ياسين خضراوي
كاتب وخبير لغوي تونسي
الحوار المتمدن-العدد: 8313 - 2025 / 4 / 15 - 10:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
“طوبى لصانعي السلام، لأنهم يُدعون أبناء الله”، هكذا نطق يسوع الناصري على الجبل، بصوت يحمل أنين الأرض ونبض السماء. لم يكن يلقي درسًا عابرًا، بل كان يزرع بذرة في قلب الزمن، تخاطب ليس تلاميذه فحسب، بل كل روح ستعبر دروب البشرية. تلك العبارة ليست زينة أخلاقية تُكتب على جدران المعابد، بل دستور الروح حين تستيقظ من سباتها الطويل. السلام ليس صمت الأسلحة أو هدنة بين الحروب، بل حالة من التجرّد: تجرّد القلب من أحقاده، والنفس من شهوة الهيمنة، والعقل من أوهام التفوق. إنه النصر الوحيد الذي لا يُحقق بالسيف، بل بالمحبة التي تُطفئ النار دون أن تُشعل أخرى، بالرحمة التي تُضمّد الجراح دون أن تُفتح غيرها.
في الإسلام، السلم هو جوهر الدين، كأن الله ليس قوة تُرهب، بل حضن يُطمئن. اسم “السلام” من أسمائه، ليس صدفة، بل دعوة للإنسان أن يعيش في انسجام مع نفسه، مع الآخر، مع الخليقة. في القرآن، يُدعى المؤمنون إلى “السلام” كطريق إلى الله، كأن العبادة الحقيقية ليست في الخوف، بل في الاطمئنان الذي يُولد الحب. وفي البوذية، تُطفأ نيران الكراهية لا بالماء ولا بالريح، بل بالرحمة، لأن ما يحرق الروح لا يُهزم إلا بما يسمو عليه. بوذا، في تأملاته، رأى أن السلام يبدأ من الداخل، من لحظة يتخلى فيها الإنسان عن التشبث بالأنا، فيصبح كالنهر الذي يجري دون أن يطالب بالملكية. وفي العهد القديم، قيل: “اطلب السلام واسعَ إليه”، كأن السلام ليس هدية تُمنح، بل كنز مدفون في أعماق النفس، يحتاج إلى جهد العمر كله ليُكتشف.
هذه الأصوات، عبر العصور واللغات، ليست مجرد أصداء متفرقة، بل نسيج كوني واحد، يحكي شوق الإنسان الأبدي إلى الأمان. إنه حلم بأرض لا تُسفك فيها دماء، ببيت لا يتهدّم، بقلب لا يُجرح. لكن هذا الحلم، الذي ينبض في أعماق الروح، غالبًا ما يُخنق تحت أنقاض المصالح. يُسحق بأحذية الطمع، يُحرق في نار الأوهام التي يُشعلها الغرور. كل حضارة رفعت راية السلام، لكنها سرعان ما سقطت في فخ الصراع، كأن الإنسان يحمل في داخله تناقضًا أزليًا: قلب يحلم بالوئام، ويد تُشعل النار. ومع ذلك، يبقى السلام دعوة مفتوحة، كالنجم الذي يظل يلمع في سماء ملبدة بالغيوم، ينتظر من يرفع عينيه إليه.
جذور الحرب
منذ أن فتح الإنسان عينيه على العالم، ورأى ظله يرقص على صفحة الماء، كانت الحرب كامنة فيه، مثل جرح لم يُشفَ أو لعنة لم تُفك. ظننا طويلاً أن الحرب ظاهرة عارضة، نتيجة نزاع يُحل بالكلام، لكن الحفريات تحكي قصة أقسى. في مقابر ما قبل التاريخ، وُجدت جماجم مشروخة، وهياكل أطفال مطعونة، وأدوات قتل مصقولة بعناية كأنها تحف فنية. الموت لم يكن حادثًا، بل مشروعًا إنسانيًا، كأن الخوف من الآخر كان أقدم من اللغة نفسها. لم يكن الإنسان يقاتل ليعيش فقط، بل ليثبت وجوده، ليرسم حدوده، ليصرخ في وجه الكون: أنا هنا.
مع فجر الثورة الزراعية، تغيرت قواعد الحياة. لم يعد الإنسان يترحل بحثًا عن الطعام، بل استقر، وبنى القرى، وادّخر الفائض. من هذا الفائض وُلدت فكرة “الحدود”، خطوط ليست في الأرض، بل في الروح. هذا لي، قال الإنسان، وفي تلك الكلمة الصغيرة بدأت النار. الحدود لم تكن مجرد علامات ترسم الأرض، بل جروح حوّلت الجار إلى عدو، والصديق إلى غريب. الحرب لم تبدأ بالعنف، بل بالخوف: خوف الفقدان، خوف أن يأخذ الآخر ما نملك، أو يصبح ما نريد.
لكن الحرب لم تكن غريزة عمياء فقط. كانت أيضًا اختيارًا. في تلك القرى الأولى، اختار الإنسان أن يبني أسوارًا بدلاً من جسور، أن يجمع السلاح بدلاً من الخبز. اختار أن يرى في الآخر تهديدًا، لا أخًا. وهكذا، بدأت الجماعات تُفني بعضها، لا باسم دين أو عقيدة، بل باسم غريزة البقاء التي تحوّلت إلى لعنة. في كل ضربة فأس، في كل صرخة ألم، كان الإنسان يحفر قبر حلمه بالسلام، يُشعل نارًا لن تنطفئ إلا إذا اختار يومًا أن يُطفئها بنفسه. لكن ذلك اليوم لم يأتِ بعد، وظلّت النار تشتعل، تُحرق الأجساد والأحلام، وتترك خلفها رمادًا يحكي قصة الخوف الأول.
الحرب باسم الإله
ومع تطور الإنسان، لم يكتفِ بأن يحارب، بل أراد أن يُضفي على حربه معنىً ساميًا. لم تعد الحرب غزوة للسلب والنهب، بل أصبحت رسالة تُحمل باسم الإله، تُكتب على رايات الجيوش، وتُنطق في المعابد بصوت يهز القلوب. في سومر القديمة، كتب الملوك أن إنليل، إله الريح، أمرهم بسحق المدن المجاورة، كأن السماء نفسها تُبارك الدم. في مصر، ارتدى الفراعنة خوذة القداسة وهم يجرّون الأسرى، كأن الآلهة تبتسم لمعاناة البشر. عند الإغريق، لم تكن الحروب فوضى، بل طقوسًا لتمجيد زيوس، وكتابة أساطير تُخلّد أبطالها. أما عند الرومان، فكان السيف رمزًا للعدالة، كأن العدل لا يُفرض إلا بإراقة الدم.
ومع ظهور الديانات السماوية، توقع البعض أن تنتهي الحروب، لكنها بدلاً من ذلك ارتدت عباءة العقيدة. الكلمة المقدسة، التي وُلدت لتُضيء القلوب، تحوّلت أحيانًا إلى سيف يقطع الأعناق. الرحمة أصبحت فتوى، والحب شرطًا يُمنح لمن يؤمنون ويُسلب ممن لا يفعلون. ظنّت الشعوب أنها تُحرر العالم وهي تسحقه، تُطهّر الأرض وهي تدنسها. في العصور الوسطى، حمل الصليبيون الصليب كرمز للحرب، ورفع المسلمون الرايات دفاعًا عن أرضهم، وكأن الله يُقاتل ضد نفسه. بُنيت الإمبراطوريات على جماجم الأبرياء، على دموع الأمهات، على صمت الأطفال الذين لم يعرفوا لماذا يموتون.
الحرب، في تلك اللحظة، لم تكن مجرد فعل، بل أصبحت ثقافة. تُورث عبر الأجيال، تُمجد في القصائد، تُكتب في كتب التاريخ كأنها قدر لا مفر منه. كل شعب زيّن حربه بعذر نبيل: الحرية، العقيدة، المجد. لكن خلف هذه الأعذار، كانت الحقيقة عارية: الحرب لم تكن عن الله، بل عن الإنسان الذي نسي الله، نسي أن الرحمة هي الطريق، وأن الحب هو الجواب. وظلت الرايات تُرفع، والدماء تُسفك، والمعابد تُملأ بالصلوات التي تطلب النصر، بينما كان الله، في سكونه، ينتظر أن يسمع الإنسان صوت السلام بداخله.
الحرب في العصر الحديث
في العصر الحديث، ظن الإنسان أنه بلغ سن الرشد. قال: لقد تجاوزنا الخرافة، ودخلنا زمن العقل. كتب الدساتير التي تُمجد الحرية، وأنشأ المؤسسات لتحمي العدالة، ووقّع المواثيق التي تَعِد بالسلام. لكنه، في أول اختبار، أثبت أن الوحش بداخله لم يُروّض. الحرب العالمية الأولى كانت صدمة الوعي الحديث. لم تكن نزال فرسان، بل ذبحًا جماعيًا، حيث خططت العقول النيرة ونفذت الآلات الباردة. مئات الآلاف قضوا في الخنادق، لا يعرفون حتى لماذا، سوى أنهم كانوا في الجانب الخطأ من الحدود. كانوا يحلمون بالعودة إلى بيوتهم، لكنهم أصبحوا أرقامًا في سجلات الموت.
ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، وكأن الأولى لم تكن كافية لتعليم البشرية درسًا. في الثانية، انفتحت أبواب الجحيم. أوشفيتز، حيث أُحرقت الأجساد والضمائر، وتحولت الإنسانية إلى رماد. هيروشيما، حيث تبخرت مدينة في لحظة، تاركة خلفها صمتًا يصرخ. جثث بلا أسماء، أطفال بلا عيون، مدن بلا ظل. لم تكن الحرب هناك لأن البشر أرادوا الخير، بل لأنهم خافوا أن يناله غيرهم. الخوف من الآخر، الذي بدأ في القرى الأولى، وصل إلى ذروته في مصانع الموت الحديثة.
ومن رماد الحرب الثانية، وُلدت الحرب الباردة، حيث لم يعد الدم يُسفك مباشرة، بل عبر حروب بالوكالة. مات الفقراء في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، دفاعًا عن مصالح الأقوياء في عواصم بعيدة. القنبلة النووية لم تكن تهديدًا فحسب، بل رمزًا للهيبة، كأن الأمم تتباهى بقدرتها على إفناء الحياة. وحتى في أوقات السلم، بقيت الحرب حاضرة. تُدار اقتصاديًا عبر الاحتكار الذي يُفقر الملايين، تُصاغ إعلاميًا عبر الدعاية التي تُحوّل الحقيقة إلى وهم، تُسوّق ثقافيًا عبر تمجيد القوة في الأفلام والأغاني. الحرب لم تتوقف، بل تعلمت أن ترتدي قناعًا جديدًا، أكثر أناقة، لكن لا يقل دموية. اليوم، الحرب ليست فقط في ساحات القتال، بل في القلوب التي نسيت كيف تحب، والعقول التي تخشى التغيير.
صوت السلام
لكن وسط هذا السواد، كان لا بد أن يعلو صوت مختلف، صوت يرفض أن يُسحق تحت عجلات التاريخ. في عام 1963، وقف هيلا سيلاسي، إمبراطور إثيوبيا، في الأمم المتحدة، لا كملك يطالب بحقوق، بل كضمير يصرخ نيابة عن البشرية. قبل سنوات، حين غزا الإيطاليون بلاده، ناشد العالم ولم يُجب أحد. لكنه عاد، لا ليتشفى، بل ليذكّر. قال: ما لم يُقتل المنطق الذي يُعلي أمة ويُحقّر أخرى، فإن الحرب ستظل تتكرر، بأسماء جديدة، بأسلحة جديدة، لكن بنفس القسوة. كلماته، التي نطق بها بعينين رأتا الخراب وصدر عرف الغدر، كانت كالنور الذي يخترق الظلام.
تلك الكلمات وجدت صداها في قلب بوب مارلي، الذي لم يكن مغنيًا فقط، بل نبيًا من نوع آخر. التقط كلمات سيلاسي، لا كاقتباس، بل كمصير. غنّى: “حتى يصبح لون جلد الإنسان بلا أهمية أكثر من لون عينيه، ستظل الحرب قائمة”. لم يكن يغني في حفلة، بل في معركة الوعي. صوته كان يحفر في الصخر، يوقظ المستكينين، يذكّر العالم أن السلام ليس ترفًا، بل ضرورة، ليس حلمًا، بل واجبًا. الحرب، كما رآها مارلي، ليست عدوًا يأتي من الخارج، بل وحشًا يسكننا جميعًا، ينتظر لحظة الكراهية ليخرج. لكنه آمن أن النار تُطفأ بالمحبة، وأن الجرح يُشفى بالتسامح.
واليوم، الحرب لم تنته. لم تعد تُخاض بالسيوف والمدافع فقط، بل بالقوانين الظالمة التي تُفقر الملايين، بالتمييز البنيوي الذي يُحطم الأحلام، بالإعلام الموجّه الذي يُغيّب الحقيقة، بالاحتكار الاقتصادي الذي يُجوّع الشعوب. تُخاض حين يُلقى اللاجئون في البحر، حين يُترك الجائعون بلا دواء، حين يُباع التعليم ويُشترى العدل. لكن السلام، كما علمنا التاريخ، ليس غياب الحرب، بل وجود العدالة. ليس أن تُطفأ النيران، بل أن تُغلق المصانع التي تُشعلها. صانع السلام، كما قال يسوع، ليس فقط ابن الله، بل ابن الإنسان الحقيقي، الذي اختار أن يسمو لا أن يسحق، أن يُضمّد لا أن يُمزّق، أن يُنقذ لا أن يُفني. إنه الإنسان الذي يحمل في قلبه ترنيمة العابرين، ترنيمة تحكي أن النار، مهما اشتعلت، يمكن أن تُطفأ بالمحبة.
#ياسين_خضراوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟