات على التحالفات
الانكفاء الأمريكي، الذي تسارع مع سياسات ترامب، أثر بشكل عميق على التحالفات التقليدية. في الشرق الأوسط، واجهت إسرائيل تحديات غير مسبوقة. تقليص المساعدات العسكرية الأمريكية بنسبة 20% في 2025، وفقًا لتقرير هآرتس، أجبر تل أبيب على البحث عن بدائل. في يونيو 2025، وقّعت إسرائيل اتفاقية مع الهند لتطوير أنظمة طائرات مسيرة بقيمة 2 مليار دولار، مما أشار إلى محاولتها لتقليص الاعتماد على أمريكا. لكن هذه الخطوات لم تكن كافية لتعويض الفراغ الأمريكي، خصوصًا في مواجهة تهديدات إيران وحزب الله، مما عزز من مخاوف إسرائيل من تراجع مكانتها كحليف استراتيجي. دول الخليج، التي كانت تعتمد على الحماية الأمريكية، بدأت في تنويع تحالفاتها. السعودية، التي واجهت ارتفاعًا في تكاليف الأسلحة الأمريكية بسبب التعريفات، عززت تعاونها مع الصين من خلال صفقة بقيمة 7 مليار دولار لتطوير البنية التحتية التكنولوجية في يوليو 2025. الإمارات، من جانبها، وقّعت اتفاقية مع روسيا لتطوير حقول غاز بقيمة 15 مليار دولار، مما أثار قلق واشنطن من تراجع نفوذها. هذه التحولات، التي غذّتها أزمة التضخم والانشغال الأمريكي الداخلي، أشارت إلى أن دول الخليج تسعى لإعادة تعريف علاقاتها في نظام عالمي جديد. في أوروبا، أدى تراجع الالتزام الأمريكي إلى تعزيز دعوات الاستقلال الدفاعي. فرنسا، بقيادة إيمانويل ماكرون، استثمرت 12 مليار يورو في مشروع PESCO لتطوير قدرات دفاعية أوروبية مستقلة. في يوليو 2025، وقّعت فرنسا صفقة مع كرواتيا لتوريد طائرات رافال بقيمة 4 مليار يورو، مما عزز من دورها كبديل محتمل للنفوذ الأمريكي. لكن هذه الجهود واجهت عقبات، مثل نقص التمويل ورفض دول مثل بولندا التخلي عن الناتو، مما أشار إلى أن أوروبا لا تزال بعيدة عن تحقيق السيادة الكاملة. في أوكرانيا، واجه فولوديمير زيلينسكي أزمة نتيجة تقليص الدعم الأمريكي. خفض المساعدات بنسبة 50% في مارس 2025، وفقًا لتصريح ترامب، أضعف موقف كييف في مواجهة روسيا. في يوليو 2025، أشار تقرير لصحيفة واشنطن بوست إلى أن أوكرانيا بدأت مفاوضات غير رسمية مع روسيا لتجميد الصراع، مما عكس تراجع الدعم الغربي. هذا التحول أشار إلى أن الانكفاء الأمريكي قد يعيد تشكيل التحالفات في أوروبا الشرقية. دور القوى الإقليمية: الهند، تركيا، وإيران بينما تنافست القوى الكبرى على النفوذ، برزت قوى إقليمية كلاعبين مؤثرين في إعادة تشكيل العالم. الهند، التي استفادت من اقتصادها المتنامي وعلاقاتها المتوازنة، عززت نفوذها في آسيا والشرق الأوسط. صفقتها مع إسرائيل لتطوير أنظمة دفاعية، إلى جانب تعاونها مع فرنسا وروسيا، جعلتها قوة وسطية قادرة على التأثير في التوازن العالمي. في يونيو 2025، استضافت الهند قمة رباعية مع الولايات المتحدة، اليابان، وأستراليا، لتعزيز تحالف "الكواد" ضد الصين، مما عكس طموحها للعب دور قيادي. تركيا، بقيادة أردوغان، واصلت سياستها التوازنية، لكنها واجهت تحديات داخلية وخارجية. التعريفات الأمريكية على الصلب التركي، التي وصلت إلى 25% في 2025، أثارت استياء أنقرة، التي ردت بتعريفات على المنتجات الأمريكية. في الوقت نفسه، عززت تركيا تعاونها مع روسيا من خلال اتفاقية عسكرية لتطوير أنظمة دفاع جوي، مما أثار قلق الناتو. لكن التضخم الداخلي وتراجع الليرة جعلا حكم أردوغان عرضة للضغوط، مما قد يحد من طموحات تركيا الإقليمية. إيران، التي استفادت من تراجع النفوذ الأمريكي، عززت تحالفاتها مع روسيا والصين. اتفاقيتها مع روسيا لتوريد أنظمة S-400، إلى جانب تعاونها مع الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق، أتاحت لطهران توسيع نفوذها في العراق وسوريا. في يوليو 2025، أعلنت إيران عن تطوير صاروخ باليستي جديد بمدى 2000 كيلومتر، مما أثار قلق إسرائيل والسعودية. هذه التطورات جعلت إيران لاعبًا رئيسيًا في الشرق الأوسط، مستفيدة من الفوضى الناتجة عن الانكفاء الأمريكي.
المؤسسات الدولية: من التعاون إلى التنافس
المؤسسات الدولية، التي كانت ركائز النظام العولمي، أصبحت ساحات للتنافس بين الأقطاب. الأمم المتحدة، التي عانت من نقص ال Ferreira بسبب تقليص المساهمات الأمريكية بنسبة 20% في 2025، فقدت فعاليتها في مواجهة الصراعات. في يوليو 2025، فشل مجلس الأمن في التوصل إلى قرار بشأن التصعيد في اليمن، بسبب الفيتو الروسي والصيني، مما عكس شلل المؤسسة. منظمة التجارة العالمية، التي واجهت تحديات بسبب الحرب التجارية الأمريكية-الصينية، أصبحت أقل فعالية في حل النزاعات التجارية، حيث رفضت كل من واشنطن وبكين قراراتها. في المقابل، برزت مؤسسات بديلة مدعومة من الصين وروسيا. بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية (AIIB)، الذي استثمر 250 مليار دولار في مشاريع عالمية بحلول 2025، أصبح منافسًا لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. منظمة شنغهاي للتعاون، التي تضم الصين، روسيا، ودول آسيا الوسطى، عززت دورها كإطار للتنسيق الأمني والاقتصادي، مما أشار إلى ظهور نظام موازٍ يتحدى الهيمنة الغربية.
المستقبل الغامض: توازن أم صراع؟
إعادة تشكيل العالم في 2025 أثارت تساؤلات حول شكل النظام العالمي الجديد. سيناريو النظام متعدد الأقطاب، الذي يعتمد على توازن هش بين الولايات المتحدة، الصين، روسيا، وقوى إقليمية مثل الهند وتركيا، يبدو الأكثر ترجيحًا. هذا النظام، الذي يتسم بالتنافس الاقتصادي والعسكري، قد يحقق استقرارًا نسبيًا إذا نجحت القوى الكبرى في تجنب الصراعات المفتوحة. لكن مخاطر الفوضى لا تزال قائمة، خصوصًا في مناطق مثل الشرق الأوسط، حيث تتصارع إيران، إسرائيل، والسعودية على النفوذ. التحديات الداخلية في أمريكا، مثل التضخم والانقسامات، ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد مصيرها. إذا نجحت الولايات المتحدة في استعادة استقرارها الاقتصادي وإعادة تعريف دورها، فقد تحافظ على مكانتها كقوة رائدة، وإن لم تكن مهيمنة. أما إذا استمرت الأزمات الداخلية، فقد تتراجع أمريكا إلى دور ثانوي، تاركة المجال للصين وروسيا لقيادة النظام الجديد. في الشرق الأوسط، يبدو أن المنطقة تتجه نحو نظام إقليمي يعتمد على التوازن بين القوى الإقليمية، بدلاً من الهيمنة الأمريكية. إسرائيل، التي تواجه تحديات بسبب تراجع الدعم الأمريكي، قد تضطر إلى التكيف مع هذا النظام من خلال تحالفات جديدة. دول الخليج، التي بدأت في بناء علاقات مع الصين وروسيا، قد تلعب دورًا وسطيًا، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي.
الخلاصة
صراع الأقطاب في عام 2025، الذي تسارع مع انكفاء أمريكا وسياسات ترامب الحمائية، أعاد تشكيل العالم نحو نظام متعدد الأقطاب يتسم بالتنافس والتوازن الهش. الصين وروسيا، إلى جانب قوى إقليمية مثل الهند وتركيا وإيران، ملأت الفراغ الناتج عن تراجع النفوذ الأمريكي، مما أثر على حلفاء مثل إسرائيل ودول الخليج. المؤسسات الدولية، التي تحولت إلى ساحات تنافس، عكست هذا التحول نحو "فوضى منظمة". في هذا العالم الجديد، يبقى المستقبل غامضًا: هل سيتمكن العالم من تحقيق توازن يمنع الصراعات، أم أن الفوضى ستؤدي إلى صدامات جديدة؟ الإجابة تعتمد على قدرة القوى الكبرى على إدارة التنافس، وعلى مسار الولايات المتحدة في مواجهة أزماتها الداخلية والخارجية.
الخاتمة: سقوط الإمبراطورية أم إعادة الولادة؟ تأملات في مصير أمريكا والعالم
عندما بدأت الولايات المتحدة رحلتها كإمبراطورية عالمية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت تحمل رؤية طموحة: نظام عالمي يرتكز على هيمنتها الاقتصادية، العسكرية، والثقافية، يدعمه الدولار كعملة عالمية، وشبكة من التحالفات والقواعد العسكرية، ومؤسسات مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي. هذا النظام، الذي روّج للعولمة كمحرك للرفاهية والاستقرار، مكّن أمريكا من فرض إرادتها على العالم، من خلال تدخلات عسكرية في فيتنام، العراق، وأفغانستان، واتفاقيات تجارية أعادت تشكيل الاقتصاد العالمي. لكن بحلول عام 2025، بدأت ملامح تفكك هذه الإمبراطورية تظهر بوضوح، مدفوعة بسياسات دونالد ترامب الحمائية، التي شملت تعريفات جمركية قاسية، وانكفاء عن الالتزامات الدولية، وتركيز على الأولويات الداخلية. التضخم الناتج عن هذه التعريفات، الانقسامات الداخلية، وتراجع النفوذ الأمريكي في مناطق مثل الشرق الأوسط وأوروبا، أثارت تساؤلات حول ما إذا كانت أمريكا تواجه سقوطًا نهائيًا كإمبراطورية، أم أنها تمر بمرحلة انتقالية تؤدي إلى إعادة ولادتها في نظام عالمي جديد. هذه الخاتمة تستعرض مسار الإمبراطورية الأمريكية، أسباب أزمتها الحالية، تداعيات تفكك النظام العولمي، صعود القوى المنافسة، ومستقبل العالم في ظل صراع الأقطاب، مع تأملات في الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا التحول التاريخي.
مسار الإمبراطورية: من الصعود إلى الأزمة
بدأ صعود الإمبراطورية الأمريكية مع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، عندما خرجت الولايات المتحدة كقوة عظمى تمتلك 50% من الناتج الاقتصادي العالمي، وفقًا لتقرير معهد بروكينغز. مؤتمر بريتون وودز عام 1944، الذي أسس الدولار كعملة عالمية، كان حجر الزاوية في هذا الصعود، مدعومًا بمؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. الناتو، الذي تأسس عام 1949، كان الذراع العسكرية لهذا النظام، موفرًا الأمن لأوروبا الغربية ومكّنًا أمريكا من احتواء الاتحاد السوفيتي. في الشرق الأوسط، دعمت الولايات المتحدة أنظمة مثل إسرائيل ودول الخليج لضمان تدفق النفط ومواجهة القوى القومية. هذا النظام، الذي بدا لا يُقهر في الخمسينيات والستينيات، بدأ يواجه تحديات مع حرب فيتنام (1955-1975)، التي كشفت عن حدود القوة العسكرية الأمريكية وأثارت انقسامات داخلية. الأزمة النفطية عام 1973، التي هزت الاقتصاد العالمي، أظهرت اعتماد أمريكا على موارد الشرق الأوسط. انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، الذي اعتُبر انتصارًا للغرب، أعطى أمريكا فرصة لتوسيع هيمنتها، من خلال تدخلات في الخليج (1991) والعراق (2003). لكن هذه التدخلات، التي كلفت أكثر من 6 تريليونات دولار، وفقًا لدراسة جامعة براون، أثبتت أنها استنزاف للقوة الأمريكية، مما مهد الطريق للأزمات الحالية. بحلول 2025، واجهت أمريكا تحديات داخلية وخارجية هددت مكانتها. التضخم، الذي بلغ 2.7% في الربع الأول من 2025 بسبب التعريفات الجمركية، قلّص القوة الشرائية وأشعل احتجاجات في مدن مثل لوس أنجلوس ونيويورك. الانقسامات الداخلية، التي تفاقمت بين الولايات الليبرالية مثل كاليفورنيا والمحافظة مثل تكساس، أثارت نقاشات حول إمكانية التقسيم، خصوصًا مع دعوات "Calexit" التي حظيت بدعم 28% من سكان كاليفورنيا، وفقًا لاستطلاع جامعة بيركلي. خارجيًا، أدى انكفاء ترامب عن الالتزامات الدولية، مثل تقليص الدعم للناتو وأوكرانيا، إلى تراجع النفوذ الأمريكي، مما فتح الباب أمام قوى منافسة.
سياسات ترامب: محفز التفكك
سياسات دونالد ترامب الحمائية، التي بلغت ذروتها عام 2025، كانت المحفز الرئيسي لتفكك الإمبراطورية الأمريكية. التعريفات الجمركية، التي وصلت إلى 145% على البضائع الصينية وشملت 57 دولة، لم تكن مجرد إجراء اقتصادي، بل رفضًا لمنطق العولمة. هذه التعريفات، التي رفعت تكاليف السلع المستوردة بنسبة 12% في النصف الأول من 2025، وفقًا لتحليل UBS Investment Research، أدت إلى أزمة تضخم أثرت على الطبقات الدنيا والوسطى، مما أجبر الحكومة على رفع أسعار الفائدة إلى 5.5%، وفقًا لرويترز، مما أبطأ النمو الاقتصادي. الانكفاء الأمريكي عن الالتزامات الدولية زاد من حدة الأزمة. تقليص المساهمات الأمريكية في الأمم المتحدة بنسبة 20% في مارس 2025، وخفض الدعم لأوكرانيا بنسبة 50%، أضعف قدرة واشنطن على قيادة النظام العولمي. في الناتو، هدد ترامب بتقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، مما دفع حلفاء مثل بولندا إلى استكشاف بدائل. هذه السياسات، التي ركزت على "أمريكا أولًا"، عززت من انطباع أن الولايات المتحدة تتخلى عن دورها كقائد عالمي، مما فتح الباب أمام قوى مثل الصين وروسيا.
تفكك النظام العولمي: من الهيمنة إلى الفوضى
النظام العولمي، الذي بنته أمريكا، بدأ يتفكك تحت وطأة الانكفاء والتحديات الداخلية. المؤسسات الدولية، التي كانت ركائز هذا النظام، فقدت فعاليتها. الأمم المتحدة، التي عانت من نقص التمويل، فشلت في حل الصراعات في أوكرانيا واليمن، بسبب الفيتو الروسي والصيني. منظمة التجارة العالمية، التي واجهت تحديات بسبب الحرب التجارية الأمريكية-الصينية، أصبحت عاجزة عن فرض قواعد التجارة الحرة. صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان كانا أدوات للهيمنة الأمريكية، واجهتا منافسة من مؤسسات صينية مثل بنك الاستثمار في البنية التحتية الآسيوية (AIIB)، الذي استثمر 250 مليار دولار في مشاريع عالمية بحلول 2025. هذا التفكك لم يكن مجرد تراجع أمريكي، بل تحول نحو "فوضى منظمة"، حيث بدأت قوى جديدة في تشكيل تحالفات بديلة. الصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، بنت شبكة نفوذ تمتد عبر أفريقيا، آسيا، وأوروبا، حيث وقّعت اتفاقيات مع 150 دولة بقيمة تزيد عن 1 تريليون دولار. روسيا، التي عززت تحالفاتها مع إيران، سوريا، وكوبا، استعادت دورها كلاعب جيوسياسي، مستغلة الفراغ الأمريكي. هذه التحولات، التي تزامنت مع أزمة التضخم والانقسامات الداخلية في أمريكا، أشارت إلى نهاية الهيمنة الأحادية وبداية نظام متعدد الأقطاب صعود القوى المنافسة: الصين، روسيا، وما بينهما الصين، التي أصبحت ثاني أكبر اقتصاد عالمي بقيمة 18.3 تريليون دولار في 2024، كانت الرابح الأكبر من تفكك النظام العولمي. إنفاقها العسكري، الذي بلغ 296 مليار دولار، دعم تطوير أسلحة متقدمة مثل الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، مما جعلها منافسًا مباشرًا للمجمع العسكري الصناعي الأمريكي. في الشرق الأوسط، وقّعت الصين صفقات مع السعودية والإمارات لتوريد التكنولوجيا والأسلحة، مما قلّص الاعتماد على أمريكا. في أفريقيا، استثمرت الصين 200 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية، مما عزز نفوذها في دول مثل إثيوبيا وكينيا. روسيا، رغم اقتصادها الأصغر، لعبت دورًا حاسمًا من خلال النفوذ العسكري. تدخلاتها في سوريا وأوكرانيا، إلى جانب تحالفاتها مع إيران وكوبا، جعلتها قوة لا يمكن تجاهلها. في يوليو 2025، وقّعت روسيا اتفاقية مع فنزويلا لتطوير حقول نفط بقيمة 10 مليار دولار، مما عزز وجودها في أمريكا اللاتينية. هذه الخطوات، التي استفادت من تراجع النفوذ الأمريكي، أشارت إلى أن روسيا تسعى لإعادة تعريف دورها في النظام العالمي. بينما تنافست الصين وروسيا، برزت قوى إقليمية مثل الهند وتركيا وإيران كلاعبين مؤثرين. الهند، التي أصبحت ثالث أكبر اقتصاد في آسيا، عززت نفوذها من خلال تحالفات مع إسرائيل، فرنسا، وروسيا. تركيا، رغم الضغوط الداخلية، واصلت سياستها التوازنية بين الناتو وروسيا، لكن تراجع الليرة حدّ من طموحاتها. إيران، التي استفادت من الفراغ الأمريكي، عززت تحالفاتها مع روسيا والصين، مما جعلها قوة إقليمية رئيسية في الشرق الأوسط.
تداعيات على الحلفاء: إسرائيل، الخليج، وأوروبا
تفكك النظام العولمي أثر بشكل مباشر على حلفاء الولايات المتحدة. إسرائيل، التي كانت تعتمد على المساعدات العسكرية الأمريكية بقيمة 3.8 مليار دولار سنويًا، واجهت تحديات مع تقليص هذه المساعدات بنسبة 20% في 2025. هذا التقليص، الذي تزامن مع تأخير تسليم طائرات F-35 بسبب التعريفات، أجبر إسرائيل على البحث عن بدائل. صفقتها مع الهند لتطوير أنظمة طائرات مسيرة، وتعاونها مع كوريا الجنوبية في مجال الرقائق الإلكترونية، عكست محاولتها لتقليص الاعتماد على أمريكا. لكن هذه الخطوات لم تكن كافية لتعويض الفراغ الأمريكي، خصوصًا في مواجهة تهديدات إيران وحزب الله. دول الخليج، التي كانت محميات أمريكية، بدأت في تنويع تحالفاتها. السعودية، التي وقّعت صفقة بقيمة 7 مليار دولار مع الصين لتطوير البنية التحتية التكنولوجية، والاتفاقية مع روسيا لتطوير حقول غاز بقيمة 15 مليار دولار، أظهرت تحولًا استراتيجيًا. الإمارات، التي عززت تعاونها مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، بدأت تلعب دورًا وسطيًا في النظام العالمي الجديد. هذه التحولات، التي غذّتها أزمة التضخم والانشغال الأمريكي الداخلي، أشارت إلى أن دول الخليج تسعى لإعادة تعريف مكانتها في عالم متعدد الأقطاب. في أوروبا، أدى تراجع الالتزام الأمريكي إلى تعزيز دعوات الاستقلال الدفاعي. فرنسا، بقيادة إيمانويل ماكرون، استثمرت 12 مليار يورو في مشروع PESCO، لكن نقص التمويل ورفض دول مثل بولندا التخلي عن الناتو حدّا من هذه الجهود. في أوكرانيا، أدى تقليص الدعم الأمريكي إلى إضعاف موقف زيلينسكي، حيث بدأت كييف مفاوضات غير رسمية مع روسيا لتجميد الصراع في يوليو 2025. هذه التطورات عكست أن أوروبا، رغم طموحاتها، لا تزال بعيدة عن تحقيق السيادة الكاملة.
مستقبل العالم: بين التوازن والصراع
مستقبل العالم في ظل صراع الأقطاب يبقى غامضًا، لكنه يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب يعتمد على توازن هش. الولايات المتحدة، رغم أزمتها، لا تزال تمتلك أكبر اقتصاد عالمي (25.5 تريليون دولار في 2024) وأقوى جيش، مما يجعلها قادرة على استعادة دورها إذا تغلبت على تحدياتها الداخلية. الصين، التي تسعى لقيادة النظام العالمي، تواجه تحديات مثل الشيخوخة السكانية وتباطؤ النمو الاقتصادي. روسيا، رغم نفوذها العسكري، تعاني من اقتصاد محدود، مما قد يحد من طموحاتها على المدى الطويل. في الشرق الأوسط، يبدو أن المنطقة تتجه نحو نظام إقليمي يعتمد على التوازن بين القوى الإقليمية. إيران، التي استفادت من الفراغ الأمريكي، قد تلعب دورًا مركزيًا، لكنها ستواجه تحديات من إسرائيل والسعودية. دول الخليج، التي بدأت في بناء تحالفات مع الصين وروسيا، قد تستفيد من موقعها الاستراتيجي لتصبح وسطاء في النظام الجديد. إسرائيل، التي تواجه تهديدات متزايدة، ستضطر إلى إعادة تقييم استراتيجياتها، ربما من خلال تحالفات مع قوى إقليمية مثل الهند. على المستوى العالمي، قد تشهد المؤسسات الدولية إصلاحات لتتكيف مع النظام متعدد الأقطاب. إعادة هيكلة مجلس الأمن ليشمل قوى مثل الهند والبرازيل، أو تعزيز دور منظمات مثل منظمة شنغهاي للتعاون، قد تساهم في تحقيق توازن جديد. لكن مخاطر الصراع لا تزال قائمة، خصوصًا في مناطق مثل بحر الصين الجنوبي أو أوكرانيا، حيث تتصارع القوى الكبرى على النفوذ.
دروس التاريخ: تأملات في المستقبل
تاريخ الإمبراطوريات، من روما إلى بريطانيا، يعلمنا أن الهيمنة ليست أبدية. الإمبراطوريات تسقط عندما تتجاوز طاقتها، أو عندما تفشل في التكيف مع التحديات الجديدة. أمريكا، التي بنت إمبراطوريتها على القوة الناعمة والصلبة، تواجه لحظة حاسمة. التضخم، الانقسامات الداخلية، وتراجع النفوذ الخارجي، تشير إلى أنها قد تكون على حافة السقوط. لكن التاريخ يظهر أيضًا أن الإمبراطوريات يمكن أن تعيد اختراع نفسها، كما فعلت بريطانيا بعد فقدان مستعمراتها، لتصبح قوة دبلوماسية واقتصادية. لكي تتجنب أمريكا السقوط، يجب أن تعالج أزماتها الداخلية، من خلال سياسات اقتصادية تحد من التضخم وتعزز الوحدة الوطنية. خارجيًا، يجب أن تعيد تعريف دورها كشريك في نظام متعدد الأقطاب، بدلاً من السعي للهيمنة. هذا يتطلب إصلاح المؤسسات الدولية، وتعزيز التعاون مع حلفاء مثل أوروبا والهند، والتكيف مع صعود الصين وروسيا. بالنسبة للعالم، فإن الانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب يحمل فرصًا ومخاطر. الفرص تكمن في إمكانية تحقيق توازن يعزز التعاون الاقتصادي والأمني. لكن المخاطر، مثل الصراعات الإقليمية والحروب التجارية، تتطلب حذرًا وحكمة من القوى الكبرى. الشرق الأوسط، كمثال، يمكن أن يصبح نموذجًا للتوازن إذا نجحت القوى الإقليمية في إدارة تنافسها، أو ساحة للصراع إذا فشلت.
الخاتمة النهائية
الإمبراطورية الأمريكية، التي هيمنت على العالم لعقود، تقف اليوم على مفترق طرق. سياسات ترامب الحمائية، التي أثارت تضخمًا وانقسامات داخلية، وقلّصت النفوذ الأمريكي، سرعت من تفكك النظام العولمي. صعود الصين، روسيا، وقوى إقليمية مثل الهند وإيران، أعاد تشكيل العالم نحو نظام متعدد الأقطاب يتسم بالفوضى المنظمة. حلفاء مثل إسرائيل ودول الخليج، الذين بدأوا في تنويع تحالفاتهم، يعكسون هذا التحول. لكن التاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات لا تسقط بسهولة، وأن أمريكا تمتلك القدرة على إعادة اختراع نفسها. هل ستكون هذه نهاية الإمبراطورية، أم بداية ولادة جديدة؟ الإجابة تعتمد على قدرة أمريكا على مواجهة أزماتها، وعلى حكمة العالم في إدارة صراع الأقطاب. في هذا العصر الغامض، يبقى الأمل في أن يتعلم العالم من دروس الماضي، ليبني مستقبلًا يجمع بين التنافس والتعاون، بعيدًا عن شبح الصراعات المدمرة.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدجالون المعاصرون: شيوخ الإسلام الصهيوني وتفكيك النسيج العر
...
-
لغز سورية التي دمرت لوبي العولمة و احتلال أردوغان ..تتمة لكت
...
-
أردوغان كمقاول بالباطن لوكالة الاستخبارات المركزية..افتتاحية
...
-
الشطرنج الروسي: استراتيجية القوة في عالم النهب النيوليبرالي.
...
-
تصفية إسرائيل: من عبء أمريكي إلى نهوض المقاومة..كتاب
-
كراهية الأقلية المالية الأوليغارشية للثقافة: تفكيك الهمجية ا
...
-
سمير أمين ورفض المخطط الاستعماري الأمريكي-الصهيوني لاحتلال س
...
-
سورية: من فتنة التريليونات إلى المقاومة الممكنة..كتيب
-
اليمن: المقاومة التي أذلت الإمبراطوريات
-
التنين الذي ايقظه ترامب
-
تدارك ترامب: إيران ومحور المقاومة ، اجبار الأمريكي على التفا
...
-
الفاشية المالية في بلجيكا ورموزها الحالية دي ويفر وبوشيز ومي
...
-
الأيباك :القناع المالي للاحتكارات الغربية للسيطرة والإبادة ا
...
-
تصريحات ترامب: استغلال العالم أم استغباء الأمريكي؟ - الدولار
...
-
التكوين الطبقي للعصابات الحاكمة في أوروبا الشرقية: تعبير عن
...
-
أوربان ونتنياهو: تواطؤ الإبادة من غزة إلى لبنان - جرائم البي
...
-
صنعاء تقاوم الإبادة - القانون الدولي بين النظرية والفعل..كتي
...
-
من بروكسل إلى نيويورك، تواطؤ في الإبادة الفلسطينية (أوهام ال
...
-
حملة بايدن و ترامب الإرهابية ضد إنسانية الشعوب والهولوكوست ا
...
-
خرافة الدفاعات الجوية الأمريكية-الإسرائيلية: إيران وسلاح الب
...
المزيد.....
-
الكويت: القبض على مقيم بحوزته سلاح ناري دهس رجل أمن عمدا وفر
...
-
آلاف المؤمنين في ملقة يشاركون في موكب عيد الفصح السنوي
-
تقرير يحصي تكلفة وعدد المسيرات الأمريكية التي أسقطها الحوثيو
...
-
إعلام أمريكي: كييف وافقت بنسبة 90% على مقترح ترامب للسلام
-
السلطات الأمريكية تلغي أكثر من 400 منحة لبرامج التنوع والمسا
...
-
البيت الأبيض يشعل أزمة مع جامعة هارفارد بـ-رسالة خطأ-
-
ارتفاع حصيلة الضربات الأميركية على رأس عيسى إلى 74 قتيلا
-
الكرملين: انتهاء صلاحية عدم استهداف منشآت الطاقة الأوكرانية
...
-
في ظلال المجرات… الكشف عن نصف الكون الذي لم نره من قبل
-
القوات الروسية تتقدم وتسيطر على ثالث بلدة في دونيتسك
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|