خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8315 - 2025 / 4 / 17 - 02:25
المحور:
الادب والفن
كأنه في صباح هذا اليوم من أيام عطلته الجامعية قد وجد نفسه ، ومن ساعات الفجر الاولى في محطة من محطات دروب حياته ، و قد جلس على احد الاريكة في إحدى المتنزهات العامة القريبة من داره في المدينة التي يعيش فيها. رأئ قبالته من بعيد ثلاث اشخاص ، خط العمر ومتاعب الحياة على وجوههم حفر وأخاديد انعكست بوضوح على ملامحهم واكسبتها هيبة ووقارا وبان عليها معاني الحكمه.
اثار لديه تواجدهم في نفس المحطه لهفه اقتناص الفرصة ، وكأنه قد توقع ان يسمع منهم خواطر تمثل خلاصة تجاربهم في هذه الحياة ، وهو يسمع في هذه المتنزه العام من بعيد تغاريد البلابل والطيور التي تغني للحياة ولكنه شعر من خلال تغيير نبرات تغاريدها وتنقلاتها بين اغصان الاشجار، ان كل منها لا يغادر الغصن الواقف عليه الا بعد ان ينال كفايته من التغريد ، ومن يدري فلعل كل من هذه الطيور والبلابل يحكي قصته وينشد قصيدته ليناجي بها صديقته في هذا الصباح.
هذه الأغصان التي كستها خيوط أشعة شمس الفجر الاولى رونقا و جمالا إضافيا قبل أن تتزاحم عليها مع اقتراب منتصف النهار ، لتجعلها تبدو معه كأنها في سباق مع الكثير من الاحياء هربا من نيران حرارتها اللاهبة في هذه الأيام من منتصف تموز.
ولعل هذا أيضا ما جعل هؤلاء الأشخاص يغتنمون ساعات الفجر لينشدوا مع تلك الطيور والبلابل اغنية الحياة ، كل على طريقته ، على وقع جمال طبيعتها التي تعكسه الجبال المطلة من بعيد ومن كل الجوانب تقريبا على ذلك المتنزه.
فقاده كل ذلك ليقترب أكثر من الأشخاص الثلاث ، وهذا ما كان دون ان يلفت انتباههم او يشعرهم بذلك ، وعندها بانت له ملامحهم أكثر بما أمكنه من رؤية أشياء مكسوره في داخل كل منهم ، وكأنها تريد ان تفصح عن مكنونها كتلك البلابل والطيور.
كل ذلك شجعه أن ينتهز الفرصة ليستمع الى حديث توقعه بينهم ، مع ان كل منهم جاء منفردا الى هذه المحطة ، ليجدوا انفسهم بداية جالسين دون موعد على نفس الأريكة ويمكن ان تكون اعمارهم وملامح وقارهم قد شجعتهم على ذلك.
بان له بعد ذلك ، ان اللقاء كان لحكمة أرادها الزمن ان يسمعها عنهم في هذه المحطة، إذ سرعان ما رآهم قد الفوا بعضهم البعض ، ولاح له بعد برهة ان اقدمهم جلوسا على الأريكة أراد أن يكسر حاجز الصمت بينهم ،وكأنه قد قرأ ما يدور في ذهني زميله. ذلك انه بعد أن تبادلوا السلام و تعارفوا ، سمعته يفتتح حديثا مع جلسائه بالقول :
خطيئة الأنقياء في هذا الزمن هي ظنهم بأن الجميع مثلهم ، فنقاءهم ابعدهم عن استيعاب وجود بشر ملوثين من الداخل.
فأجابه الرجل الثاني مؤكدا ولكن بتعبير آخر:
نعم الانسان الملوث داخليا لا يستوعب وجود بشر انقياء ، ولهذا يتمادى في مكره وشره.
وسرعان ما بادر الرجل الثالث بالكلام وكأنه كان متلهف لتبادل أطراف الحديث معهم :
ما اجمل ان يكون الانسان صادقاً في حياته قولاً و فعلاً ولا يكون متناقضا بين قول جميل بدر منه وفعل لاحق لا يليق به.
رأيت من تجاربي ان من جمال الحياة وروعتها أن يتوافق كلام اﻹنسان مع أفعاله.
لذا على كل إنسان أن يكون صادقا في حياته ولا يثق بأحد لمجرد أن أعجبه حديثه.
فكم أصبح في الحياة مظاهر خداعه . وكم وجدت أن ظل بعض الأشخاص أكبر من حجمهم.
ثم أضاف يقول:
لذلك على كل انسان ان يكون سطحيا مع من لا تليق بهم الأعماق كهؤلاء الأشخاص الملوثين الذين أشرتم لهم.
وسرعان ما اجابه الاول:
رغم وجود كل متاعب الحياة ورغم وجود هؤلاء الملوثين نحن لم نتغير في ما نحمله من قيم ومبادئ ، ولكن تجاوزنا تجارب البشر ولا يظن أحد اننا لم نستوعب دروس الحياة وعبرها في كل محطاتها.
ولا يظن أحد أن من يواسيك في هذه الحياة ليس لديه ما يحزنه ، فربما تجده يحتاج للمواساة أكثر منك
ولا يظن أيضا أحدا أن من ينصحك لديه من الحكمة ما تجعله لا يحتاج إلى النصيحة ؛ فقد يكون في أمس الحاجة للنصح أكثر من حاجتك إليه .
مثلما لا يظن أحدا أن من يحاول أن يجعلك تبتسم ويخرجك من دائرة همومك هو إنسان خال من الهموم ؛ فقد تكون مشكلاته تفوق مشاكلك .
لكن تعودنا ان نهدي من نحب ما نحن في حاجة إليه ، مع أننا نعجز عن أن نهديه ﻷنفسنا.
أما هو الجالس من بعيد وبالكاد يسمع صوتهم ، فحديثهم الشجي ذكره بقول لشمس الدين التبريزي:
إن الإنسان لا يشيخ عندما يتقدّم به العمر، لكنه في الحقيقة يشيخ عندما ينطفئ ضوء ما كامن في روحه.
وكأن التبريزي يقصد بقوله ان يشيخ ، انه يصبح حكيما بلغه زمانه وكل زمان. وتراءى له ان كل من هؤلاء الثلاث قد انطفأ يوما ضوء ما كان كامن بداخله وجعلهم حكماء كما بدى له من حديثهم.
وفي الحال اطلق من تلقاء نفسه على هؤلاء الرجال بالحكماء الثلاث ، ذلك كان بعد أن سمع الحكيم الثاني يجيب الاول ويقول:
يبدو اننا مهما كنا أقوياء ، لن نستطيع حمل حقائب الحياة في كل محطاتها وحدنا.
ولهذا نحن بحاجة إلى محطات نلتقي فيها ، ونتبادل على الاقل اطراف الحديث .
نحن بحاجة دائما لمن يحمل عنا شيء من ثقل أيامنا لا ان يستريح معنا او عندنا فقط في اي منها كمحطة عابرة فقط يستجمع فيها قواه .
وما هذا اللقاء الصدفة بيننا إلا تأكيد لذلك.
وبدا له أن هؤلاء الثلاث لم يستريحوا على تلك الأريكة من اجل اراحة أجسامهم بل ايضا من اجل راحة بالهم والبعد بعض الشيء في هذا المتنزه ومن ساعات الصباح الاولى عن هموم الحياة ومتاعب هذا الزمن بسماع أصوات البلابل والعصافير وتغاريدهم.
كيف لا وهم من جيل جبل على القول :
احفر اينما شئت في الارض تجد كنزا ولكن عليك ان تحفر بايمان الفلاح ، بينما وجدوا أن جيل هذا الزمن قد جبل على إيقاع السرعة في كل شيء.
بدا له ذلك كون الجميع قد وجدوا انفسهم انهم يعيشوا في زمن لم يعد الإنسان فيه يشتاق لشيء قدر اشتياقه لراحة البال ، رغم ان كل منهم يفهمها بطريقته ، فكل كنوز الارض لم تعد تعادلها.
قطع ثانية صوت الحكيم الثاني حديثه مع نفسه عندما سمعه يقول:
تتأرجح بنا الحياة بين حلم وأمنية. بين حلم يأخذنا بغفوة ، وأمنية هي على قيد اﻷنتظار.
عيون تنتظر وقلب يتمنى وﻻ يحدث اﻻ ما كتبته اقدارنا ,
أقدارنا التي يكون لارادتنا دور ولكن لإرادة الآخرين فيها الدور الأكثر ، مع إننا نداري خواطر بعضنا ونقول انها ارادة الحياة.
واسترسل الحكيم الثاني بالحديث ليضيف :
إن أقسى ما مر بي في الحياة هو انني فهمت الأشياء في وقت متأخر جدا.
فأجابه الحكيم الثالث وكأنه يريد ان يداري هموم جليسه:
لا عليك
لا أحد يعرف ما في داخل كل منا من هموم وأوجاع ، رغم ما نظهر به أمام الآخرين من هدوء واتزان.
لا أحد يعرف كم مرة هزمتنا الحياة ولكن قاومنا
لا أحد يعرف كم مرة بكينا ليلاً مع أنفسنا
لا أحد يعرف كم نعاني لنظهر ذلك الاتزان الذي نبديه امام الاخرين.
لا أحد يعرف الثمن الذي دفعناه لنصل لهذا الحد من البرود او ان شئتم سموها الحكمه
لا أحد يعرفنا
لا أحد يعرف شيئًا عن معاركنا مع الحياة
ثم توقف عن الحديث ليداري حشرجة صوته.
وما لبث ان اكمل حديثه الحكيم الثاني ليقول:
لا عليك ، لدى البشرية تاريخاً من الحزن يكفي لإثبات أن ملح البحر من دموع البشر.
وسرعان ما عاد الحكبم الثالث للحديث وكأنه فهم ما يرمي إليه زميله ليكمله بالقول :
التاريخ بمعنى العبور في محطات الحياة على مر الزمن يعلمنا كبشر كيف ننضج ونعرف معاني الرضى و القناعة.
وعندها نجد أن الحياة لا تعطينا كل ما نُحب ولكن القناعة تعطينا كل الحياة.
لنجد معها إننا لا نريد في الحياة ان نكون الاسعد بين الناس ولا أفضلهم ولا اغناهم ، بل نريد ان نعيش بهدوء وعافية وراحة بال.
فجمال الحياة يبدأ من داخلنا ، أي بمعنى متى كان قلبك جميلا رأيت أبسط الأشياء حولك في غاية الجمال.
وعندها ابتسم الحكيم الاول وعبر عن وجهة نظر حيال ما اثاره زملائه بالقول:
لا يمكن لإنسان أن يخوض الحياة بمفرده.
ولكن إن استطاع فليعبر عبورا كريما منها ، وذلك يكون بأن :
لا يؤذ نفسا ، و لا يكسر قلبا ، و لا يبك عينا ، و لا يجرح روحا ، و لا يقتل حلما ، و لا يطفئ بسمة
ذلك إن الحياة لا تستحق كل ذلك منه.
ثم اختتم الحكيم الأول الحديث كما بدأه ليقول:
سيمضي بنا الزمن و ندرِك يقينا أن خير ما يظفر به الإنسان في هذه الحياة أثرا طيبا ، وذكراً حسناً.
قال ذلك هذا الحكيم ، وكأنه يذكر زملائه كما اتوقع بملحمة كلكامش ، تلك الملحمة التي استفادت من عبرها كل شعوب الارض الا شعب من عاش علر ارضه (الشعب العراقي). ولا غرابة كونه الشعب الوحيد الذي أصبح بمأسيه وما مر به من تجارب قاسية ومحطات مؤلمه عبرا وأحاديث لغيره من شعوب الأرض.
اما هؤلاء الحكماء ، فسرعان ما وجدهم بعد ذلك يودعون بعضهم بعض ، ثم غادروا المحطة كل الى غايته ولكن قبلها سمعتهم يقولون ايضا :
لقد وجدنا في حديثنا مع بعض ما يغسل عن ارواحنا وقلوبنا متاعب الحياة ،كما تغسل المياه عن اجسادنا عرق جبين اتعابنا والامنا.
ثم اختلط مع كلمات وداعيه عبارات مقتضبة ، فهم منها انهم اتفقوا على ان يلتقون ثانيه في المحطة التالية.
عندها قال مع نفسه:
حقا لم ينضج هؤلاء أبداً بعدد السنوات التي عاشوها ، بل انهم نضجوا عندما هُدِمَ أمامهم كل الأشياء التي كانوا يؤمِنون بها يوماً ولم يبقى لديهم غير أحاديث عنها واماني بعودتها.
وبدا له من ملامحهم وحديثهم مع بعض وكأنهم يوما ما في سابق حياتهم قد
أغمضوا أعينهم كل على انفراد وكل في مكان و زمان يخصه ولثوانٍ فقط ،واستيقظوا بعدها ليجد كل منهم عمره وكأنه قد بلغ من السنين أربعة آلاف عام. أي كأن عمر كل منهم بقدر عمر الحضارة على هذه الارض. أما كيف فهناكَ أيام كأنّها سنين وسنين كأنّها أيام.
وعندها تعلموا أن لا شيء يدوم ، وعليهم ان لا يمنحوا ثقتهم وأمانهم لأي كان ، فالانسان عندما تدين الدنيا له يحكمه مزاجه اكثر من مبادئه.
أما عامة الناس فيبقون يرددون في كل زمان مع انفسهم اننا قد نضجنا ، نضجنا كثيراً ولكن ليس بعدد سنين أعمارنا بل بالصفعات التي تلقيناها في تجاربنا القاسية ، و ومحننا في الحياة التي استطعنا تخطيها. وكأن لسان حالهم يقول:
نحن ندفن كل يوم أشياء لم نخبر أحداً عنها.
هكذا تستمر الحياة عند الكثير.
أما بالنسبة لي
فقد يسأل القارى ، هلا عرفتنا باسماء هؤلاء الحكماء؟
اقول كثيرا ما تجدون امثالهم عناوين في بطون الكتب او على مواقع شبكة الانترنت ومنها مواقع التواصل الاجتماعي ، وقبلها تجدون امثالهم في اروقة الجامعات
فهؤلاء بالتاكيد يستقون أفكارهم من احاديث المفكرين والفلاسفه والحكماء وكل الذين سبقوهم و مروا في حياتهم بنجاحات مثمرة و تجارب قاسية.
واخيرا لا يسعني إلا القول:
سيأتي دوماً صباحا جديدا يحمل أملا جديدا مهما كانت ظروف الحياة و وقائعها.
طابت اوقاتكم على كل خير وعافيه
طابت اوقاتكم على كل شيء جميل
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟