رياض سعد
الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 09:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كشف العالمُ الافتراضي، بوصفه مرآةً عاكسةً لخفايا النفس البشرية، عن حقائقَ نفسيةٍ واجتماعيةٍ مُدهشةٍ للفرد والجماعة على حدٍّ سواء، فجاءت منصات التواصل الاجتماعي مسرحاً لتفريغ المكبوتات، وإظهارِ ما تُخفيه الصدورُ من نقائصَ وعيوبٍ، بل وتحويلِ المشاعرِ الخفيةِ إلى أفعالٍ مرئيةٍ تُخلَعُ فيها الأقنعةُ الواقيةُ التي يُمارسها الناسُ في الواقع. هذا الانزياحُ بين السلوك الظاهريِّ والمكنونِ النفسيِّ أوقعَ الكثيرين في حيرةٍ مُربكةٍ، إذ بات الفردُ يُلاحظ تناقضاً صارخاً بين تعاملاتِ الآخرين معه وجهاً لوجه، وتفاعلاتِهم الباردةِ أو المُتجاهلةِ معه في الفضاء الرقمي.
فها هو ذا الشخصُ الذي تلاقيه في الشارع أو في مناسبةٍ اجتماعيةٍ، يُبادلك التحيةَ بابتسامةٍ مُصطنعةٍ، ويُجاملُك بالكلامِ اللطيفِ، لكنَّك تفاجأ بأنه يتعاملُ مع منشوراتك على وسائل التواصل ببرودٍ مُطلقٍ، فلا يُعلقُ تعليقاً إيجابياً، ولا يُبدي إعجاباً، حتى لو نشرتَ محتوى قيماً يُثرِي الفكرَ أو ينفعُ المجتمع... ؛ في المُقابل، تراه يُسرعُ إلى تفاعُلٍ حماسيٍّ مع منشورات الآخرين، وكأنما يُخفي وراءَ شاشةِ هاتفه شخصيةً مُختلفةً تُعارضُ ما يُظهره في الواقع.
هنا تُولدُ الحيرةُ: أيعكسُ هذا السلوكُ حقيقةَ مشاعرهِ الخفيةِ؟
أم أن المجاملةَ الاجتماعيةَ هي التي تفرضُ عليه الابتسامةَ المصطنعةَ وجهاً لوجه، بينما يُطلِقُ العنانَ لحقدهِ أو حسدهِ حين يختلي بجهازه، حيث لا رقيبَ إلا ذاك "الشيطانُ" الرقميُ الذي يُغذِّي نزعاتِه السلبية؟
لعلَّ الأخطرَ في هذا السيناريو أنَّ هذا الشخصَ، بدلَ أن يُصارحَك بخلافٍ أو يُناقشَك برأيٍ، يلجأ إلى تسويغِ سلوكه المُتناقضِ عبر تشويهِ سمعتك، فينقبُ عن هفوةٍ في أسرتك أو ماضي احد افراد عائلتك، ليرميكَ بوحلِ الاتهاماتِ الباطلةِ، مُتخفياً وراءَ إطراءٍ زائفٍ يُمتدحُك به حين يلتقيك!
لا شكَّ أن هذا النمطَ من "المنافقِ الرقمي" أخطرُ من العدوِّ المُعلنِ، فالأخيرُ تُحذِّرُ من سهامه، أما الأولُ فيطعنُك من حيث لا ترى، مُستخدماً أدواتِ العالم الافتراضي سلاحاً للإيذاءِ النفسيِّ، ومُحوِّلاً إياها إلى ميدانٍ لتصفيةِ الحساباتِ الخفية.
وهكذا يصيرُ الفضاءُ الرقمي مختبراً لكشفِ الأمراضِ الاجتماعيةِ المستشريةِ، من نفاقٍ وحسدٍ وانعدامِ ثقةٍ، والتي تُهدِّدُ نسيجَ العلاقاتِ الإنسانيةِ في عصرِ التكنولوجيا واللاواقع.
#رياض_سعد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟