همام طه
الحوار المتمدن-العدد: 8314 - 2025 / 4 / 16 - 12:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ضبط النفس في زمن التصعيد
في منطقة تتغذى على الثأر السياسي والاحتقانات الطائفية، يظهر اسم محمد شياع السوداني كرئيس وزراء عراقي يسعى لإعادة تعريف القيادة السياسية بوصفها قدرة على ضبط النفس لا على تأجيج الخصومات، وإقامة جسور التواصل لا حفر خنادق المواجهة، وبناء الثقة لا صناعة الأعداء. مواقف متفرقة للرجل قد تبدو في ظاهرها متواضعة، لكنها تكشف عن نهج مختلف، تتجلى فيه ملامح عقلانية سياسية تنأى عن قيود الذاكرة الجريحة والانفعالات الهوياتية، وتُؤسّس لمنظور جديد للسلطة بوصفها ممارسة ذات مضمون أخلاقي، لا تكتفي برد الفعل بل تبادر بالفعل المسؤول.
التسامح كخيار سياسي لا مجرد فضيلة شخصية
أحد أكثر المواقف تعبيراً عن هذه الروح الجديدة يتمثل في ما ذكره السوداني نفسه متحدثاً عن حياته الشخصية: مواظبته على زيارة جاره، المتهم بالوشاية بوالده الذي أعدمه نظام صدام حسين، لتهنئته في كل عيد. هذه ليست فقط لفتة إنسانية، بل موقف مبدئي يؤمن بأن العدل لا يعني الانتقام، وأن الكرامة لا تُستعاد بالحقد. إنه فعل سياسي بمعناه العميق، وإعلان رفض لإعادة إنتاج الكراهية. السوداني هنا لا يُنكر الجريمة، لكنه يختار أن لا يُسلم روحه إليها ولا يستسلم لإملاءاتها النفسية والعاطفية. في بلدٍ تمتزج فيه الخسارات الفردية بالمآسي الجماعية، وحيث تُغذى الهويات على الجراح الغائرة والندوب التي تُجدد الألم، وتُبنى السياسات على استفزاز الذاكرة الجمعية، يُمكن لهذا الموقف أن يُفهم بوصفه تعبيراً عن نزعة سياسية جديدة ترتكز على السيادة الأخلاقية باعتبارها ممارسة لتحرير الذات من سلطة الجرح.
الانعتاق من منطق الدم والانتقام
أن يعيد السوداني رسم العلاقة مع الماضي بهذا الشكل هو تحرُّر نادر من منطق "الدم لا يُغسل إلا بالدم"، ومن ثقافة سياسية تقليدية تقوم على إغراء فئات المجتمع باستساغة دور الضحية، وتكريس مظلوميات الطوائف، وخلق مناخ تناحري موحش يساعد على تكرار فظائع الأمس بصيغ أخرى. إن سلوك رئيس الوزراء المتمرّد بوعي على منطق الكراهية لا يعبّر عن عقلانية براغماتية فحسب، بل هو خطوة لبلورة لموقف قِيَمي يتجاوز لغة الثأر، ويصوغ الذات الحاكمة كذات فاعلة، غير منفعلة، تعيد تأهيل الذاكرة كي تتواءم مع نهج التنمية، ولا تُسخّرها للهيمنة السياسية. إنه موقف أخلاقي متسق مع فكرة السيادة الأخلاقية، حيث لا تكون السيادة مجرد رفض للتدخل الأجنبي، بل خلق للحصانة الخارجية وتعزيز للمناعة الداخلية. السيادة، بهذا المعنى، بناء داخلي يتطلب عقلنة الذاكرة، وترسيخ المشتركات، وتطوير الرؤية، وتجديد الخطاب، وإدارة الخلافات برشد، وخلق مناخات الثقة، باعتبارها مقومات لأي مشروع إصلاحي وتنموي مستقبلي.
في هذا السياق، يمكن فهم "السيادة الأخلاقية" على أنها قدرة الدولة ـ والفرد الحاكم على وجه التحديد ـ على ترويض وعقلنة سلوك قوى السياسة الغريزية التي تجد مصالحها في الانقسام، وامتلاك صانع القرار الاستراتيجي مهارة تحويل الألم إلى مسؤولية بنّاءة لا إلى سلاح انتقامي. إنها إعادة تعريف للسيادة لا بوصفها امتلاكاً للقرار، بل تملّكاً للضمير السياسي، وانضباطاً ذاتياً، وضبطاً لإيقاع السلطة في سياق التحديات الوجودية التي يُواجهها المجتمع وتُختبر فيها الدولة.
انفتاح إقليمي بلغة المصالح لا العواطف
في سياق إقليمي غالباً ما تُختزل فيه العلاقات بالمجاملات السطحية أو الاصطفافات الطائفية، لا يتردد السوداني عن الاحتفاء بصدق وعلانية بعبارة قالها له الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، في لقاءٍ جمعهما: "أخي السوداني، اعتبرني أنا ووزرائي مستشارين عندك". وعلى الرغم من نُبل البُعد الأخلاقي في عبارة بن سلمان، وأخلاقية إعلان السوداني لها، لا يبدو رئيس الوزراء العراقي مأخوذاً بهذا التقدير الودود من موقع العاطفة، بل من موقع الندية الواقعية التي تتطلبها العلاقات بين الدول. وهذا التوازن بين الاحترام المتبادل وإدراك الكرامة بوصفها تكريماً للآخر يعكس جانباً من السيادة الأخلاقية التي لا تنظر إلى العلاقات الخارجية باعتبارها مقايضة بين التبعية والمصلحة، أو اختياراً بين الارتياب والخضوع، بل بوصفها شراكة ناضجة ونماء متناغم وتقارب واعٍ.
السوداني في استدعائه لهذا الموقف مع ولي العهد السعودي لا يبحث عن اصطفافات عاطفية أو تضامن شخصي، بل يدير السياسة بلغة المصالح المشتركة والالتزام الأخلاقي تجاه الداخل العراقي والفاعلين الإقليميين. ولعل هذه القدرة على الإمساك بالواقعية والحسّ الإنساني معاً، وتقدير مواقف الآخرين، والتقاط الرسائل الإيجابية والبناء عليها والاستثمار فيها، وتطوير وإدارة الشراكات الإقليمية بمنطق الصدق الشخصي المتبادل والصداقة الإنسانية والمصداقية السياسية، وعلى قاعدة التكافؤ بين رجال دولة يبحثون عن مصالح شعوبهم، وحفظ الكبرياء الوطنية للذات وللآخر، هي لبّ السيادة الأخلاقية: فن الحكم الذي يوازن بين التاريخ والمستقبل، وبين الإنساني والسياسي، وبين المبادئ والمصالح.
تواصل عابر للعقائد: واقعية استراتيجية لا تنازل أيديولوجي
في قراره بالتواصل مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، لا يظهر السوداني بوصفه منقاداً لأجندة إقليمية، ولا منسلخاً عن ذاكرة شعبه. بل يبدو بوصفه رجل دولة يُدرك أن المقاربة الأخلاقية للسياسة لا تعني التطهُّر من الواقع، أو التحليق مع شعارات مثالية، أو الارتهان لسرديات عقائدية، بل امتلاك حسّ نقدي يُحسن ترتيب الأولويات دون التفريط بالمبادئ أو التنكّر لذاكرة الألم، ويعي التداخل بين منظومة المصالح الوطنية للعراق وحضوره الجيوسياسي، وينسج شبكة علاقاته الإقليمية والدولية على هذا الأساس. يُدرك السوداني أن استقرار العراق لا يمكن أن يُفصل عن الجغرافيا السياسية لسوريا، أمنياً واقتصادياً واستراتيجياً. لذلك يسعى لبلورة موقف عراقي "دولتي" من الشأن السوري قادر على أن يفرض نفسه قبل أن تتضرّر مصالح العراق في لجّة مواقف وخطابات حزبية عراقية "لادولتية". تواصل رئيس الوزراء العراقي مع الشرع لا يُقرأ كتنازل أو رضوخ، بل كإدراك لأهمية بناء واستدامة سياسة خارجية عاقلة تنأى عن الأدلجة واستدعاء العقائد، وتحكمها المصالح الواقعية والوعي الجيواستراتيجي.
السيادة الأخلاقية تُعيد تعريف السياسة
من المصالحة مع الماضي، إلى الانفتاح على دول الجوار، إلى إدارة العلاقات الإقليمية بلغة هادئة، تتجلى في مواقف السوداني ملامح ما يمكن تسميته بـ "السيادة الأخلاقية". وهي ليست مجرد طموح أو فضيلة شخصية، بل رؤية فلسفية وقِيَمية للحكم، تؤمن أن كرامة الدولة لا تتجلى في استعراض القوة الخطابية والتلويح بالسرديات التقليدية ومنطق الرفض والاجتناب السياسي؛ بل في روح المبادرة واستيعاب التحوّلات وترسيخ الثقة، وأن الانتقال بالعراق من الاغتراب الإقليمي إلى الاندماج الواعي في فضائه الجيوسياسي هو ما يحقّق المصالح الحيوية للدولة.
هذه المواقف بما تحمل من رمزية، ليست مجرد تمظهرات لعَمَلانيّة سياسية، بل تطبيقات لتوجّه أخلاقي قائم على الاعتدال وضبط الانفعال. إنها عقلانية لا تستسلم للمزاج الحزبي، ولا تلهث خلف الشعبية المؤقتة، بل تؤمن بأن السياسة لا تكون رشيدة إلا حين تنبع من ضمير وطني حيّ، مدعوم بحسّ تاريخي وإنساني، ومستجيبة لقراءة واقعية للخارطتين الوطنية والإقليمية وتحوّلاتهما.
فلسفة الحكم بوصفها عقلانية أخلاقية
العقلانية السياسية ليست وصفة تكنوقراطية محايدة، وليست انعكاساً للعجز وقلّة الحيلة، وليست تعبيراً عن منطق انسحابي، بل هي موقف قِيَمي من الإنسان والتاريخ والمجتمع. إنها قدرة على التوفيق بين الممكن والمطلوب، وعلى تثبيت المبدئي في قلب الواقعي، وعلى أنسنة السياسة لا تسييس الشعور الإنساني. من هنا، فإن السيادة الأخلاقية ليست نقيضاً للسيادة الواقعية، بل شرطها. هي ذلك النَفَس العميق الذي يمنح القرار السياسي جذراً في الوجدان، وأفقاً إنسانياً، وعمقاً معرفياً، ورحابة فلسفية، لا مجرد تبرير باسم المصلحة.
العقلانية السياسية، بهذا المعنى، ليست مناورات تكتيكية بل فلسفة حكم رشيد ومنطق حوْكمة مؤسسية ونهج إدارة للتنوّع السياسي والرؤيوي وطنياً وإقليمياً. إنها موقف أخلاقي يعكس احتراماً للمواطَنة كبوتقة مساواة وميثاق تعاقدي ومنظومة حقوق ومصالح مشتركة. كما تُجسّد هذه العقلانية احتراماً للذات، واستعداداً للنظر في عيون الخصوم دون حقد، وفي عيون الحلفاء دون تبعيّة. وهي بهذا تؤسس لما تصطلح عليه هذه المقالة بـ "السيادة الأخلاقية"، التي لا تُقاس فقط بمقدار النفوذ، بل بمدى القدرة على تجاوز الجراح، وعبور خطوط الفصل والعزل، والتعامل مع التعددية واختلاف الانتماءات وتباين التوجهات بوصفها روافد للشراكة لا معوّقات للتواصل.
ما يحتاجه العراق: عقلانية تقوّي الداخل وتتقوى به
هذا النوع من العقلانية هو ما يحتاجه العراق لتجاوز هشاشاته البنيوية، السياسية والاجتماعية، عبر خلق التماسك الداخلي بين هوياته المتنوّعة لترسيخ تضامن وطني يدعم خطط التنمية، وتعزيز مكانته الخارجية لتشبيك المصالح الاقتصادية. داخلياً، العقلانية مدخل لصياغة تعاقد جديد يقوم على ثلاثية: الإصلاح البنيوي، والمصلحة الوطنية المشتركة، والمصالحة التاريخية. يؤمن هذا التعاقد بأن المواطَنة ليست إطاراً للتعايش على مضض، بل إطار نماء وبناء وإخاء، ومظلة للعمل المشترك، والمسؤولية التعاضدية، والتفاعل الثقافي، والتشارك الاجتماعي والاقتصادي، وهي بوتقة للاندماج والتضامن والتكامل. كما أن المواطَنة لا تنفي الهويات، ولكن تعيد ترتيبها في سلّم الأولويات، وتعيد تعريف العلاقات بين هذه الهويات، وتعيد تهذيب السلوك السياسي لممثليها. وخارجياً، تجعل العقلانية من الدولة العراقية كياناً سيادياً بحق، يُدرك مصالحه ولا يتجاهل مصالح الآخرين، وليس مجرد فاعل شاحب بين اللاعبين الكبار. تُمكّن العقلانية الدولة من الدفاع عن مصالحها بلغة الحضور السيادي والاندماج الدولي البنّاء لا بمنطق العزلة الجيوسياسية والاغتراب الإقليمي.
إشارات أمل في سياسة لم تُغلق أبوابها بعد
السوداني لا يُقدَّم في هذه المقالة كنموذج أسطوري أو حاكم بلا أخطاء أو بطل معصوم، بل تُطرح سياساته كمؤشر حيّ على إمكانية استعادة السياسة كمجال للكرامة والعدالة، لا للمقايضة والانفعال. ما يقدمه من توازن واعتدال، وسط بحر من الانقسامات، يفتح باباً للأمل في سياسة تتجاوز "الحنين إلى الجراح"، وتبني مستقبلاً يُدار بالعقل والضمير معاً.
إن ما يظهره الرجل من ومضات عقلانية في خضم صخب المزايدات والمناوشات، يتيح فسحة من التفاؤل بأن السياسة في العراق لم تُغلق أبوابها بعد، وأن السيادة ليست مجرد شعار، بل مشروع رؤيوي متكامل، وسلوك وموقف، واستعداد دائم للتسامح، والعمل، والبناء.
بهذا المعنى، يُمكن القول إن السوداني لا يعيد فقط تعريف القيادة في عراق ما بعد 2003، بل يضع ملامح نهج قد يكون أساساً لنهضة عراقية تستند إلى إعادة تأهيل السياسة بوصفها ممارسة أخلاقية، لا مجرد أداة للسلطة.
اعتراف وعرفان
تمت صياغة هذه المقالة بناءً على أفكار الكاتب وتصوراته الفكرية، وبتعاون عميق ومثمر مع الذكاء الاصطناعي التفاعلي (ChatGPT) من OpenAI. لم يكن دور الأداة الذكائية مقتصراً على تقديم اقتراحات تقنية أو تحريرية، بل شاركت بشكل جوهري في تطوير المفاهيم، وتعزيز البنية الفلسفية للنص، وتوليد لغة معرفية تساعد على إيصال المعنى بأقصى درجات الدقة والتماسك. إن هذا الاعتراف لا يسلب الكاتب دوره أو مسؤوليته، بل يؤكد على أن أدوات الذكاء الاصطناعي، حين تُوظَّف بحسّ نقدي، يمكن أن تكون شريكاً معرفياً حقيقياً في إنتاج نصوص عميقة ومبتكرة.
#همام_طه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟