أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أمل المزكلدي - -سوسيولوجيا التنمية بين الخبرة والهيمنة الرمزية- دراسة مقارنة لمنهجيات التحليل السوسيولوجي بين المنظور المؤسساتي ل مايكل سيرنيا والنقدي ل بيير بورديو















المزيد.....


-سوسيولوجيا التنمية بين الخبرة والهيمنة الرمزية- دراسة مقارنة لمنهجيات التحليل السوسيولوجي بين المنظور المؤسساتي ل مايكل سيرنيا والنقدي ل بيير بورديو


أمل المزكلدي

الحوار المتمدن-العدد: 8311 - 2025 / 4 / 13 - 23:06
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة:
تُعتبر التنمية من بين أكثر المفاهيم التي أثارت جدلاً في السياقين الاجتماعي والسياسي خلال العقود الأخيرة. فرغم ارتباطها في الوعي العام بالبُعد الاقتصادي، إلا أنها تشمل أبعاداً ثقافية، اجتماعية، ورمزية تُلامس حياة الأفراد والمجتمعات بعمق. ومع تعاظم دور المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي، في بلورة السياسات التنموية، أصبح من الضروري التساؤل حول الكيفية التي تُبنى بها هذه السياسات، والمنهجيات المعتمدة في تحليل الواقع الاجتماعي الذي تستهدفه.
في هذا السياق، تسعى هذه الدراسة إلى إجراء مقارنة بين أدوات التحليل السوسيولوجي التي يقترحها مايكل سيرنيا – باعتباره أحد أبرز الأطر داخل البنك الدولي – وتلك التي يُقدمها بيير بورديو من موقعه كمنظّر سوسيولوجي نقدي. الهدف من هذا التقاطع هو فهم أعمق لتأثير البرامج التنموية على المجتمعات المحلية، وخاصةً ما يتعلق بالتحولات التي تُحدثها هذه البرامج في البنيات الاجتماعية والهويات والسلطات الرمزية.
تكمن أهمية هذا العمل في محاولة تجاوز الفصل التقليدي بين التحليل التقني للمشاريع التنموية، كما يتم داخل المؤسسات، والتحليل السوسيولوجي النقدي الذي يُعنى بالبُنى العميقة للمجتمعات. ومن خلال الربط بين المقاربة الداخلية التي يمثلها سيرنيا، والمقاربة النقدية التي يُجسدها بورديو، نحاول إبراز كيف تُعاد إنتاج الهيمنة من خلال مفاهيم مثل الحقل، الهيمنة الرمزية، ورأس المال الثقافي.
وتروم هذه الدراسة تحقيق الأهداف التالية:
⦁ التعرف على منهجيات التحليل المعتمدة لدى كل من سيرنيا وبورديو في مقاربة القضايا الاجتماعية والتنموية.
⦁ تحليل العلاقة المعقدة بين السلطة الاقتصادية والسلطة الرمزية في سياق تدخلات البنك الدولي.
⦁ فهم مدى تأثير المقاربة السوسيولوجية على بناء وتصميم السياسات التنموية.
⦁ اقتراح سُبل إدماج مقاربات سوسيولوجية نقدية داخل برمجة وتنفيذ المشاريع التنموية، لجعلها أكثر عدالة وفعالية.
وسيتم اعتماد كتاب "البنك الدولي: التنمية بين الخبرة والسيادة" لنور الدين لشكر، كمصدر أساسي لتحليل مقاربة سيرنيا، مع استحضار المفاهيم النظرية الأساسية في فكر بورديو، مثل رأس المال الرمزي، العنف الرمزي، والحقل، وذلك لبناء قراءة نقدية لمآلات التدخلات التنموية وانعكاساتها على المجتمعات المحلية.

الإطار النظري:
أولًا: أدوات التحليل السوسيولوجي عند مايكل سيرنيا – التحليل المؤسساتي من داخل البنك الدولي
يُعد مايكل سيرنيا من أبرز علماء الاجتماع الذين عملوا داخل مؤسسة البنك الدولي، حيث لعب دورًا مهمًا في محاولة إدماج البُعد السوسيولوجي داخل السياسات والمشاريع التنموية، خصوصًا في بلدان الجنوب. من خلال كتاباته وممارسته الميدانية، يؤكد سيرنيا أن التنمية ليست مجرد عملية اقتصادية أو تقنية، بل هي قبل كل شيء عملية اجتماعية تمس البنيات والهويات، وتعيد تشكيل التراتب داخل المجتمعات.
يرتكز تحليله السوسيولوجي على مجموعة من المبادئ الأساسية، من بينها:
⦁ النمو مبرمج وليس تلقائيًا:
يعتبر سيرنيا أن التنمية لا تحدث بشكل عفوي، بل تُصاغ ضمن سياسات واعية ومخطط لها، خلفها مصالح ورؤى معينة. لذلك، ففهم البرامج التنموية يتطلب مساءلة من يُخطط لها، ولمصلحة من، وفي أي سياق اجتماعي واقتصادي.
⦁ البُعد الاجتماعي في كل تدخل مالي:
يؤمن سيرنيا بأن أي مشروع تنموي لا يجب أن يُنظر إليه فقط من زاويته الاقتصادية، بل يجب فهم تأثيره الاجتماعي، لأن هذه المشاريع قادرة على إعادة تشكيل العلاقات داخل المجتمع.
⦁ أهمية التحليل السوسيو-أنثروبولوجي:
يبرز سيرنيا الحاجة إلى أدوات سوسيولوجية لفهم المجتمعات المستهدفة بالتنمية، ويرى أن غياب هذا الفهم يؤدي في كثير من الأحيان إلى فشل التدخلات، أو إلى تصادم ثقافي بين الرؤية التنموية والمؤسسات المحلية.
⦁ ضرورة تقييم الكلفة الاجتماعية:
لا يخفي سيرنيا أن التنمية قد تكون مكلفة اجتماعيًا، خاصة إذا لم تُراعِ الفئات الهشة. لذا يدعو إلى ضرورة تقييم الأضرار المحتملة قبل تنفيذ أي مشروع، واقتراح حلول لحماية المتضررين.
⦁ الاعتراف بحدود المعرفة:
رغم إيمانه بأهمية التحليل السوسيولوجي، يُشدد سيرنيا على أنه غير كافٍ لوحده، ما يستدعي العمل في إطار متعدد التخصصات، يجمع بين علماء الاجتماع، والمهندسين، والاقتصاديين.
بشكل عام، تنبني رؤية سيرنيا على مقاربة أخلاقية، ترى أن على خبير التنمية أن يكون واعيًا بمحدودية معرفته، ومسؤولًا عن أثر تدخله، مع الإنصات للمجتمعات المحلية، والتعامل معها بشكل تشاركي وليس تقنيًا بحتًا.

ثانيًا: أدوات التحليل السوسيولوجي عند بيير بورديو – المقاربة النقدية للعلاقات الاجتماعية
ينتمي بيير بورديو إلى التيار السوسيولوجي النقدي، الذي لا يكتفي بوصف الواقع، بل يسعى إلى فهم آليات السيطرة والهيمنة التي تُعيد إنتاج التفاوتات داخل المجتمع. من خلال مفاهيمه، حاول بورديو تفكيك العلاقات بين السلطة، الثقافة، والمعرفة، خاصة في السياقات التي تبدو محايدة من حيث الشكل، لكنها تحمل في جوهرها علاقات قوة.
من أبرز مفاهيمه النظرية:
⦁ الهيمنة الرمزية:
يقصد بها القدرة على فرض تصورات معينة للعالم، تبدو وكأنها طبيعية أو منطقية، في حين أنها تعبر عن مصالح فئات أو مؤسسات معينة. في سياق التنمية، يمكن اعتبار البنك الدولي فاعلًا يفرض تصوره لـ"النمو" و"النجاح"، ما قد يؤدي إلى تهميش التصورات المحلية.
⦁ رأس المال الثقافي والرمزي:
يُميز بورديو بين أشكال مختلفة من الرأسمال، منها الثقافي (المعارف والقيم) والرمزي (الهيبة والشرعية). هذه الأشكال تُستخدم في الصراع داخل الحقول الاجتماعية. وعند تدخل البنك الدولي، يظهر تفاعل بين رأس ماله الاقتصادي، ورأس المال الثقافي الموجود داخل المجتمعات، مما يؤدي إلى توتر أو تفاهم حسب السياق.
⦁ الحقل الاجتماعي:
يرى بورديو أن كل مجال اجتماعي (سياسي، تعليمي، اقتصادي...) يشكل حقلًا له قواعده الخاصة. وعندما تتدخل مؤسسة خارجية مثل البنك الدولي، فهي تدخل إلى حقل قائم سلفًا، مما قد يُنتج مقاومة أو تفاهم، تبعًا لتوازنات القوة داخله.
⦁ العنف الرمزي:
لا يقتصر العنف على الجانب المادي، بل يمتد إلى فرض مفاهيم وتصورات معينة دون استعمال القوة المباشرة. من هذا المنظور، تُمارَس الهيمنة من خلال اللغة، المفاهيم، والخطاب، وهي وسائل يعتمدها البنك الدولي في تقديم مشاريعه.
من خلال هذه المفاهيم، يوضح بورديو أن البرامج التنموية ليست دائمًا بريئة أو موضوعية، بل يمكن أن تُعيد إنتاج علاقات القوة داخل المجتمع، خصوصًا حين تُقصي الفاعلين المحليين، أو تتجاهل المعرفة والخبرة المحلية.

المقارنة بين مقاربتي مايكل سيرنيا وبيير بورديو في التحليل السوسيولوجي للتنمية:
أولًا: نقاط الالتقاء:
رغم التباين في الخلفيات الفكرية والمواقع المؤسساتية لكل من مايكل سيرنيا وبيير بورديو، إلا أن بينهما بعض القواسم المشتركة التي تُبرز تقاطعهما في فهم الظواهر الاجتماعية والتنموية:
⦁ رفض التفسير الاقتصادي الأحادي:
كلاهما يعارض تقزيم التنمية إلى مجرد أرقام ومؤشرات اقتصادية. سيرنيا يحذر من التركيز الحصري على النمو الاقتصادي، بينما يرى بورديو أن الرأسمال الاقتصادي لا يُفهم بمعزل عن الرأسمال الرمزي والثقافي.
⦁ الحاجة لفهم البنية الاجتماعية:
يشترك الباحثان في الإيمان بأن أي تدخل تنموي ينبغي أن ينبني على معرفة دقيقة بالعلاقات الاجتماعية القائمة داخل المجتمع، لا سيما ما يتعلق بالتراتبات، الأدوار، والتمثلات الثقافية.
⦁ مركزية الثقافة في تحليل التنمية:
يعتبر سيرنيا الثقافة عنصراً لا يمكن تجاهله في تصميم البرامج، بينما يُعدها بورديو فضاءً للتنافس الرمزي والصراعات الطبقية، مما يجعل من المستحيل فصل التنمية عن سياقها الثقافي.
⦁ أهمية التعدد التخصصي:
كلٌ بطريقته، يدعو إلى الانفتاح على مقاربات متعددة. سيرنيا من أجل ضمان فعالية التدخلات، وبورديو من أجل فهم أعمق للبنيات المتشابكة التي تُعيد إنتاج الهيمنة.

ثانيًا: نقاط الاختلاف
رغم التقاطعات المشار إليها، فإن الاختلافات بين سيرنيا وبورديو تظل جوهرية، سواء من حيث المنهج أو الأهداف أو نظرتهم للسلطة:
1. الفلسفة العامة للتحليل:
ينطلق سيرنيا من تصور إصلاحي، يرى أن التنمية مشروع قابل للتخطيط والتقييم، ويمكن تحسينه عبر أدوات سوسيولوجية دقيقة. في المقابل، ينظر بورديو إلى التنمية كمجال يُعيد إنتاج علاقات الهيمنة، ويعتبر أن أي تدخل تنموي يجب أن يُقرأ داخل شبكة السلطة والمعنى التي تشكّله.
2. موقع السوسيولوجي:
عند سيرنيا، السوسيولوجي هو خبير ميداني داخل المؤسسة، يساهم في تحسين البرامج من الداخل. أما بورديو، فيتموقع خارجيًا، ويُمارس دور الناقد الذي يُعرّي البُنى غير المرئية للسلطة، حتى وإن تم تقديمها باسم "التنمية" أو "الخير العام".
3. أدوات التحليل:
يُفضل سيرنيا أدوات ميدانية وظيفية، تُستخدم لتحسين فعالية المشاريع. أما بورديو، فيعتمد على مفاهيم نظرية معقدة (الحقل، الهيمنة الرمزية، رأس المال الرمزي...) لفهم ديناميات السيطرة والصراع داخل المجتمع.
4. أهداف التحليل:
الغاية عند سيرنيا هي التقليل من الأضرار الاجتماعية وتحقيق نتائج تنموية أفضل. أما عند بورديو، فالتحليل السوسيولوجي يُستخدم لفضح كيف تُستخدم مفاهيم مثل "النجاح" و"التنمية" كأدوات هيمنة ناعمة تُخفي علاقات القوة.
5. تصورات السلطة:
في تصور سيرنيا، السلطة يمكن ترويضها أخلاقيًا وتوجيهها نحو خدمة التنمية. بينما يراها بورديو أداة لإعادة إنتاج الامتيازات، حتى عندما تتلبس بخطاب إنساني أو تكنوقراطي، كما هو الحال مع تدخلات البنك الدولي.

ثالثًا: تطبيق مفاهيم بورديو على تدخلات البنك الدولي
من خلال المفاهيم البورديوية، يمكن إعادة قراءة تدخلات البنك الدولي من زاوية نقدية تكشف أبعاداً غير مرئية في الخطاب والممارسة:
⦁ الهيمنة الرمزية:
حين يُروّج البنك الدولي لمفاهيم معينة عن "التقدم" أو "النمو"، فإنه يُسهم في إعادة تشكيل المخيال الجماعي للمجتمعات، وفق تصور أحادي للحداثة.
⦁ رأس المال الثقافي:
الفاعلون المحليون – كالزعماء التقليديين، المعلمين، أو النساء – قد يمتلكون رأس مال ثقافي مشروع، لكنه غالباً ما يُهمّش أمام تصوّر تكنوقراطي للتنمية، يُعلي من قيمة الكفاءة التقنية على حساب المعنى والسياق.
⦁ تصادم الحقول:
عندما يتدخل البنك الدولي في مجتمع ما، فإنه لا يدخل فضاءً فارغاً، بل يتقاطع مع حقول قائمة (ثقافية، دينية، زراعية...)، مما يولّد توترات قد تُفضي إلى المقاومة أو التكيّف.
⦁ العنف الرمزي:
يظهر في فرض أدوات تقييم كمية، مثل مؤشرات الأداء أو الإنتاج، دون اعتبار للجوانب غير الملموسة كالهُوية أو الانتماء الثقافي، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل الرموز والمعاني المحلية.


رابعًا: دراسة حالة تطبيقية – قراءة تدخلات البنك الدولي من خلال بورديو وأمارتيا سن
لنفكر في كيفية تأثير التدخلات التنموية على حياة الناس من خلال المفاهيم التي ذكرناها سابقًا. دعونا نتخيل كيف يمكن لمفاهيم بورديو أن تساعدنا في فهم دور البنك الدولي في المجتمعات المحلية، سواء كان ذلك من خلال مشروعات التهجير القروي، أو مشاريع الإسكان الاجتماعي، أو إصلاحات في القطاع الزراعي. هذا لا يعني مجرد عرض خطط اقتصادية، بل يعني كيف تؤثر هذه التدخلات في هوية المجتمع، ثقافاته، وكيف يشعر الأفراد بحرية اتخاذ قراراتهم. ونحن هنا نضيف أيضًا منظور أمارتيا سن حول مفهوم "الحرية" التي يراها كقدرة للناس على اختيار ما يريدون بحرية، وهو ما لا نراه دائمًا في مشاريع التنمية التقليدية.
1. فرض تصورات خارجية للتنمية:
في غالب الأحيان، ما يراه البنك الدولي "تقدمًا" لا يتطابق مع مفهوم التقدم في عيون الناس الذين يعيشون في المجتمعات المحلية. إذا نظرنا إلى مشاريع مثل التهجير القروي في بعض الدول، سنجد أن هذه المشاريع تأتي محملة بتصورات خارجية حول "التحديث" و"التحضر". البنك الدولي قد يرى أن نقل الناس من القرى إلى المدن الحديثة يمثل قفزة نحو التقدم، لكن ما الذي يحدث للأشخاص الذين تُنتزع منهم حياتهم البسيطة؟ هؤلاء الأشخاص يتركون وراءهم أشياء ثمينة: العلاقات المجتمعية، القيم الثقافية، وعلاقة الناس بالأرض. هذه هي الهيمنة الرمزية التي يتحدث عنها بورديو؛ حيث يُفرض على السكان تصور معين لما يجب أن يكون عليه "الحياة الأفضل"، في حين أن "الحياة الأفضل" بالنسبة لهم قد تكون شيئًا مختلفًا تمامًا.
2. تصادم رأس المال الثقافي والاقتصادي:
المجتمعات المحلية تحمل في طياتها أنواعًا مختلفة من الرأسمال، مثل المعرفة الزراعية التقليدية، والتقاليد الاجتماعية التي تضمن تماسكها. لكن عندما تحل المشاريع التنموية ذات الطابع الاقتصادي البحت، مثل بناء المساكن أو المشروعات الصناعية، تظل هذه القيم الثقافية محجوزة على الهامش. يتم استبدال رأس المال الثقافي المحلي بما يُسمى "الرأسمال الاقتصادي" الذي يعكس قيم السوق والربحية. هذه العملية قد تجعل الأفراد يشعرون بأنهم فقدوا جزءًا من هويتهم، خاصة عندما يتم استبدال طرق حياتهم بأخرى لا تنتمي لهم.
3. التنمية من زاوية أمارتيا سن – الحرية كقدرة:
من المهم أن نتذكر أن التنمية ليست فقط عن بناء الطرق أو الجسور أو المدارس. التنمية الحقيقية، كما يقول أمارتيا سن، هي تلك التي تعزز من قدرة الأفراد على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم. أي أن التنمية لا تُقاس فقط بما تم بناؤه، بل بما يشعر الناس أنهم قادرون على فعله. هل يعطى الأفراد الفرصة لاختيار نوع الحياة التي يريدونها؟ أم أنهم فقط يُرغمون على قبول نموذج يأتي من الخارج؟ هنا تكمن المشكلة في بعض تدخلات البنك الدولي. فحين يتم نقل الناس من بيئاتهم الطبيعية إلى حياة جديدة لا يتماشون معها، يتم انتزاع منهم القدرة على اتخاذ قراراتهم بحرية.

النتائج والتوصيات – حين تلتقي المعرفة بالنقد لتصحيح مسار التنمية:
أولًا: نتائج المقارنة
أبرزت المقارنة بين المقاربتين السوسيولوجيتين لكل من مايكل سيرنيا وبيير بورديو مجموعة من النتائج المهمّة، التي يمكن أن تُسهم في إعادة التفكير في الطريقة التي تُصمَّم وتُنفَّذ بها المشاريع التنموية، خاصة في بلدان الجنوب.
⦁ التنمية ليست اقتصادًا فقط:
من الواضح أن كلا الباحثين يتفقان على ضرورة تجاوز الرؤية الاقتصادية الضيقة للتنمية. فبالنسبة لسيرنيا، لا يمكن عزل السياسات المالية عن آثارها الاجتماعية، فيما يذهب بورديو إلى أبعد من ذلك، مبرزًا كيف يمكن للأرقام والمؤشرات أن تُخفي علاقات هيمنة رمزية قد تُعاد إنتاجها باسم "النمو" و"النجاعة".
⦁ الموقع المؤسسي يُحدد زاوية الرؤية:
يعمل سيرنيا من داخل المؤسسة، باحثًا عن تحسين أدوات التنمية وتقليل آثارها الجانبية، في حين يقف بورديو في موقع نقدي من الخارج، متسائلًا عن منطق الهيمنة الكامن خلف تلك التدخلات. هذا الاختلاف لا يلغي أهمية أحد المنهجين، بل يُبرز الحاجة إلى توازن بين العمل الإصلاحي والتحليل النقدي.
⦁ الهيمنة الرمزية كعنصر خفي في التنمية:
ما تكشفه مقاربة بورديو هو أن التنمية، كما تُمارَس أحيانًا من قبل المؤسسات الكبرى، لا تأتي فقط بالتمويل أو البنية التحتية، بل ترافقها رموز، وخطابات، ومفاهيم تُفرض على المجتمعات، لتُصبح مع الوقت جزءًا من وعيها. وهو ما يُمكن اعتباره شكلاً من أشكال العنف الرمزي، الذي لا يُمارس بالجبر بل بالإقناع الخفي.
⦁ التحليل الاجتماعي ليس ترفًا بل ضرورة:
سواء من زاوية سيرنيا العملية، أو من مقاربة بورديو التفكيكية، فإن غياب التحليل الاجتماعي عن برامج التنمية يعني السير في طريق قد يبدو ناجحًا من حيث الشكل، لكنه يحمل بذور فشله من حيث الجوهر. التنمية الحقيقية لا تقوم إلا على فهم دقيق لبنية المجتمع، لنقاط قوته وهشاشته، ولموازين السلطة داخله.

ثانيًا: توصيات لتعزيز العلاقة بين التحليل السوسيولوجي وبرامج التنمية
انطلاقًا من هذه النتائج، يمكن اقتراح عدد من التوصيات التي قد تُسهم في جعل السياسات التنموية أكثر عدالة وفعالية:
⦁ دمج التحليل السوسيولوجي منذ المراحل الأولى للمشاريع
ينبغي ألا يُنظر إلى التحليل الاجتماعي باعتباره خطوة لاحقة أو مكملة، بل كجزء أساسي من هندسة المشاريع. هذا يقتضي استماعًا فعليًا للفاعلين المحليين، واستيعابًا لسياقاتهم الثقافية والاجتماعية.
⦁ استخدام الأدوات النظرية لبورديو كوسيلة لفهم أعمق
إن مفاهيم مثل الحقل، والعنف الرمزي، ورأس المال الرمزي، تُساعد على تفكيك الكثير من التصورات الجاهزة حول "التقدّم"، وتُفسّر أسباب مقاومة المجتمعات لبعض التدخلات التي قد تبدو "مفيدة" على المستوى الاقتصادي، لكنها مرفوضة على المستوى الثقافي أو الرمزي.
⦁ تعزيز المشاركة المجتمعية الفعلية
إن المجتمعات المحلية ليست متلقّيًا سلبيًا للتنمية، بل فاعلًا يجب الإنصات إليه. لا يتعلق الأمر فقط بالمشاركة الشكلية، بل بإشراك السكان في اتخاذ القرار، ومراقبة التنفيذ، وتقييم النتائج.
⦁ تحقيق توازن بين النجاعة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية
التنمية الناجحة لا تُقاس فقط بارتفاع الناتج المحلي أو بتشييد الطرق، بل بمدى شعور الناس بالكرامة، والتمكين، والانتماء. لهذا، من الضروري أن تراعي البرامج التنموية آثارها الاجتماعية، لا سيما على الفئات الهشة.
⦁ تكوين مستمر للعاملين في مجال التنمية
يجب أن يتلقى العاملون في المؤسسات التنموية تكوينًا لا يقتصر على الجوانب التقنية، بل يشمل أيضًا أدوات التحليل السوسيولوجي، بما يُمكّنهم من قراءة الواقع الاجتماعي بشكل نقدي، ومن تلافي القرارات التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية.

خاتمة: نحو تنمية إنسانية واعية بالبُعد الرمزي:
لقد أظهرت هذه المقارنة بين مقاربتي مايكل سيرنيا وبيير بورديو أن التنمية لا يمكن أن تُختزل في أرقام ومؤشرات اقتصادية. إنها عملية اجتماعية وثقافية بامتياز، تتقاطع فيها الرهانات الاقتصادية مع موازين السلطة والهيمنة، ومع الديناميات الرمزية التي تُشكّل المجتمعات من الداخل.
سيرنيا يدعو إلى تحسين الأداء من داخل المؤسسات، عبر اعتماد أدوات سوسيولوجية لفهم الواقع. أما بورديو، فيقدّم قراءة نقدية تُذكّرنا بأن كل مشروع تنموي يحمل في طياته تصوّرًا معيّنًا للعالم، وأن فرض هذا التصوّر دون مساءلة قد يؤدي إلى نتائج عكسية، مهما كانت النوايا حسنة.
إن دمج المقاربتين لا يعني التوفيق بين المتناقضات، بل السعي نحو مشروع تنموي أكثر وعيًا بالواقع، وأكثر احترامًا لتعقيده. مشروع يوازن بين الضرورات الاقتصادية والاعتبارات الاجتماعية، ويجعل من الإنسان لا مجرد مستفيد من التنمية، بل فاعلًا رئيسيًا فيها.

لائحة المراجع:
⦁ نور الدين لشكر، البنك الدولي: التنمية بين الخبرة والسيادة، قراءة في بعض مسارات التدخل بالبلدان النامية، حالة المغرب، مطبعة دار القلم.
Michael Cernea, ⦁ Putting People First: Sociological Variables in Rural Development
⦁ Pierre Bourdieu, Outline of a Theory of Practice, Cambridge University Press, 1977.
⦁ Pierre Bourdieu, The Logic of Practice, Stanford University Press, 1990.
⦁ Amartya Sen, Development as Freedom, Oxford University Press, 1999.
⦁ James Ferguson, The Anti-Politics Machine: Development, Depoliticization and Bureaucratic Power in Lesotho, University of Minnesota Press, 1994.



#أمل_المزكلدي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -سوسيولوجيا التنمية بين الخبرة والهيمنة الرمزية- دراسة مقارن ...


المزيد.....




- كان على وشك الحصول على الجنسية الأمريكية.. لحظة احتجاز طالب ...
- السعودية.. إطلاق منصة متكاملة لإصدار وتنظيم تصاريح الحج
- -إما ذكر أو أنثى-... المجر تقر تعديلًا دستوريًا يستهدف مزدوج ...
- تقرير: المملكة العربية السعودية تخطط لسداد ديون سوريا لدى ال ...
- ترامب يحذر إيران ويهدد بعواقب شديدة
- مؤتمر دولي في لندن لبحث أزمة السودان.. طموحات محدودة وسط تحذ ...
- الغارديان: إيران ترفض نقل مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى د ...
- الإعلام الإيراني يعلق على فيديو تدور أحداثه قرب سفارة طهران ...
- قاض أمريكي يأمر إدارة ترامب بعدم ترحيل طالب وناشط مؤيد للفلس ...
- المسيّرات الإستراتيجية.. تصعيد عسكري جديد في الذكرى الثانية ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أمل المزكلدي - -سوسيولوجيا التنمية بين الخبرة والهيمنة الرمزية- دراسة مقارنة لمنهجيات التحليل السوسيولوجي بين المنظور المؤسساتي ل مايكل سيرنيا والنقدي ل بيير بورديو