فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8310 - 2025 / 4 / 12 - 14:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليس من السهل الإفصاح بدقة عن ماهية مشروع الأنوار، وذلك لسببين: أولهما، أن عصر الأنوار هو عصر تتويج، وتلخيص، وتركيب وليس عصر تجديد راديكالي. ذلك أن أمهات الأفكار في هذا العصر لا تجد أصلها في القرن الثامن عشر، وحتى عندما لا تنحدر من العصر القديم، فهي تحمل بصمات القرون الوسطى السحيقة، وعصر النهضة والعصر الكلاسيكي.
وفي تناوله لعصر الأنوار كتب الفيلسوف الفرنسي تزفتان تودوروف (1939-2017)، تعريب حسن العمراني، لعصر الأنوار قدرة هائلة على امتصاص ومفصلة الآراء المتصارعة في الماضي. لهذا ما فتئ المؤرخون ينبهون إلى ضرورة تبديد بعض الأحكام السطحية المتداولة، والتأكيد على أن الأنوار عقلانية وتجريبية في نفس الآن، وهي وريثة ديكارت تمامًا كما هي وريثة جون لوك. إنها تحتضن القدامى والمحدثين، والكونيين وأنصار الخصوصية، مثلما أنها شغوفة بالتاريخ والأبدية، بالتفصيل والتجريد، بالطبيعة والفن، بالحرية والمساواة. ويتضح من رأيه المنشور قبل نحو ستة عشر عامًا في مجلة «الأزمنة الحديثة» المغربية،التي تعنى بشؤون الفكر والثقافة، أن العناصر قديمة، غير أن التأليف بينها جديد، فهي لم تضطلع بالترتيب بينها فحسب، بل إن خروج هذه الأفكار من الكتب إلى العالم الواقعي لم يتحقق إلا في زمن الأنوار.
وعن العائق الثاني يقول، إنه يتمثل في كون الفكر الأنواري يحمله عدد هائل من الأفراد، عوض أن يشعروا بالتوافق في ما بينهم، دخلوا في مناقشات حادة وعنيفة، من بلد إلى بلد أو حتى داخل البلد الواحد. وإن من شأن الزمان الذي يفصلنا أن يجسد، إلى حد ما، عاملًا مساعدًا لنا في عملية الفرز والغربلة: فخلافاتهم القديمة أثمرت مدارس فكرية لازالت معاركها إلى يومنا هذا. لذا حري بنا القول، إن عصر الأنوار كان عصر سجال أكثر منه عصر توافق وإجماع. نحن إزاء تعدد. يبدأ أننا نتعرف عليه بيسر على وجود ما يمكن تسميته بـ«مشروع الأنوار».
نلقى في أساس هذا المشروع ثلاث أفكار كبرى تقوم بإغنائه، عبر مقتضياتها العديدة، وهي: الاستقلال، الغائية الإنسانية لأعمالنا، وأخيرًا الكونية.
ولكي نوضح ذلك، سنعرض لبعض ما ناقشه في هذا الجانب.
تكمن السمة الأولى المميز للفكر الأنواري في تفضيل ما نختاره ونقرره بأنفسنا، على حساب ما تفرضه علينا سلطة خارجية. ولهذا التفصيل وجهين: أحدهما نقدي، والآخر بنّاء. إذ يتعين التخلص من أية وصاية تُفرض على البشر من الخارج والاهتداء بالقوانين التي تضبط المعايير والقواعد المرادة والمقررة من قبل البشر. فالتحرير والاستقلال لفضان يعنيان زمنين ضروريين لنفس الصيرورة، التي يقتضي الانخراط فيها التمتع بحرية الفحص والمساءلة والنقد والشك، مما ينزع طابع القداسة عن جميع المعتقدات والمؤسسات. النتيجة غير المباشرة لهذا الاختيار، لكنها حاسمة، هي التقييد الذي يطال طابع كل سلطة، وبموجبه تكون ملزمة بالتجانس مع الناس، أي أن تكون طبيعية لا خارقة. وعلى هذا النحو تنتج الأنوار عالمًا «نزع طابعه السحري»، يخضع مجموعة لذات القوانين الفيزيائية، أو يكشف، فيما يتصل بالمجتمعات الإنسانية نفس آليات السلوك.
ويستطرد تودوروف مشيرًا إلى أن الناس قبل الأنوار خضعوا لوصاية دينية. في المقام الأول، أصلها إذن سابق على المجتمع الحالي، يتحدث هنا عن التبعية وعن خضوع المجتمع أو الفرد إلى تعاليم تستمد شرعيتها الوحيدة من كونها منتسبة، من طرف تراث معين. إن ما ينبغي أن يوجه حياة الناس، ليس سلطة الماضي، وإنما هي مشاريعهم المستقبلية، وبالمقابل، كما تقول وجهة نظره، لا اعتراض على التجربة الدينية من حيث هي كذلك، ولا على فكرة التعالي، أو على هذا المذهب الأخلاقي الذي يقول هذا الدين أو ذاك، فالنقد موجه إلى بنية المجتمع، لا إلى محتوى العقائد. وعلى هذا يخرج الدين من الدولة دون أن يبرح قلب الفرد.
إن الإتجاه المهيمن على الأنوار لا يجد نفسه في الإلحاد بل في الدين الطبيعي، أو في الألوهية الطبيعية بصيغها المختلفة. وإذا كانت الأنوار تصف وتفحص العقائد التي يؤمن بها الناس، فإنها لا تقوم بذلك بغرض التشكيك والقدح في الأديان، وإنما بهدف إشاعة روح التسامح والدفاع عن حرية الأعتقاد.
فبعد أن تحقق للناس التحرر من نير الاستعباد، سيعين لأنفسهم قواعد ومعايير جديدة بواسطة وسائل إنسانية خالصة. فلم يعد هناك مكان للسحر والغيبيات. ويتضح له من هذا الاستنتاج، أن أول استقلال تم الحصول عليه هو ذلك الذي يتعلق بالمعرفة.فهذه الأخيرة، على حد قوله، تنطلق من مبدأ مقتضاه أنه لا توجد سلطة، مهما كان رسوخها ووضعها الاعتباري، يمكن أن تقع خارج النقد. ليس للمعرفة إلا مصدري: العقل والتجربة، وهما متاحان للجميع. وقد حظى العقل بالتشريف بوصفه أداة للمعرفة. وليس كباعثٍ للسلوك الإنساني، وغير خافٍ تعارضه مع الإيمان لا مع الأهواء التي تحررت بدورها من الإكراهات الأتيه من الخارج.
لا نزاع في أن مبدأ الاستقلال سيقلب حياة الفرد والمجتمعات على حد سواء. فالصراع من أجل حرية الاعتقاد، الذي يترك لكل إنسان الحق في اختيار دينه، ليس جديدًا، لكنه ينبغي أن يستأنف ويُواصل على الدوام. وهو بجد امتداده في المطالبة بحرية الرأي والتعبير والنشر. إن القبول بأن يكون الكائن الإنساني منبع قانونه، معناه أيضًا القبول به كما هو في كليته، وليس وفق ما ينبغي أن يكون. والحال أنه جسم وروح، هوى وعقل، شهوة وتأمل.
يحدث مطلب الاستقلال تحولًا عميقًا في المجتمعات السياسية، إنه يثمر في عصر الأنوار صورة أولى للعمل، ذلك أن أصحاب العديد من الأبحاث المنجزة بكامل الحرية، يجتهدون في إيصال نتائجها إلى حكام عرفوا بالتسامح حتى يتسنى لهولاء تعديل سياساتهم.
في مجتمع الأنوار تنزع كل القطاعات إلى أن تصبح علمانية، في الوقت الذي يظل فيه الأفراد متمسكين بإيمانهم. ومعروف أن هذا البرنامج لايهم فقط السلطة السياسية، بل يطال أيضًا العدالة: فلا ينزل العقاب إلا بمن اقترف جرمًا في حق المجتمع، وهنا يتعين تمييزه
عن الخطيئة التي تعتبر خطأ أخلاقيًا من المنظور الديني. وكذلك المدرسة، التي أسّست لتكون خارج سلطة الكنيسة، ولتصبح فضاءً مفتوحًا أمام الجميع. تنشر فيه الأنوار بصورة مجانبة والزامية في نفس الوقت. هذا علاوة على الصحف الدورية حيث تجد النقاشات العمومية مكانها. إضافة إلى الاقتصاد الذي ينبغي أن يتحرر من الإكراهات الاعتباطية، ويسمح للتدوال الحر للخيرات، كما أن يتأسس على قيمة العمل والمجهود الفردي، بدل أن يكون حقلًا مزدحمًا بالامتيازات التي تضرب بجذورها عميقًا في الماضي.
والموضوع الأنسب لمجموع هذه التحولات هو المدينة الكبيرة التي تشجع حرية الأفراد وتتيح لهم، في نفس الوقت فرصة التلاقي والدخول في سجالات عمومية.
وفي مقابل ذلك، يقول، لا شك إن الانتماء إلى النوع الإنساني، إلى الإنسانية الكونية، هو أكثر أهمية من الانتماء إلى هذا المجتمع أو ذاك. توجد الحرية إذن في قلب مطلب الكونية والمقدس، وهو المطلب الذي غادر تربة المقدس ورفات القديسين، ليجسد، من الآن فصاعدًا، في إطار «حقوق الإنسان» الذي حظي حديثًا بالاعتراف.
فإذا كان لكل البشر مجوعة من الحقوق المتماثلة، فإنهم، تبعًا لذلك، متساوون في الحق: طلب المساواة نابع من الكونية، وهو الذي يسمح بالدخول في معارك لازالت رحاها دائرة إلى الآن: فالنساء ينبغي أن يكن نظائر للرجال أمام القانون، مثلما أن يتعين إلغاء العبودية، وتجريم أي عمل من شأنه أن يسلب الإنسان حريته، كما يجب صيانه كرامة الفقراء والتابعين والمهمشين، والنظر إلى الأطفال بوصفهم أفرادًا.
لا مناص أن هذا التأكيد على الكونية الإنسانية يولد اهتمامًا لدى باقي المجتمعات. فليس بوسع المسافرين والعلماء أن يتوقفوا، بين عشية وضحاها، عن إطلاق الأحكام على الشعوب النائية بواسطة معايير مستمدة من ثقافتهم الخاصة. ومع ذلك، ما أن يستيقظ فضولهم حتى يتحصل عندهم الوعي بتعدد الأشكال التي يمكن أن تأخذها الحضارة، فيشرعون في مراكمة المعلومات والتحليلات التي تغير، مع الزمن، فكرتهم عن الإنسانية. نفس الشيء يقال عن التعددية في الزمن: فالماضي لا يعود تجسيدًا لفردوس مفقود أو خزانًا للأمثلة والعظات، بل يصبح تعاقبًا لحقب تاريخية، لكل واحد منها تماسكه وقيمه الخاصة. تتيح معرفة المجتمعات المختلفة عن مجتمع الملاحظ إمكانية أن يوجه هذا الأخير، صوب ذاته، نظرة غير ساذجة، فلا يقع في آفة الخلط بين تراثه والنظام الطبيعي للعالم.
ومتى أردنا أن نجسد سندًا في الفكر الأنواري، يُعيننا على تخطي الصعوبات، فإنه لا ينبغي أن نحتضن، كما هي، القضايا المعبر عنها في القرن الثامن عشر. ليس فحسب أن العالم تغير، ولكن لأن هذا الفكر، ليس أحاديًا، وإنما متعدد الوجوه، فنحن، بالأحرى، في حاجة إلى فعل يعيد تأسيس الأنوار، فيحتفظ بالموروث، ولكن بعد إخضاعه للفحص النقدي، عبر مواجهته الصريحة مع نتائجه المطلوبة أو غير المرغوب فيها. وبهذا الصنيع، لن تخون الأنوار، وإنما على العكس، سنبقى من خلال نقدها، أوفياء لها، قائمين على تطبيق تعاليمها.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟