|
آثار الدّعاية -الإسرائيلية- في الخطاب اليومي
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8312 - 2025 / 4 / 14 - 01:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
علماء الاجتماع السياسي يقولون بأنه لا وُجود لمجتمع متجانس تمامًا. ففي كل مجتمع توجد ثقافات فرعية متنوعة، مثل الثقافات اللغوية والدينية والقبلية والطائفية والقومية وغيرها، يُفترض أنها تتعايش جميعا داخل الثقافة الوطنية الجامعة، التي توحد كل الثقافات الفرعية بالمدرسة والقضاء الموحد ومؤسسات الدولة جميعها ... الخ. إلا أن هذه الثقافات الفرعية بقدر ما تُشكّل بتنوّعها مصدر ثراء في ظل دول مستقرة، قد تتحوّل إلى نقاط ضعف يمكن استغلالها في حالة النزاعات سواء كانت داخلية أو خارجية. وفقًا لنظرية "التجزؤ الهرمي"، يقَسِّم كل مجتمع ولاءاته من الأدنى إلى الأعلى، بدءًا بالولاء للأسرة أو العشيرة، ثم القبيلة، فالقومية، فالدين... ويظل خبراء الحروب يتساءلون أيّ من هذه الولاءات أقرب لتكون هي الأولوية في حالة النزاع بين الأفراد أو الجماعات. وتنكبّ مراكز البحوث الغربية على بحث أسئلة محدّدة يقتضيها الوضع العسكري والجيوسياسي، من نوع: ما الذي يجب فعله لتأجيج الصراع بين الأمازيغ والعرب مثلا؟ هل باغتيال إمام مسجد في بلاد القبائل أو بحرق مدرسة تقدم دروسا بالأمازيغية؟
أو ما الذي يجب فعله لإحداث فتنة "نافعة" بين الدّروز والشيعة في لبنان؟
المهم أن هذه النظرية التي أرسَت دعائمها إليزابيث كولسون، تؤكد أن كل تنازع بين الولاء للانتماء الأدنى (كالأسرة أو القبيلة) والولاء للانتماء الأعلى (كالقومية أو الدولة). إذا تطور وأصبح صراعا تغلّب فيه الأدنى فإن المجتمع يتعرض للتمزّق الجغرافي والسياسي، ويصبح من الصّعب الحفاظ على وحدة المجتمع إذا لم يتم التحكم في هذه الديناميكيات.
هذه الظواهر الاجتماعية والثقافية التي تطرقت إليها النظريات العلمية، ليست محصورة داخل إطار علم الاجتماع فقط، بل تشمل استراتيجيات القوى الدولية الكبرى التي تسعى إلى استخدام هذه التباينات الثقافية لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية.
الإستراتيجية الإسرائيلية في استخدام الثقافات الفرعية:
في هذا السياق، تقدم بعض مراكز الأبحاث الاستراتيجية الإسرائيلية نظرة مفصلة حول كيفية توظيف التعدد لصالح مشاريع الهيمنة الإقليمية. ففي سلسلة من الندوات التي عقدتها مراكز الأبحاث الصهيونية، تم طرح الاستراتيجية الإسرائيلية في شكل مجموعة من الأسئلة، تم الإشارة فيها إلى طريقة استخدام الصراعات الداخلية في البلدان العربية لتحقيق ضعف استراتيجي يمكن من الحفاظ على الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
السؤال الاستراتيجي الأول:
هل قبل العرب السلام مع إسرائيل نتيجة "اقتناع بجدوى السلام" أم نتيجة الضعف؟
الجواب الإسرائيلي:
العرب قبلوا السلام نتيجة ضعفهم، وليس عن اقتناع حقيقي.
السؤال الاستراتيجي الثاني:
إذا شعر العرب يومًا ما أنهم أقوياء، هل يعودون للصراع مع إسرائيل بغض النظر عن أية اتفاقيات؟
الجواب الإسرائيلي:
نعم، إذا شعر العرب بالقوة، سيعودون للصراع لأنهم قبلوا الخضوع للعديد من القوى الاستعمارية في الماضي، ولكنهم يعودون للصراع عندما يعتقدون أنهم قادرون على ذلك.
السؤال الاستراتيجي الثالث:
إذا كان الأمر كذلك، فما هو الحل؟
الجواب:
أن يبقوا ضعفاء دائمًا.
السؤال الاستراتيجي الرابع:
وكيف يبقوا ضعفاء دائمًا؟
الجواب:
من خلال التدخل في بنيتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على مواطن القوة في هذه البنيات.
السؤال الاستراتيجي الخامس:
كيف يتم التدخل في البنية العربية؟
الجواب:
1. إثارة الصراعات الداخلية بناءً على الثقافات الفرعية مثل الدين والمذاهب والقوميات.
2. جذب الدول الكبرى للتنافس على المنطقة مما يمنع الاستقرار.
3. العمل على تقويض أي مقومات للقوة غير التقليدية في العالم العربي، مثل النووي.
4. التأثير على توجيه التنمية العربية من خلال الشركات الاستشارية.
5. التجسس المستمر على الحياة العربية.
6. استهداف النخب العربية وتوجيه الإنتاج الأدبي والفكري في مسارات محددة.
7. التحالف مع دول الجوار العربي لتثبيت الهيمنة الإسرائيلية.
8. التركيز على خمسة دول عربية كأهداف رئيسية: مصر، تونس، العراق، سوريا، والجزائر.
الاستعمار الفرنسي وتوظيفه للأمازيغ:
في سياق هذه الاستراتيجيات، يجب النظر أيضا إلى الدّور الذي لعبه الاستعمار الفرنسي في استخدام الثقافات الفرعية داخل المجتمعات المستعمَرة، لا سيما في شمال افريقيا. فقد عمد إلى تعزيز الصراعات الداخلية في الجزائر عبر اللعب على الاختلافات الثقافية واللغوية بين العرب والأمازيغ. فاستخدم هذه التباينات من خلال تبني سياسة "فرّق لتسود"، حيث عمل على تشجيع العزلة الثقافية بين المجموعات المختلفة وزرع الخلافات العرقية واللغوية في مجتمع متعدد الهويات. تزامن هذا مع محاولات فرنسية لإضعاف الهوية العربية في الجزائر، وفي نفس الوقت تهميش الهوية الأمازيغية لصالح هوية "الفرنكوفونية" المعتمدة على اللغة والثقافة الفرنسية. من خلال هذا الإجراء، سعت فرنسا إلى تحويل جزء من الأمازيغ إلى أدوات لتنفيذ أجنداتها الاستعمارية، في وقت كانت تسعى فيه لتقسيم الشعب الجزائري وخلق فوضى ثقافية وعسكرية. وفي بعض المناطق الأخرى جندت عملاء عربا لمحاربة القبايل والشاوية.
هذا هو الإطار العام الذي تُفهم فيه مقولة [الاستعمار العربي لشمال افريقيا]. ففي هذه الأيام العصيبة التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، وتٍحاصر فيها حركة التحرّر الوطني، لا يمكن أن نفهم هذه المقولة إلّا باعتبارها جزء من الاستراتيجية الإسرائيلية
الرّبط بين المخططات الاستعمارية وسياق الخطاب اليومي
بالربط الموضوعي بين ما سبق وبين بعض الأفكار الرّائجة في تونس تحت سواتر مختلفة، لا يمكننا أن نفهم الأمور بمعزل عن بعضها البعض. فهنالك أقلية قليلة ناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي كأنها خلايا نائمة تختفي حين تهبّ الشعوب لنصرة فلسطين، وتظهر في حالات الانكسار، مثلما هو الحال اليوم. لهذه الأقلية حسّاسية مفرطة ضد عروبة تونس، مدسوسة في الخطاب، ولا نعلم على وجه اليقين إن كانت هذه الفئات منخرطة عن وعي وإدراك في المشروع التفتيتي، أو هي فقط مهيئة ايديولوجيا للانخراط فيه عن غير وعي. أو أن الصدفة جعلت هذا الخطاب رديفا لأهداف الكيان الصهيوني. هنالك أيضا هجوم على فكرة الوحدة العربية. وكأن ثمة اشتغال مقصود وحثيث على جعلها فكرة محل ازدراء وسُخرية. وحتى لو كان من باب الصدفة، يجب الإشارة إلى أن هذا الخطاب له جذور استعمارية قديمة، وله حاضنة اسرائلية حالية.
الوحدة العربية، هل هي وهم؟
بخصوص السخرية من فكرة الاندماج العربي. لماذا اتّحدت أروبا المتكونة من عشرات القوميات وعشرات اللغات ومئات اللهجات؟ أروبا التي شهدت مذابح دينية مّروّعة، تمّت باستخدام الأعراق وتعبئة الشعوب دينيّا وعنصريا، وبكل الوسائل من قِبل برجوازيات متصارعة على مصالحها الاستعمارية. وقد أدى ذلك في الأخير إلى حربين عالميتين راح ضحيتها خمسين مليون إنسانا، نجحت في أن ترى نفسها في اتحاد أروبي. والعرب الذين لم يخوضوا حروبا ضد بعضهم مثل أروبا. ولا الشيعة والسنة اقتتلوا مثلما اقتتل الكاتوليك والبروستانتين، وتجمع بينهم اللغة والثقافة والجغرافيا والتاريخ، وكلّ الأسس الواقعية لبناء الأمة، يقول لنا هؤلاء السادة بأن إقامة مشروع عربي اندماجي ضرب من الوهم. والملفت أنهم يُردّدونها بنفس السّخرية التي قالتها بها غولدا ماغير منذ خمسين عاما.
الأمر الملفت أيضا، أن هذا المنطق لا ينفصل عن الحرص الفرنسي على تصنيع قومية جديدة في تونس مضادة للقومية العربية، تحت عنوان "إحياء الأمازيغية". والهدف لا علاقة له بالثقافة. بل هو هدف سياسي واضح. بحيث يٍراد تحويل الأمازيغية إلى عامل انقسام داخل هذا البلد، الذي لا يحتوي عوامل إنقسام مجتمعي. ولقد بينت منذ نوفمبر 2010 في مقال بعنوان " واقعية التطلع إلى اتحاد عربي"، بأن "الفرنسيين كانوا قد أبادوا "البروطانس" و"الآلزاسيين" وفرضوا على المتبقي منهم اللغة الفرنسية بقوة السلاح، وفرنسوا فرنسا بالعنف الدموي، في إطار حلِّهم لقضيتهم القومية.. ويأتون اليوم بكل تلك الوداعة المغشوشة التي تخفي نوايا المستعمر، يتباكون على الأقليات، ويُحرِّضون على "إحياء الأمازيغية" بهدف تفتيت دول المغرب العربي وتمزيق مجتمعاتها، وتقديمها للجماعات الإرهابية على طبق من ذهب ..." هذا موضوع في غاية الأهمية، لأنه حين تنكتشف الجهات الواقفة خلف هذا النشاط، وأهدافه والمستهدف منه، والمبالغ المالية الهائلة التي تُصْرَف في أشكال مختلفة. حينئذ علينا أن نطرح نقطة استفهام حول تطابق هذا الخطاب الذي نقرأه من حين إلى آخر: "ما دخل تونس في فلسطين". و"هل حلت تونس مشاكلها حتى تتدخل في غزة" و نحو ذلك من هذا الكلام المسموم. مما يجعلنا نُذكّر بالتطابق بين هذا الخطاب وأهداف المشروع الإسرائيلي المشار إليه في بداية الورقة. ومنها: ضرب عروبة تونس وعروبة أقطار المغرب العربي عموما، ليس من أجل الإقرار بالتّنوع والتعدّد والاعتراف بأن الأمازيغية جزء أصيل في ثقافتنا الوطنية، بل في إطار مشروع سياسي عدواني. وإحداث أسباب الإنقسام في الأقطار التي لا توجد فيها إنقسامات دينية أو مذهبية أو عرقية حادة قابلة للانفجار، يمكن استخدامها متى أريد لهذه المجتمعات أن تدخل أتون الاقتتال والفوضى.
بكل الاحوال، هنالك إعداد لوعي مُزيّف، وتهيئة لخطاب مناسب. وليس من العسير أن ندرك أن نفس الفئات التي تروّج لمقولة "نحن في تونس أو في المغرب أو في مصر لا دخل لنا في قضية فلسطين". حيث يُراد، منذ عقود، استبدال جوهر قضية فلسطين بصفتها قضية تحرر وطني عربية ب"قضية الفلسطينيين". هي ذات الفئات التي تعتبر الفقر قضية الفقراء، والصحة قضية المرضى، والتصحر مشكلة أهل الجنوب التونسي، والفيضانات مصيبة بوسالم، أو بنزرت لوحدها ... وهكذا ... يعني أفضت هذه الأفكار الانعزالية إلى نوع من الآنحطاط المتدرّج والآنهيار السافر، فانتقل هؤلاء من ادّعائهم الدفاع عن الإنسانية، والدفاع عن الأمة المستعمرة المظلومة، إلى منطق "عشيرتي" وما بعدها الطوفان.
طبعا أنا لا أعتقد أن نماذج الوحدة التي جُرِّبت في الستينات هي الأصلح لمفهوم الوحدة. ولست معجبا بنموذج ضم دولة إلى دولة أخرى بالعنف. بل بالعكس ربما كنت من أشد منتقدي الأنظمة العسكرية التي استولت على شعار "القومية العربية" وانتهجت سياسات شعبوية مدمرة. ولكني مع العمل الجدّي على إنضاج كل الظروف المحلية التي تسمح باندماج مغاربي يُسهّل الاندماج العربي لاحقا، من منطلق مصالح الشعوب. والموضوع لا يتطلب أكثر من إجراءات سياسية بعيدة عن الشعارات وفي متناول الجميع -كتلك التي بدأت بها الدول الأوروبية: - إلغاء التأشيرات وضمان تنقل الأفراد ورؤوس الأموال. - مد سكك حديدية تربط بين أقطار الوطن العربي. - إقامة محكمة عربية لها سلطة حقيقية تبت في النزاعات العربية العربية. - توحيد مناهج التعليم. - توحيد شروط القبول إلى الجامعات. وأعتقد أنه لو تم ذلك منذ الخمسينات لما كانت حالنا هذه الحال. ويكفي أن ننظر حولنا، لنجد تكتلات ودول قومية حقيقية : تركيا، إيران ، الاتحاد الأروبي، ونفهم كم أن الاتحاد العربي أمر واقعي جدا. وليس صحيحا أن وحدة العرب وهم وثرثرة قومجية جُرّبت ومُنيت جميعا بالهزائم. لأن هذا الكلام لا يرقى ليكون فكرا سياسيا يؤخذ به.
أما الفكر السياسي الوطني التحرري فلا ينظر للتيار القومي على أنه شيء واحد. ففيه اليسار وفيه اليمين ويشقه نور كما يشقه ظلام. وله انجازات كما في رصيده هزائم. ومجمل القول إن الحكم عليه لا يحتمل التعميم. ولذلك، ومع كل ما يمكن أن يقال بخصوص التجربة الناصرية أو البعثية، هذا لا يمنعنا من التشديد على الهوية العربية، من جهة كونها دعوة اقتضتها المصالح المشتركة لشعوب المنطقة بعيدا عن الشعارات الوهمية التي لا أحملها ولا أحبذها. ففكرة الوحدة العربية ليست وهْمًا. إنما هي وعي تاريخي نبع من الاستجابة للانتقال من مجتمع الزراعة، إلى مجتمع الصناعة، ومن مرحلة التشتت والتكسر المجتمعي، إلى مرحلة الاندماج من خلال حلم الوحدة الاقتصادية، التي دفع باتجاهها تقدم وسائل الإنتاج عبر تأثير الثورة الصناعية في المنطقة العربية، وما نجم عن ذلك من توزع للعمل، وترابط فروع الإنتاج، مما استدعى، ضمن حلم الاستقلال الفعلي، الدعوة لضرورة تسهيل طرق النقل والمواصلات والحاجة إلى سوق عربية مشتركة. كل ذلك ساعد على الإسراع في التذكير بوحدة الثقافة والعادات والشعور الشامل بـ"الوطن الأمة" في عصر صعود القوميات. وإلى يوم الناس هذا، لا زالت الطبقات الوطنية، ونخبها العربية تتطلع إلى بناء اتحاد عربي ديمقراطي، تجاوزا لتجارب الوحدة التي أُفْشِلتْ أو فشلت بتظافر عدة عوامل داخلية وأخرى خارجية. ويبدو أنه باستثناء إسرائيل والبرجوازيات العربية الطفيلية الكمبرادورية التي ارتبطت مصالحها بالاستعمار، فموضوع الوحدة محسوم تقريبا لدى التيارات الفكرية الأساسية من اليسار إلى القوميين العرب، إلى التيار الليبيرالي .
مناهضة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال وتجريد الشعب الفلسطيني من حقه في تحرير أرضه، بدعوى أن المقاومة إسلامية. وأنها تسببت بقتل المدنيين:
هنا أيضا أؤكّد أنّي لا أتّهم أحدا. بل أعرض رأيي على الشباب وأصحاب القضية، الذين قد يكونون ضحايا الدعاية الصهيونية التي نعثر على آثارها في ما يُنشر يوميا ويُتداول على اعتباره وجهة نظر.
منذ سنوات، دأبت عدة شخصيات على إدانة المُقاومة بِطريقة خبيثة. فهم يقولون أنها في كلّ مرّة تَتَسبّب في قتل المدنيين وتدمير المُدن. وهذا منطق مقلوب ومُخزي وغير أخلاقي. فنحن لم نقرأ ولم نسمع من أدان المقاومة الفرنسية التي استخدمت دروعا بشرية لتحرير باريس من الاحتلال النّازي. بالعكس الفرنسيون إلى اليوم يُمجّدون المقاومة. ولم نسمع من أدان جبهة التّحرير سنوات الثورة الجزائرية، رغم أن عسكر فرنسا قتل عُشْر السكّان في ظرف ثماني سنوات. بحيث كلّ الشعوب التي تمسّكت بحقوقها الوطنية في الاستقلال، قاومت ودفعت الضريبة. والمُدان الأول والأخير هو المُحتلّ وليس أصحاب الحقّ الذين يقاومونه.
أما مسألة التحريض على المقاومة [لأنها إسلامية]. فلن أدخل في جدل عقيم لأن العالم أجمع يعرف أن كل فصائل المقاومة على الميدان بخلفياتها جميعا. ثم بالتحليل الماركسي، الاستعمار الاستيطاني الإحلالي العنصري يستهدف المُجتمع بِرُمتِهِ، بجميع طبقاته ومُكوّناته العرقية والدينية والثقافية. والشعوب المُحاصرة، في معاركها الكُبرى، تستحضر رموزها التاريخية، وتستخدم مخزونها الحضاري والديني وجميع أرصدة قوّتها الكامنة. وقبل هذا وذاك، الشعب الفلسطيني حين قرّر الاشتباك مع العدوّ الذي اغتصب أرضه، لم يأتِ ليُفتّش ليستشير أحد. فهو شعب خبير حروب، وله قواه، ويعرف ماذا يفعل.
إحياء الثّقافة الأمازيغية كإحدى مكوّنات الثّقافة الوطنية. لا يعني تحويل ذلك إلى عامل فتنة وتقسيم
الأخطر هي النزعة الانفصالية التي توسعت خاصة بعد 2011 في الظاهر جمعيات شبابية تطالب بإحياء ثقافتنا الأمازيغية وحمايتها من التّلاشي، وهذا حقيقة أمر عظيم. ولكن مع الأسف، في الخلف، هنالك توجيه صهيوني وتمويل استعماري نحو المطالبة بحقوق ثقافية جماعية خاصة بفئة معينة وليس للشعب التونسي باعتبارها جزء من الهوية الوطنية التونسية. في نفس الفترة تحرّك هؤلاء في عدة مدن أوروبية، لافتعال قضية وهمية اسمها "الأقلية الأمازيغية المضطهدة في شمال افريقيا". أما في ليبيا فقد خلقت فرنسا تنظيما مسلّحا اسمه فيلق الأمازيغ. وقد خاض هذا الفصيل كل المعارك التي جرت على التراب الليبي... وذات الخطاب يستمر بعدة مسارب.
فماذا قرأت المدة الأخيرة على إحدى الصفحات؟
"... وبالرغم من انتهاء هذا اليسار للترويج والدعاية والإعجاب وإقامة الندوات دعما لحركات دينية من نوع حماس وحزب الله و الحوثيين و ايران بدعوى مقاومة امريكا وانجاز التحرر الوطني، فانه لايزال التعريض قائما بيسار لا يحترم قيم شعبه"
يعني تحت غطاء مناهضة الفكر الغيبي، يٍقال نفس الخطاب الذي يقوله الناطق الرسمي باسم جيش الاحتلال يوميا في الهجوم على المقاومة
أنظروا هذا شخص آخر ماذا يقول أيضًا في إطار برنامج إثارة الفتنة العرقية بين التونسيين
"كثير من التونسيينن ، من مفكرين و مواطنين يقولون ان هذا التراث المراد تثويره وتنويره لا علاقة لهم به وعلاقتهم تتمثل في كون موسى ابن النصير و حسان ابن النعمان أخذ ٱلاف الجواري واستعبدوا الاهالي وان هؤلاء الغزاة عاثوا فسادا في هذه البراري بعد انتصارهم على السكان المحليين".
وهنا هذه التدوينة تتحدث عن غزو العرب لتونس. ومن جهة أخرى الموقف من التراث الذي لا يعني إلا الغزو العسكري. وبهذا المنطق يصبح من الواجب جمع كل البحوث والكتب التي تكلمت في التراث، وحرقها لأنه لا فائدة منها. يعني علينا أن نلقي بهم جميعا في الحاوية: حسين مروة، هشام جعيط، عبد الله العروي ، محمد عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، طه حسين، محمود أمين العالم، الطيب تيزيني، محمد أركون... ونكتفي بآراء صاحب التدوينة. الذي يطرح علينا قضية غزو واستعمار، منطقيا تتطلب التحرير. لا أعرف بالضبط من سيقاوم من. ومن يمثل الاستعمار العربي (((الذي سبق الاستعمار الفرنسي))). هل يعني نحن جميعا الاحتلال. وصاحب التدوينة جبهة تحرير تونس. مِن مَن سيحررها؟ من التوانسة ؟ الله أدرى وأعلم.
واحد آخر يكتب: "اليسار لم ينخرط لا سياسيا و لا فكريا ضد السائد. هو يسار منسجم مع مضامين و اديولوجيا سائدة من مخلفات استعمار (((سابق لاستعمار فرنسا)))" [يقصد الاستعمار العربي لتونس]
وجهبذ آخر يكتب على صفحته: "وفّر هذا الاستعمار (((الذي سبق فرنسا))) (يقصد العرب المسلمين، أو الشعب التونسي الحالي) في بنية مجتمعية بائسة نوعا من التعليم مطابقا لهذه البنية و جعل من مؤسسات التدريس جهازا لتعبئة الناشئة بأساطير على اعتبارها حقائق مقدسة".
طبعا لن أردّ على هذا الهرج بالتفصيل. فقط أسعى للإضاءة على علاقة هذا الخطاب بما أُعد للبلاد. وسأكتفي بالتعليق على قول أحدهم "كثير من التونسيينن ، من مفكرين و مواطنين يقولون ان هذا التراث المراد تثويره وتنويره لا علاقة لهم به" فصاحب هذا الكلام لا يمكن أن يكون مُدركا لمعنى "كيفية إعادة قراءة التّراث". ولكأنّ هذا التراث نزل من السماء وتطور من دون أرض ولا اقتصاد ولا سياسة ولا طبقات. وكأن التراث مجرد نصوص ساكنة لا علاقة لها بحركة التاريخ الذي ولدت فيه وعبّرت عن تناقضاته. وكأن كتب التراث خاضعة لأهواء كُتّابها بمعزل عن الشروط الموضوعية بما هي تفاعل حركي مستمر لمجمل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتاريخية. إذا كان هذا هو فهم صاحبنا للتراث، فبطبيعة الحال سيصعب عليه فهم كلّ دعوة لمعرفته. ذلك أن هذا الفهم المثالي للتراث ولكيفية معرفته، لا يستطيع صاحبه أن يفهم الواقع الموضوعي الذي ولّد النزعة التّشاؤمية عند أبي العلاء المعرّي مثلا. ولا فهم الأبعاد السياسة والاقتصاد التي جعلت المأمون ينتقل من مذهب أبُو حُنيفة النُّعمان إلى التحالف مع المعتزلة وفرض القول بخلق القرآن. بمعنى أن هذا الرّأي سطحي إلى درجة أنّه أكثر رجعية من الحركات المتطرفة التي تكفّر عقلانية المعتزلة وتنحاز للحنابلة. فعلى الأقل هذه التيارات فهمت بأن ذلك الصراع كان عقائديا يتصل بالتوحيد والأسماء والصفات. أما صاحبنا فهو يدعو للجهالة جهرا حين يدعو إلى عدم قراءة التراث. والأفظع من هذا الفهم المحدود لمعنى بحث التراث، هو حقيقة يمثّل انعكاسا وفيًّا للدعاية الاستعمارية، لا تتوفف خطورته في مجرد التّرويج، بل في المساهمة في الطعن في مقاتل الثقافة الوطنية وجذورها. ولو دقّقتم، لاكتشفتم فورا أن هذا هو بالضبط ما يقوله الصهاينة في توصيف تراث العرب المسلمين. علاوة على أن هذه القراءة عنصرية خالصة، فهي من حيث المنهج نظرة ميكانيكية صرفة وتبسيطية في النظر إلى علاقة التبادل بين ثقافات الشعوب بعضها مع بعض؛ حيث بمجرد ترجمة العرب للفلسفة اليونانية، تصبح ثقافة المسلمين آليًّا ثقافة دخيلة، مُتّصفة بصفات الثّقافة اليونانية، مُتّخذة كلّ أبعادها كمجرّد نسخة من نُسَخِها. أي أن التّأثر يحدث من جانب واحد فقط. كما لو أن العملية شبيهة بتركيب محرّك ألماني في هيكل سيارة فرنسية. هناك ثقافة يونانية وافدة تمّ تركيبها على بيئة عربية اسلامية، فاستجابت هذه الأخيرة، وانتهى الموضوع. أما المنهج المادي التاريخي، الذي ندعو لاستخدامه في قراءة التّراث. فنظرته إلى العلاقة بين فلسفتين ينتميان إلى مجتمعين مختلفين هي مسألة تخضع لعلمية معقدة من التفاعل بين الداخليّ والخارجيّ من أشكال الوعيّ الاجتماعيّ، وهي علاقة لها ديالكتيكة حركيّة خاصة. فالسّمة العامة الأساسية للقوانين التي تحكم هذه العلاقة هي كونها موضوعية مرتبطة بالتاريخ، وليست ذاتية إرادية، وكون الفكر الوافد لا يمكن أن يكون فاعلًا ومؤثرًا في الفكر الداخليّ إلا أذا كان هذا الأخير جاهزا للاستيعاب والهضم، الأمر الذي سمح لبعض الفكر اليوناني بالاندماج بالثقافة العربية الإسلامية ضمن شروط موضوعية محدّدة، مطلوب اليوم تتبّع آثارها لفهمها. ثم الحكم عليها أو لها. لذلك فهذا الأسلوب الميكانيكي التبسيطي هو الذي يمنع الدخول إلى أعماق التراث العربيّ الإسلاميّ وفهمه. وهو أسلوب جاء نتيجة النزعة الاستعمارية، التي تعمل على إبعاد الشعوب عن تراثها لمنعها من الوصول إلى كشف كنوزها الثقافية وأعطابها.
مازال الكلام يطول في هذا الموضوع، غير أني سأكتفي بهذا القدر، على أمل العودة للإضاءة على مسائل أخرى في ذات الموضوع.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول العبارة الخاطئة المنسوبة لكارل ماركس -إياكم والمساومة عل
...
-
في إنكار دوغمائية اليسار
-
الأزمة السياسية في تركيا وصراع البرجوازية الحاكمة
-
وثيقة موجهة إلى رئيس الجمهورية: من الغضب إلى الفعل، ومن الخط
...
-
عنوان الحرب هو التطهير العرقي. وليس استرداد الرّهائن
-
زلزال سياسي في تركيا: بين اهتزاز شرعية أردوغان وصعود المعارض
...
-
دعوة للارتقاء بالنّقاش وإخراجه من دائرة القدح العشوائي.
-
مَن يقود الشرق الأوسط، لا بدّ له من السيطرة على سوريا
-
سوريا في بيئة ملتهبة بالصراعات الدولية والإقليمية
-
وتستمر المعركة بين الدم والغطرسة
-
مفاعيل الإبادة الجماعية، وبداية تفكك الأبارتهايد الصهيوني
-
المعارضة التونسية ستندثر إذا لم تُعيد تعريف نفسها وتتصالح مع
...
-
مسار تغيّر النظام الدولي ودلالات صعود اليمين المتطرّف في فرن
...
-
اليسار يحتاج تنظيما جديدا
-
سوق التّجارة بمعاناة اليهود في أزمة كساد خانقة.
-
نهاية رواية مُزوّرة!
-
إسرائيل، مشروع مُفتَعَل
-
طوفان الأقصى، ضربة في مقتل.
-
الولايات المتحدة الأمريكية شريكة في الحرب على غزة
-
صُنّاع الكراهية يقودون المظاهرات ضدّ الكراهية!
المزيد.....
-
رد فعل غريزي مدهش.. فيلة تشكّل -دائرة تأهب- لحظة وقوع زلزال
...
-
-يشمل نزع سلاح غزة-.. مسؤول في حماس يكشف تفاصيل المقترح الإس
...
-
مؤتمر دولي حول السودان في غياب طرفي الصراع، وارتفاع الانتهاك
...
-
الزائر الأحمر يربك سماء العراق وأكثر من 1800 حالة اختناق
-
شركة يابانية تكشف عن ذئب آلي (فيديو)
-
عريضة إلى نتنياهو من وحدة السايبر الهجومي والعمليات الخاصة ب
...
-
مقتل 19 مدنيا وإصابة 85 آخرين بهجمات أوكرانية على مناطق روسي
...
-
غوتيريش يعرب عن قلقه البالغ إثر استهداف مستشفى الأهلي في غزة
...
-
الجيش الإسرائيلي يواصل قصف غزة.. قتلى وجرحى وتدهور غير مسبوق
...
-
الخارجية اللبنانية: المحادثات مع الرئيس السوري كانت بناءة
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|