|
أردوغان كمقاول بالباطن لوكالة الاستخبارات المركزية..افتتاحية لمقدمة كتاب
احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 22:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدمة: في قلب العاصفة
الافتتاحية: القسم الأول - ليلة في لانغلي: اختيار أردوغان
المشهد الأول: غرفة الظل
ليلة خريفية عام 2001، في قلب لانغلي، فيرجينيا. الرياح تهز أوراق الأشجار خارج مبنى السي آي إيه، لكن داخل غرفة مغلقة، يسود صمت مشحون. حول طاولة من خشب الماهوغاني، يجلس رجال في بذلات داكنة، وجوههم تخفي أسرارًا لا يمكن البوح بها. أمامهم ملف سميك، عليه اسم مكتوب بخط واضح: رجب طيب أردوغان. ليس مجرد اسم، بل بوابة إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط. لقد قضوا شهورًا في دراسته بعناية فائقة، كما لو كانوا علماء يفكون شيفرة لغز معقد. كل صفحة في الملف تحكي قصة: ولادته عام 1954 في حي قاسم باشا، حي العمال الفقير في إسطنبول، حيث كان يبيع السميط في الشوارع ليعيل أسرته. أيام دراسته، حيث برز كشاب متدين، يحفظ القرآن ويتقن فن الخطابة. انضمامه إلى اتحاد الشباب الإسلامي في السبعينيات، حيث صقل خطاباته النارية التي جذبت الشباب المتدين. لكن هؤلاء الرجال لم يكتفوا بالسطح. لقد تتبعوا كل خطوة: مباريات كرة القدم التي لعبها أردوغان في شبابه، حيث أطلق عليه زملاؤه لقب "إمام الملعب" لمهارته وهيبته. علاقاته المبكرة بحركة "الملي إي غوروش" بقيادة نجم الدين أربكان، التي زرعت فيه بذور الفكر الإسلامي السياسي. صعوده كرئيس لبلدية إسطنبول (1994-1998)، حيث أذهل الجميع بكفاءته في تحسين الخدمات، لكنه أثار قلق النخب العلمانية بخطاباته الدينية. لحظة سجنه عام 1998، عندما أُدين بـ"التحريض" لقراءته قصيدة زيا گوكالب: "المآذن سراجيلنا، والقباب خوذاتنا". هذه القصيدة، التي اعتبرها العسكر تهديدًا للعلمانية، كانت بالنسبة للجماهير صرخة مقاومة، لكن بالنسبة للسي آي إيه، كانت دليلًا على رجل يعرف كيف يلهب القلوب. في تلك الغرفة، لم يكن أردوغان مجرد سياسي طموح. كان مشروعًا جيوسياسيًا. لقد رأوا فيه ما فات غيرهم: رجل يمتلك كاريزما نادرة، قادر على إلهام الملايين، لكنه مرن بما يكفي للعب ضمن قواعد اللعبة العالمية. الأهم، كان متشبعًا بفكر الإخوان المسلمين، تلك الحركة التي يصفها تييري ميسان بأنها "طفل الاستعمار البريطاني". تأسست الإخوان عام 1928 على يد حسن البنا، لكن ميسان يزعم أنها كانت أداة لبريطانيا لإضعاف القومية العربية وتفتيت الوحدة الإسلامية. بحلول 2001، كانت السي آي إيه قد ورثت هذا الإرث، ورأت في رجال مثل أردوغان وسيلة لنشر "الإسلام المعتدل" الذي يخدم أجندة "مشروع الشرق الأوسط الكبير".
المشهد الثاني: لماذا أردوغان؟
لكن لماذا أردوغان بالذات؟ كان هناك مرشحون آخرون في تركيا: سياسيون علمانيون، قادة عسكريون، حتى إسلاميون آخرون. لكن أردوغان كان مختلفًا. لقد جمع بين تناقضات نادرة: كان شعبويًا يتحدث لغة العامة، لكنه ذكي بما يكفي لفهم تعقيدات السلطة. كان متدينًا، لكنه عملي، قادر على التفاوض مع النخب العلمانية. كان طموحًا، لكنه منضبط، يعرف متى يتقدم ومتى يتراجع. في تلك الليلة، ناقش رجال لانغلي هذه الصفات بعناية. تقرير داخلي لخص الأمر: "أردوغان هو الرجل الذي يمكن أن يقود تركيا إلى قلب الغرب، دون أن يفقد قبضته على الشرق." تركيا نفسها كانت عاملًا حاسمًا. في 2001، كانت البلاد تعاني من أزمة اقتصادية خانقة: تضخم بنسبة 70%، دين خارجي بـ130 مليار دولار، وفساد ينخر النخب السياسية. العسكر، الذين هيمنوا على السياسة لعقود، كانوا يفقدون شعبيتهم. الأحزاب العلمانية التقليدية، مثل حزب الشعب الجمهوري، كانت تتخبط في صراعات داخلية. هذا الفراغ جعل تركيا أرضًا خصبة للتدخل الخارجي. السي آي إيه، كما يُزعم، رأت في أردوغان فرصة ليس فقط للسيطرة على تركيا، بل لإعادة تشكيل المنطقة. موقع تركيا كجسر بين أوروبا وآسيا، وعضويتها في الناتو، جعلتها ركيزة لا غنى عنها. لكن كان يجب أن تُدار بعناية. تشبع أردوغان بفكر الإخوان كان العامل الحاسم. وإن لم يكن عضوًا رسميًا في الإخوان، فقد تأثر بأفكارهم عبر أربكان وحزب الرفاه. هذه الأيديولوجيا، التي دعت إلى مزج الإسلام بالسياسة، كانت مرنة بما يكفي لإرضاء الغرب. في التسعينيات، عندما كان أردوغان يترأس بلدية إسطنبول، أظهر هذه المرونة: تحسين البنية التحتية لإرضاء الناخبين العلمانيين، بينما يحتفظ بخطاب ديني يجذب المتدينين. هذا التوازن جعله، في عيون السي آي إيه، أداة مثالية. لكن الأدوات تحتاج إلى سلاسل.
المشهد الثالث: بداية الفخ
في تلك الغرفة، لم تكن الخطة لتكتمل دون استراتيجية طويلة الأمد. أردوغان، مهما كان طموحًا، كان يجب أن يُربط بفخ يضمن ولاءه. الديون كانت الإجابة. تركيا، بأزمتها الاقتصادية، كانت بحاجة إلى إنقاذ مالي. لقد عرف رجال لانغلي أن المال يمكن أن يكون أقوى من السلاح. البنوك الغربية، مثل جي بي مورجان وسيتي بنك، كانت جاهزة لتقديم قروض ضخمة. دول الخليج، بقيادة قطر والسعودية، كانت مستعدة لضخ استثمارات في مشاريع البنية التحتية. لكن هذه الأموال، كما يزعم النقاد، لم تكن هدايا. كانت جزءًا من خطة لتحويل تركيا إلى ما وصفه سمير أمين بـ"صانعة تنمية رثة"، اقتصاد خاضع لسلاسل التوريد الغربية. هذا الفخ، الذي بدأ يتشكل في 2001، كان أكثر من مجرد أرقام. كان يهدف إلى ربط أردوغان بأجندات إقليمية: دعم المعارضة في سوريا لاحقًا، احترام مناطق النفوذ الكردي، وتنفيذ سياسات نيوليبرالية تخدم الشركات متعددة الجنسيات. لكن في تلك الليلة، لم يكن أردوغان يعلم. كان لا يزال رجلًا يحلم بإحياء أمجاد تركيا، غير مدرك أن حلمه قد يصبح جزءًا من لعبة أكبر.
الافتتاحية: القسم الثاني - تشبع بالإخوان: أداة مثالية
المشهد الأول: بذور الفكر
ننتقل إلى أردوغان في إسطنبول، أواخر السبعينيات. شاب في العشرين من عمره، طويل القامة، ذو صوت جهوري، يقف في قاعة صغيرة مكتظة بحي قاسم باشا. إنه رجب طيب أردوغان، عضو نشط في اتحاد الشباب الإسلامي، يلقي خطابًا يمزج الشعر الديني بالدعوة إلى العدالة الاجتماعية. عيناه تلمعان بحماس، والحشد يهتف بحرارة. هذه ليست مجرد خطبة. إنها لحظة تأسيسية، حيث تتشكل أيديولوجية رجل سيغير مسار تركيا. لكن ما لا يعرفه أردوغان، وهو يتحدث عن أحلام الأمة، أن بذور هذا الفكر لم تُزرع في إسطنبول وحدها. جذورها تمتد إلى مصر في عشرينيات القرن العشرين، إلى حركة الإخوان المسلمين، التي يزعم تييري ميسان أنها وُلدت كأداة في يد الاستعمار البريطاني. في تلك القاعة، لم يكن أردوغان يقرأ من كتاب حسن البنا، مؤسس الإخوان. لكنه كان متشبعًا بنسخة معدلة من أفكارهم، عبر حركة "الملي إي غوروش" بقيادة نجم الدين أربكان، معلم أردوغان الروحي. أربكان، الذي عاش في ألمانيا وتأثر بحركات إسلامية عالمية، رأى في الإسلام ليس مجرد دين، بل أيديولوجيا سياسية لمواجهة العلمانية المتشددة في تركيا. كان يحلم بإحياء أمجاد العثمانيين، لكنه أراد تنفيذ ذلك بطريقة عملية: اقتصاد قوي، عدالة اجتماعية، وهوية إسلامية. هذه الأفكار لامست قلب أردوغان، الذي نشأ في حي فقير، وشعر بظلم النخب العلمانية في أنقرة. لكن ما لم يره أردوغان بوضوح هو أن هذا الفكر، الذي ألهمه، كان له تاريخ معقد، جعل منه، في عيون السي آي إيه، أداة مثالية لخدمة أجندات أكبر.
المشهد الثاني: جذور الإخوان
لنعد إلى مصر، 1928. حسن البنا، مدرس شاب، يؤسس جماعة الإخوان المسلمين في الإسماعيلية. هدفه، كما أعلن، إحياء الإسلام كطريقة حياة شاملة: دين، دولة، ومجتمع. لكن تييري ميسان، في كتاباته مثل "تحت أعين الغرب"، يقدم رواية مختلفة. الإخوان، بحسب ميسان، لم يكونوا مجرد حركة دينية عفوية. كانوا أداة للاستعمار البريطاني، صُممت لإضعاف القومية العربية وتفتيت الوحدة الإسلامية. بريطانيا، التي سيطرت على مصر، رأت في الإخوان وسيلة لمواجهة حركات مثل حزب الوفد، التي طالبت بالاستقلال. بدعم خفي من الإدارة الاستعمارية، نمت الإخوان بسرعة، متبنية خطابًا يمزج الإسلام بالسياسة، لكنه يتجنب مواجهة الغرب بشكل مباشر. بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت الولايات المتحدة هذا الإرث. السي آي إيه، التي كانت تبحث عن حلفاء لمواجهة الشيوعية والقومية العربية (مثل جمال عبد الناصر)، رأت في الإخوان أداة مفيدة. في الخمسينيات والستينيات، دعمت الولايات المتحدة قادة إخوانيين في مصر والسعودية، مستخدمة أيديولوجيتهم لتعزيز "الإسلام المعتدل" كبديل لليسار. بحلول السبعينيات، عندما بدأ أردوغان مسيرته، كانت الإخوان قد أصبحت شبكة عالمية، تؤثر على حركات مثل "الملي إي غوروش" في تركيا. هذا الفكر، الذي دعا إلى دمج الإسلام بالديمقراطية والاقتصاد الحر، كان بالضبط ما أرادته السي آي إيه في سياق "مشروع الشرق الأوسط الكبير"، الذي روّج له الغرب لإعادة تشكيل المنطقة. لكن لماذا كان هذا الفكر مثاليًا؟ لأنه كان مرنًا. الإخوان، على عكس الحركات الجهادية المتشددة، قبلوا اللعب ضمن النظام العالمي. في مصر، تعاونوا مع النخب المالية. في السعودية، تحالفوا مع الوهابية لتعزيز نفوذهم. في تركيا، عبر أربكان، تبنوا خطابًا شعبويًا يجذب الطبقات الوسطى والفقيرة، لكنه لم يهدد مصالح الغرب. أردوغان، الذي استوعب هذه المرونة، كان نتاج هذا التاريخ. خطاباته في السبعينيات والثمانينيات، التي دعت إلى العدالة والتنمية، كانت صدى لأفكار الإخوان، لكن بلمسة تركية: إحياء الهوية العثمانية، دون مواجهة مباشرة مع الناتو أو الولايات المتحدة.
المشهد الثالث: من أربكان إلى أردوغان
في الثمانينيات، بينما كان أردوغان يصعد في حزب الرفاه بقيادة أربكان، بدأ يضيف لمسته الخاصة. أربكان كان مفكرًا، لكنه افتقر إلى الكاريزما. أردوغان، على العكس، كان خطيبًا موهوبًا، قادرًا على التواصل مع العمال والفلاحين. لكنه تعلم من أخطاء أربكان. في 1997، عندما أطاح العسكر بحكومة أربكان بـ"انقلاب ناعم" بسبب مواقفه الإسلامية، أدرك أردوغان أن المواجهة المباشرة مع العلمانية محكوم عليها بالفشل. عندما سُجن هو نفسه في 1998 بتهمة "التحريض" لقراءته قصيدة دينية، خرج من السجن بفكرة جديدة: حزب يجمع بين الإسلام والديمقراطية، يرضي الجماهير والغرب على حد سواء. هكذا وُلد حزب العدالة والتنمية عام 2001. هذا الحزب، الذي قاده أردوغان، لم يكن نسخة من الإخوان المسلمين، لكنه استلهم جوهر أفكارهم: إسلام سياسي مرن، يدعم الأسواق الحرة، ويتجنب الصدام مع القوى العالمية. في 2002، عندما فاز الحزب بالانتخابات، بدا أردوغان بطلًا شعبيًا. لكن النقاد، مثل ميسان، يرون في ذلك الفوز علامة على شيء أكبر. السي آي إيه، التي درست أردوغان بعناية ، رأت في تشبعه بهذا الفكر ضمانًا. كان رجلًا يمكن أن يقود تركيا إلى قلب النظام العالمي، بينما يحتفظ بقناع المقاومة. المشهد الرابع: مرآة مصر هنا تأتي المقارنة مع محمد مرسي. في 2012، عندما فاز مرسي بالرئاسة المصرية بنسبة ضئيلة، ترددت شائعات أن أحمد شفيق كان الفائز الحقيقي. تدخل السفارة الأمريكية، كما يُزعم، قلب النتائج لصالح مرسي، لأنه كان، مثل أردوغان، متشبعًا بفكر الإخوان. كلاهما بدا مدعومًا من الغرب في لحظة صعوده. كلاهما تبنى خطابًا شعبويًا، لكنه لم يهدد جوهر النظام العالمي. لكن مرسي، على عكس أردوغان، افتقر إلى البراغماتية. سقوطه في 2013 بانقلاب عسكري كان درسًا لأردوغان، الذي تعلم كيف يلعب اللعبة دون أن يفقد توازنه. لكن هذه المرونة كانت سلاحًا ذا حدين. تشبع أردوغان بالإخوان جعله أداة مثالية للسي آي إيه، لكنه أيضًا زرع فيه طموحًا ليكون أكثر من مجرد أداة. في السنوات التالية، كما سنرى، حاول أردوغان كتابة قصته الخاصة – لكن دائمًا ضمن حدود فخ أُعد له بعناية.
الافتتاحية: القسم الثالث - مرسي وشفيق: مرآة القاهرة
المشهد الأول: ليلة الانتخابات
القاهرة، يونيو 2012. الشوارع تعج بالتوتر والأمل. بعد ثورة يناير 2011، التي أطاحت بحسني مبارك، يقف المصريون في طوابير طويلة أمام مراكز الاقتراع لانتخاب رئيسهم الأول في عصر ما بعد الثورة. في قلب المدينة، داخل مكتب دبلوماسي أمريكي مضاء بمصابيح خافتة، يراقب عدد من المسؤولين شاشات تعرض تقارير مباشرة عن النتائج الأولية. السباق بين مرشحين: محمد مرسي، المهندس المتدين وقيادي الإخوان المسلمين، وأحمد شفيق، الجنرال السابق ورئيس وزراء مبارك الأخير. همسات تدور بين الدبلوماسيين: "شفيق يتقدم". لكن بحلول الفجر، يتغير المشهد. اتصالات محمومة، ضغوط غير مرئية، وفجأة، تُعلن اللجنة الانتخابية فوز مرسي بنسبة 51.7%. في تلك اللحظة، كما يزعم النقاد، لم تكن إرادة الناخبين هي التي حسمت النتيجة. كانت يد السفارة الأمريكية، مدعومة بأوامر من واشنطن، هي التي كتبت الفصل الأول لمصر ما بعد الثورة. هذه القصة، إن صحت، ليست مجرد حادثة عابرة في تاريخ مصر. إنها مرآة تعكس قصة أخرى، بعيدة عن القاهرة، في أنقرة. رجب طيب أردوغان، الذي كان يقود تركيا منذ 2002، لم يكن مجرد متفرج على أحداث مصر. كان، بحسب الادعاء، وجهًا آخر لنفس المشروع الذي جلب مرسي إلى السلطة. كلاهما متشبع بفكر الإخوان المسلمين، كلاهما بدا مدعومًا من الغرب في لحظة صعوده، وكلاهما، كما يُزعم، كان جزءًا من خطة أكبر لإعادة تشكيل الشرق الأوسط تحت مظلة "لوبي العولمة". لكن هذه المرآة ليست مثالية. مرسي سقط، بينما استمر أردوغان. لماذا؟ لأن القصة أعقد مما تبدو، والدروس التي استخلصها أردوغان من مصر كانت حاسمة.
المشهد الثاني: لماذا مرسي؟
لنفهم هذا اللغز، دعونا نعود إلى سياق الانتخابات المصرية. بحلول 2012، كانت مصر في حالة فوضى. الثورة أضعفت المؤسسات، والاقتصاد كان يترنح تحت ديون بقيمة 40 مليار دولار. الإخوان المسلمون، الذين خرجوا من الظل بعد عقود من القمع، كانوا القوة الأكثر تنظيمًا. مرسي، رغم افتقاره إلى الكاريزما، كان مرشحهم الأفضل: أستاذ جامعي، متدين، وعضو قيادي في الجماعة. شفيق، على النقيض، كان رمزًا للنظام القديم: قائد القوات الجوية، ووزير طيران ناجح، لكنه مرتبط بمبارك. بالنسبة للناخبين، كان الخيار بين الماضي والمستقبل – أو هكذا بدا. لكن وراء الكواليس، كانت هناك لعبة أخرى. الولايات المتحدة، التي كانت تراقب مصر بعناية، كانت بحاجة إلى رئيس يحقق أهدافًا محددة: استقرار السوق، دعم إسرائيل، ومواجهة النفوذ الإيراني. شفيق، رغم ولائه للغرب، كان صلبًا، مرتبطًا بالعسكر الذين قد يعارضون إصلاحات نيوليبرالية. مرسي، على العكس، كان مرنًا. الإخوان، كما يزعم تييري ميسان، كانوا منذ عقود أداة للغرب، متبنين خطابًا إسلاميًا يمكن توجيهه لخدمة المصالح الرأسمالية. مرسي، بتشبعه بهذا الفكر، كان الخيار المثالي لمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي سعى لنشر ديمقراطيات موالية للغرب تحت غطاء الإسلام المعتدل. لكن لماذا التدخل؟ إذا كانت النتائج تشير إلى فوز شفيق، كما تردد في القاهرة، فلماذا فرضت السفارة الأمريكية مرسي؟ الإجابة، بحسب النقاد، تكمن في الاستراتيجية طويلة المدى. مرسي كان يمكن أن يجذب الجماهير المتدينة، ويضعف القوى القومية واليسارية. كما أنه كان يمكن أن يكون جسراً لتطبيع العلاقات مع حركات إسلامية أخرى في المنطقة، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية في تركيا. لكن هذا التدخل، إن صح، لم يكن خاليًا من المخاطر. مرسي، كما سيظهر، لم يكن أداة مطيعة تمامًا.
المشهد الثالث: مرآة أردوغان
هنا تظهر المقارنة مع أردوغان. في 2002، عندما فاز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات التركية، كانت تركيا، مثل مصر 2012، في أزمة: تضخم بنسبة 70%، دين خارجي بـ130 مليار دولار، وفساد ينخر الأحزاب التقليدية. أردوغان، مثل مرسي، كان متشبعًا بفكر الإخوان – ليس كعضو رسمي، لكن عبر حركة "الملي إي غوروش" ونجم الدين أربكان. خطاباته، التي دعت إلى العدالة والتنمية، كانت مرنة بما يكفي لإرضاء الغرب، بينما تجذب الجماهير المتدينة. لكن، كما في مصر، هناك شكوك حول صعود أردوغان. هل كان فوزه نتيجة إرادة شعبية خالصة، أم أن هناك دعمًا خفيًا، كما يُزعم في حالة مرسي؟ النقاد يرون نمطًا. في مصر، كان التدخل، بحسب الادعاء، مباشرًا: ضغوط دبلوماسية، ربما رشاوى، لتغيير النتائج. في تركيا، كان أقل وضوحًا. لم تكن هناك حاجة لتزوير، لأن الأزمة الاقتصادية أضعفت خصوم أردوغان. لكن الدعم الغربي كان ملحوظًا: مراكز أبحاث مثل معهد بروكينغز أشادت بحزب العدالة والتنمية، والبنوك الغربية فتحت خزائنها لتركيا بعد الفوز. هذا الدعم، كما يزعم النقاد، لم يكن بريئًا. كان جزءًا من خطة لجعل أردوغان، مثل مرسي، أداة في يد "لوبي العولمة" – تحالف النخب المالية والاستخباراتية التي تسعى للسيطرة على المنطقة. لكن هناك فارق حاسم. مرسي، الذي تولى السلطة في 2012، واجه تحديات هائلة: جيش قوي، اقتصاد هش، ومجتمع منقسم. محاولاته لتعزيز نفوذ الإخوان أثارت غضب العسكر والعلمانيين. في 2013، أطيح به بانقلاب قاده عبد الفتاح السيسي. أردوغان، على النقيض، كان أكثر براغماتية. تعلم من أخطاء أربكان، الذي أُطيح به في 1997. عندما تولى السلطة، تجنب المواجهة المباشرة مع العسكر، وبنى تحالفات مع النخب الاقتصادية. حتى عندما واجه انقلابًا في 2016، استخدم الشعبية لتعزيز سلطته. لكن هل كان هذا النجاح دليلًا على استقلاله، أم على أنه كان أداة أكثر ذكاءً؟
المشهد الرابع: دروس المرآة
تجربة مرسي، كما يُزعم، كانت درسًا لأردوغان. تدخل السفارة الأمريكية لفرض فوز مرسي يكشف نمطًا: الغرب يختار قادة متشبعين بفكر الإخوان لأنهم مرنون، لكنه يتخلص منهم عندما يصبحون عبئًا. مرسي أصبح عبئًا عندما حاول فرض أجندة إخوانية متسرعة. أردوغان، على العكس، عرف كيف يلعب اللعبة. تحالفه مع حزب الحركة القومية العنصري في 2017، وتدخلاته في سوريا، بما في ذلك احتلال 2024 المزعوم لتوريط ترامب، تشير إلى أنه لم يكن مجرد أداة سلبية. لكنه، كما سنرى في القسم التالي، ظل محاصرًا بفخ الديون، الذي جعل حريته محدودة. هذه المرآة، بين القاهرة وأنقرة، تثير سؤالًا: إذا كان مرسي وأردوغان وجهين لنفس المشروع، فلماذا نجا أحدهما وسقط الآخر؟ الإجابة ليست في الفكر الإخواني وحده، بل في كيفية استخدامه. أردوغان، كما سنستكشف، حول هذا الفكر إلى أداة للسلطة، لكنه لم يهرب من السلاسل التي أُعدت له.
الافتتاحية: القسم الرابع - فخ الديون: السلاسل الأولى
المشهد الأول: وعد الإنقاذ
ننتقل إلى أنقرة، نوفمبر 2002. حزب العدالة والتنمية، بقيادة رجب طيب أردوغان، يفوز بانتخابات برلمانية ساحقة. في غرفة متواضعة بمقر الحزب، يجتمع أردوغان مع مستشاريه. الجو مفعم بالأمل، لكن التحديات هائلة. تركيا تتخبط في أزمة اقتصادية خانقة: التضخم يقترب من 70%، الدين الخارجي يبلغ 130 مليار دولار، والبطالة تضرب الشباب. أمام أردوغان خيار صعب: إما إصلاحات جذرية تعرضه لمواجهة النخب، أو قبول عرض مغرٍ من الخارج. في تلك اللحظة، كما لو كانت إشارة من القدر، تصل رسالة من واشنطن: وفد من صندوق النقد الدولي وبنك جي بي مورجان يريد لقاءه. وعدهم بسيط: قروض ضخمة، استثمارات خليجية، ودعم سياسي. الثمن؟ إصلاحات نيوليبرالية تفتح تركيا للأسواق العالمية. هذا المشهد ليس مجرد لحظة عابرة. إنه بداية فخ ذهبي، نسجته يد خفية أُعدت له منذ سنوات، كما تخيلنا في غرفة لانغلي. أردوغان، الذي بدا بطلًا شعبيًا يحمل أحلام الأمة، كان على وشك أن يصبح، سواء بعلمه أو دون علمه، أسيرًا لـ"لوبي العولمة" – ذلك التحالف من النخب المالية، البنوك الغربية، والشركات متعددة الجنسيات. الديون، التي قُدمت كحبل نجاة، كانت في الواقع سلاسل تربط تركيا بأجندات خارجية. هذا الفخ، كما سنرى، لم يكن اقتصاديًا فقط. كان سياسيًا، جيوسياسيًا، وحتى نفسيًا، صُمم ليجعل أردوغان، الرجل الذي اختارته السي آي إيه، رهينة للعبة أكبر من طموحاته.
المشهد الثاني: آلية الفخ
لنفهم هذا الفخ، دعونا ننظر إلى الأرقام. في 2002، كان اقتصاد تركيا يعاني من إرث أزمة 2001 المالية، التي أدت إلى انهيار البنوك وهروب رؤوس الأموال. الدين الخارجي، البالغ 130 مليار دولار، كان عبئًا ثقيلًا، يستهلك 40% من الموازنة لتسديد الفوائد. أردوغان، الذي وعد ناخبيه بالتنمية والعدالة، كان بحاجة إلى معجزة. هنا تدخل المؤسسات الغربية. صندوق النقد الدولي قدم قرضًا بقيمة 16 مليار دولار، مشروطًا بخصخصة الشركات الحكومية وفتح الأسواق. بنوك مثل ديتشه بنك وسيتي بنك تبعتها بقروض إضافية. من الخليج، جاءت قطر والسعودية باستثمارات ضخمة: 5 مليارات دولار في مشاريع مثل مطار إسطنبول الجديد، و3 مليارات في قطاع الطاقة. لكن هذه الأموال لم تكن هدايا. كانت، بحسب سمير أمين، جزءًا من استراتيجية "التنمية الرثة". تركيا، تحت قيادة أردوغان، لم تُبنَ كاقتصاد مستقل. أصبحت تابعة لتقسيم العمل الدولي: تستورد التكنولوجيا والسلع الرأسمالية من الغرب، وتصدر منتجات زراعية وصناعات خفيفة مثل المنسوجات. بحلول 2010، تضاعف الدين الخارجي إلى 400 مليار دولار، وهو ما يعادل نصف الناتج المحلي. الخصخصة اجتاحت البلاد: بيعت شركة Türk Telekom لمجموعة سعودية بـ6.5 مليار دولار، وذهبت مصانع الصلب والكهرباء إلى مستثمرين غربيين. هذه الصفقات حققت عائدات وصلت إلى 60 مليار دولار بين 2002 و2012، لكنها جردت تركيا من أصولها الاستراتيجية، مما أضعف سيادتها الاقتصادية. هذا النموذج، كما يصف أمين، لم يكن جديدًا. كان استمرارًا للاستعمار الجديد: دول الجنوب تُحول إلى أسواق مفتوحة، بينما يُحتفظ بالسيطرة في يد الغرب. أردوغان، الذي قبِل هذه الشروط، بدا وكأنه يحقق إنجازات. النمو الاقتصادي بلغ 8% سنويًا في بعض السنوات، وظهرت مشاريع ضخمة مثل جسر البوسفور الثالث. لكن هذه الإنجازات كانت وهمية. الاقتصاد أصبح رهينة لتقلبات العملات، والديون جعلت تركيا عرضة للضغوط السياسية.
المشهد الثالث: الربط بالأجندة
هذا الفخ لم يكن مجرد أرقام. كان أداة سياسية. الديون، كما يُزعم، جاءت مع التزامات غير مكتوبة. أردوغان، الذي بدا بطلًا شعبيًا، كان ملزمًا بتنفيذ أجندات إقليمية تخدم الغرب. في سوريا، دعم المعارضة المسلحة ضد بشار الأسد منذ 2011، بما يتماشى مع أهداف الولايات المتحدة. في شمال العراق وسوريا، احترم مناطق النفوذ الكردي، رغم خطاباته القومية. هذه السياسات، كما يرى النقاد، لم تكن اختيارية. كانت جزءًا من صفقة ضمنية: المال مقابل الطاعة. لكن أردوغان لم يكن سلبيًا تمامًا. استخدم الأموال لتعزيز شعبيته: مستشفيات جديدة، طرق سريعة، ومشاريع أبهرت الناخبين. لكنه، كما حدث مع مرسي في مصر، كان محاصرًا. مرسي، الذي تولى السلطة في 2012، واجه ضغوطًا مماثلة: قروض من صندوق النقد فرضت إصلاحات تقشفية، أثارت غضب الشعب. سقوطه في 2013 كان تحذيرًا لأردوغان: الديون تخلق أسيادًا لا يمكن عصيانهم. لكن أردوغان، بخلاف مرسي، كان أكثر براغماتية. تعلم كيف يوازن بين طموحه وحدود الفخ.
المشهد الرابع: بداية الصراع
بحلول 2010، بدأت حدود هذا الفخ تتضح. تركيا، رغم نموها، كانت تعاني من عجز تجاري متزايد، والليرة بدأت تفقد قيمتها. أردوغان، الذي أدرك أن الديون ليست مجرد عبء مالي، بدأ يبحث عن بدائل. اقترب من روسيا والصين، وحتى إيران، متوهمًا أن بإمكانه فك السلاسل. لكن، كما يزعم النقاد، كان هذا وهمًا آخر. "لوبي العولمة"، الذي رهن تركيا، لم يكن مجرد بنوك. كان شبكة من المصالح تشمل السي آي إيه، الناتو، والنخب الخليجية. حتى عندما بدا أردوغان متمردًا، كما بعد انقلاب 2016، ظل ينفذ أجندات إقليمية، مثل احتلال سوريا 2024 المزعوم لتوريط ترامب. هذا الفخ، كما سنستكشف لاحقًا، لم يكن مجرد بداية القصة. كان جوهرها.
يتبع
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشطرنج الروسي: استراتيجية القوة في عالم النهب النيوليبرالي.
...
-
تصفية إسرائيل: من عبء أمريكي إلى نهوض المقاومة..كتاب
-
كراهية الأقلية المالية الأوليغارشية للثقافة: تفكيك الهمجية ا
...
-
سمير أمين ورفض المخطط الاستعماري الأمريكي-الصهيوني لاحتلال س
...
-
سورية: من فتنة التريليونات إلى المقاومة الممكنة..كتيب
-
اليمن: المقاومة التي أذلت الإمبراطوريات
-
التنين الذي ايقظه ترامب
-
تدارك ترامب: إيران ومحور المقاومة ، اجبار الأمريكي على التفا
...
-
الفاشية المالية في بلجيكا ورموزها الحالية دي ويفر وبوشيز ومي
...
-
الأيباك :القناع المالي للاحتكارات الغربية للسيطرة والإبادة ا
...
-
تصريحات ترامب: استغلال العالم أم استغباء الأمريكي؟ - الدولار
...
-
التكوين الطبقي للعصابات الحاكمة في أوروبا الشرقية: تعبير عن
...
-
أوربان ونتنياهو: تواطؤ الإبادة من غزة إلى لبنان - جرائم البي
...
-
صنعاء تقاوم الإبادة - القانون الدولي بين النظرية والفعل..كتي
...
-
من بروكسل إلى نيويورك، تواطؤ في الإبادة الفلسطينية (أوهام ال
...
-
حملة بايدن و ترامب الإرهابية ضد إنسانية الشعوب والهولوكوست ا
...
-
خرافة الدفاعات الجوية الأمريكية-الإسرائيلية: إيران وسلاح الب
...
-
الاسلام كماركة تجارية امبريالية في مسرح محميات الخليج
-
رحيل فاضل الربيعي وأزمة العقل العربي المعاصر
-
رحيل فاضل الربيعي ومساهماته الفكرية في مواجهة العقل العبودي.
...
المزيد.....
-
حلبجة: ماذا نعرف عن المحافظة العراقية رقم 19؟
-
كلمة الرفيق حسن أومريبط، في مناقشة تقرير المهمة الاستطلاعية
...
-
ترامب لإيران.. صفقة سياسية أو ضربة عسكرية
-
كيف نفهم ماكرون الحائر؟
-
إسرائيل تعلن إحباط محاولة -تهريب- أسلحة من مصر
-
مبعوث ترامب يضع -خيارا واحدا- أمام إيران.. ما هو؟
-
أول رد فعل -ميداني- على احتجاجات جنود إسرائيليين لوقف الحرب
...
-
مقاتلة إسرائيلية تسقط قنبلة قرب -كيبوتس- على حدود غزة.. والج
...
-
باريس تُعلن طرد 12 موظفًا من الطاقم الدبلوماسي والقنصلي الجز
...
-
عامان من الحرب في السودان... تقلبات كثيرة والثابت الوحيد هو
...
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|