|
لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 8315 - 2025 / 4 / 17 - 10:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تفتقد سوريا اليوم، وهي في واحدة من أشد اللحظات حساسية في تاريخها، إلى صوت واضح وحازم من الفئة الأهم في المجتمع السياسي السوري، نقصد الفئة الوطنية صاحبة الوعي الذي يمكن أن يسند وحدة سوريا وتماسكها. لنلاحظ هذا التحول، شاع في بداية ثورة 2011 في سوريا أن هتافاً تردد في المظاهرات يقول بقتل العلويين وتهجير المسيحيين. رفضت حينها غالبية المعارضين لنظام الأسد، ونحن منهم، هذه الإشاعة بحزم وكذبتها، واعتبرتها إحدى محاولات المدافعين عن نظام الأسد لتشويه الثورة وصد الناس عنها. وقيل إنه حتى لو ردد البعض مثل هذا الهتاف فإنهم لا يمثلون الثورة ولا وزن لهم فيها. ثم قبل أيام فقط من الذكرى الرابعة عشرة للثورة، تحولت الإشاعة إلى مجازر فعلية بحق العلويين، فقط لأنهم علويون، بحسب المنطوق المباشر والصريح للجناة، ولم يبد الكثيرون ممن استنكروا بحزم وثبات الإشاعة القديمة، موقفاً حازماً وثابتاً في رفض المجازر المروعة التي ربما كان سيميل كثيرون منهم، كما توحي سجالاتهم ومحاكماتهم العقلية المعلنة وضعف تعاطفهم مع المنكوبين، إلى التكذيب لولا أن الجناة وثقوا أفعالهم متفاخرين ودون خشية من أي عواقب. نحن لا نتكلم هنا عن أفراد ذوي مصلحة ينضوون في هياكل السلطات الجديدة، ولا نتكلم عن أفراد من بطانة هذه السلطات أو مستفيدين بصورة شخصية مباشرة منها، كما لا نتكلم عن شريحة معادية لفكرة الشعب نفسها وترى إلى الحياة السياسية من موقع تمييزي وتصنف الناس وحقوقهم إلى درجات بحسب البيئة المذهبية التي ولدوا فيها، نحن نتكلم عن أشخاص وطنيين يدافعون عن الديموقراطية والمواطنة ودولة القانون، وبينهم من سبق له أن دفع ثمناً باهظاً لوقوفه ضد سياسات القوة، وضد سياسات التمييز التي ثابر نظام الأسد على ممارستها في الحياة العامة. هؤلاء هم رصيد وطني ثمين لسوريا، والحق إن هؤلاء هم في المقام الأول من يفترض وقوفهم ضد المجازر، وهم من يفترض أن يتطلع المنكوبون إليهم منتظرين الانصاف والتضامن الفعلي أو المناصرة اللفظية الصريحة على الأقل، ذلك أن أنصار دولة القانون معادون بالطبع للقتل الاعتباطي للناس، معادون حتى لقتل مرتكبين ومجرمين خارج القانون، فهم مناصرون أساساً لحكم القانون بوصفه السبيل الأهم إلى نزع العنف من المجتمع. صحيح أن بين آذار 2011 (الثورة) وآذار 2025 (المجزرة)، كثير من الدمار والدم ومن المعاناة والمآسي التي تكبدها السوريون على يد نظام الأسد، وبصورة خاصة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، ولكن الواضح أن هذه السنوات خرّبت أيضاً في وعي وفي نفوس السوريين عموماً، ومن ضمنهم أولئك الوطنيون الذين سبق أن استنكروا مجرد هتاف يقول بقتل العلويين، ثم باتوا متساهلين مع جريمة إبادة، متخذين من فظائع نظام الأسد مستنداً لتساهلهم. أي يجدون في الدوس على القيم والقانون مبرراً لتكرار الفعل نفسه. يبقى الأهم هو أنه بدلاً من أن يتصلب ويشتد الوعي السوري ضد الأسباب الحقيقية للدمار الذي شمل البلاد، الأسباب التي يدركها جيداً هؤلاء الوطنيين المتفهمين للمجازر، ترى هذا الوعي يتراجع أمام إعادة تشكل نفس الأسباب، ويتساهل مع ما كان يرفضه بقطعية من قبل، ثم يجتهد في تبرير تساهله، ويرى في هذا "الاجتهاد" تطوراً في الوعي وتحرراً من النظريات الجامدة وخروجاً على المساطر. هكذا بات يُزيَّن لهؤلاء أن "تفهم" مجازر إبادة طائفية صريحة، هو تطور وانحياز إلى المستقبل، والحال إننا بذلك إنما نخسر المستقبل، بقدر ما نريد سوريا موحدة ومتماسكة. بالطبع لا يغيب عن بالنا، ما أقدم عليه عناصر من النظام السابق ممن لا يريدون الاستسلام لحقيقة أن السلطة خرجت من أيديهم، ويبحثون عن مخرج للمأزق الذي هم فيه. ونعتبر أن مهاجمة بقايا النظام لدوريات الأمن العام بالكمائن ومهاجمة المشافي ونشر قناصات على الأسطح ومحاولة السيطرة على مناطق والاستقواء اليائس بقوى خارجية، إنما هو استمرار لإجرامهم الممتد والمعهود ضد السوريين. ونعلم أن هناك من الشباب العلويين من انضم إلى هؤلاء تحت مؤثرات عديدة منها، ولعل أهمها، الانتهاكات التي راحت تمارسها بعض الفصائل بحق العلويين بعد سقوط نظام الأسد، والتي تهاون معها كثير من الوطنيين بوصفها "حالات فردية". السؤال، لماذا رفض الوطنيون الهتاف الداعي لقتل العلويين في بداية الثورة، ثم تهاونوا اليوم مع القتل الإبادي الذي استهدفهم؟ الجواب الشائع هو بسبب جرائم النظام على مدى 14 سنة. لكن هذا يعني أن الوطنيين السوريين يعتبرون العلويين، بوصفهم جماعة مذهبية، مسؤولين عن هذه الجرائم، وليس النظام الذي تمكن من جعل الدولة ملكية خاصة للسلطة وجعل السلطة ملكية خاصة للعائلة، والواقع أن نظام الأسد ما كان ليتمكن من فعل ذلك لولا تساهل المجتمع السوري وتراجعه أمامه، الأمر الذي تبدو ملامح تكراره اليوم أيضاً أمام السلطات الجديدة. ثم حتى لو اعتبرنا العلويين، كجماعة، مسؤولين عن جرائم الأسد، وهو اعتبار خاطئ، فإن الانتقام الذي جرى لا يمكن أن يسكت عنه من يريد فعلاً بناء دولة وبلاد مستقرة لا تقوم على الغلبة ومراكمة الضحايا على الضحايا والأحقاد على الأحقاد. هناك جواب آخر، هو أن السبب يعود إلى جرائم بقايا النظام بعد سقوطه، والتصور بأن العلويين تعاونوا أو سكتوا عن مؤامرة فلول النظام. من يكرر هذا القول يضيف عادة، وإلا لماذا لم تجر هذه المذابح قبل كمائن الفلول؟ والحق أن المرء لم يكن بحاجة إلى متابعة لصيقة كي يعرف أنه خلال الشهور الثلاثة التي سبقت المجازر، لم يخل يوم من الانتهاكات التي تدرجت بين الإهانات الطائفية والاستيلاء على أملاك وصولاً إلى القتل الطائفي، وقد بلغ عدد القتلى العلويين في هذه الفترة حوالي 600 ضحية بحسب المرصد السوري لحقوق الانسان، وهو ما شكل في الواقع تمهيداً مناسباً لبقايا النظام. في كل حال، لا نعتقد أن أحداً من المتساهلين مع المجازر، يعتبر أن قتل العائلات العزلاء في بيوتها هو تصد لبقايا النظام. الجلادون أنفسهم وهم ينفذون جرائمهم، لم يكن في تصورهم إنهم يواجهون بقايا النظام، كان في أذهانهم ما كانوا يصرحون به مراراً، وهو إنهم يقتلون العلويين "الخنازير". في الخلفية الذهنية لهؤلاء مزيج من احتقار ديني للعلويين مبني على تعبئة بالرفض الديني الثابت للمختلفين، وعلى فتاوى مغلقة عابرة للأزمنة ولها استقلال لا بأس به عن السياسة، مضافاً إلى رفض سياسي غذاه نظام الأسد، واتخذ بعداً طائفياً لاعتبارات عديدة، أهمها أن النظام استند في ذراعه العسكري الأمني على العلويين بصورة أساسية. وقد ساهم وصف النظام السوري بأنه "نظام علوي"، وهذا الوصف من منشأ إسلامي أصلاً، في تعزيز الدافع الانتقامي ضد العلويين، حين تراكبت الفتوى الدينية على الفتوى السياسية. ومن المفهوم أنه في البلدان التي لا تتوفر فيها انقسامات طائفية كالتي في سوريا، سوف يتخذ الرفض السياسي أبعاداً أخرى، قد تكون عشائرية أو إثنية أو أي خطوط انقسام أخرى غير سياسية وتعمل على خنق الانقسامات السياسية وإحالة الصراع السياسي إلى عنف أعمى مدمر لا ينتج سوى المزيد من العنف. ضعف الحساسية الذي أبداه كثير من الوطنيين السوريين تجاه مجازر الساحل، وقبلها تجاه الإذلال والانتهاكات اليومية التي تعرض لها العلويون في مناطق مختلفة بعد سقوط نظام الأسد، تكشف واحدة من أسباب مراكمة الفشل، حين تنكفئ الفئة الأهم في المجتمع عن الاعتصام بحبل القيم الوطنية العامة الذي هو ما يعطيها قيمتها.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نجاة سوريا في التضامن الأهلي
-
سوريا، أوقات مسحورة ولكنها واقعية
-
مسؤوليتنا في أحداث الساحل السوري
-
إدمان على الاستبداد
-
الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش
-
سورية ملونة وليست ألواناً
-
الخطر الجاري الذي يهدد مستقبل سوريا
-
درس علوي في سورية يجدر تأمله
-
مخاطر الانتقال إلى سوريا جديدة
-
عن مظاهرات السوريين العلويين
-
هل انتصرت الثورة في سوريا؟
-
الموالون وتلاشي نظام الأسد
-
عن سورية والتطورات الأخيرة
-
نزوع الضحية إلى السيطرة
-
انتصارات إسرائيل الخاسرة
-
عن اللوثة الطائفية في سوريا
-
التكيّف مع الاحتلال
-
تحول حزب الله من المقاومة إلى الردع
-
نحن والاحتجاجات في إسرائيل
-
عن انقسام عقيم يلازم السوريين
المزيد.....
-
صحة غزة: مقتل أكثر من 90 شخصا في غارات إسرائيلية خلال 48 ساع
...
-
إعلام: هواوي تطلق إنترنت -10 G- في الصين
-
-سي إن إن-: هدنة عيد الفصح ستتسبب بصعوبات لأوكرانيا
-
سوريا.. اندلاع حرائق ضخمة في مدينة مصياف بريف حماة (صور)
-
مظاهرات في عواصم ومدن أوروبية عدة تطالب برفع الحصار ووقف حرب
...
-
مسؤول أميركي يتحدث عن إحراز تقدم بمفاوضات النووي مع إيران
-
سيناتور روسي يعلق على تصريح زيلينسكي بشأن هدنة عيد الفصح
-
نيجيريا.. مسلحون يقتلون 56 شخصا في ولاية بينو وسط البلاد
-
مصر.. المشدد 5 سنوات وغرامة في حق المقاول محمد علي بتهمة -غس
...
-
ألمانيا.. مقتل شخصين بإطلاق للنار في بلدة شمالي فرانكفورت
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|