علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 23:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في تحليل بنية الدولة العراقية الحديثة بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003، يتضح أن الطائفية لم تكن مجرّد مظهر ثقافي أو ديني، بل كانت أداة ممنهجة لإعادة تشكيل البنية الطبقية والاجتماعية، عبر إعادة توزيع السلطة والثروة على أسس طائفية وإثنية وليس طبقية أو وطنية. لقد مثّلت الطائفية، في هذا السياق، مشروعًا سياسيًا لإعادة إنتاج الهيمنة الإمبريالية والنيوليبرالية بوسائل محلية، يتم فيها تسليع الهويات الجماعية وتفكيك الوعي الطبقي.
ولفهم هذه الظاهرة على نحو أعمق، لا بدّ من العودة إلى جذور نشوء العصبيات الطائفية والقومية في العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1921، حيث واجهت الدولة تحديات جمّة في بناء هوية وطنية جامعة، في ظل التنوع الطائفي والديني والعرقي. وكثيرًا ما استغلت الأنظمة المتعاقبة هذه التعددية لتقسيم الشعب وتحويله إلى طوائف متناحرة، بدلًا من بناء وعي وطني طبقي موحّد. وكما يؤكد غسان سلامة، فإن “الدول التي تفتقر إلى هويات جامعة غالبًا ما تجد نفسها في مواجهة تصاعد العصبيات الطائفية والقبلية كأداة للتنظيم الاجتماعي، تُستخدم لصرف الأنظار عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية الجوهرية”¹.
غير أن الاحتلال الأميركي عام 2003 لم يكن مجرد تغيير سياسي، بل شكل لحظة تاريخية لإعادة هندسة المجتمع العراقي بالكامل على أسس طائفية وعرقية، برعاية مباشرة من القوى الخارجية. وكما تبيّن هيلين لاكنر، فإن المشروع الأميركي لم يكن عسكريًا فقط، بل كان مشروعًا لإعادة تشكيل الهوية الوطنية على أسس ما دون وطنية². وقد دعمت الولايات المتحدة أطرافًا معينة من الشيعة والأكراد في إطار ما سُمّي بـ”عملية بناء الديمقراطية”، لكنها في الحقيقة أسست لنظام محاصصة طائفية ألغى الشعب لصالح “المكوّنات”.
ومن خلال هذه السياسة، أُعيد تشكيل الدولة العراقية بما يخدم مصالح أوليغارشيا طائفية – إثنية جديدة، تتقاطع مصالحها مع رأس المال العالمي، وتعيد إنتاج التبعية، وتحول دون نشوء طبقة عاملة ذات وعي سياسي موحّد. وهو ما أكده شلومو أوزون بقوله إن “نجاح الاستراتيجية الغربية في العراق يكمن في تحويل مكوّنات الشعب إلى طوائف متصارعة، تمنع أي مشروع مقاومة موحد”³.
لقد تحولت الطائفية، بهذا المعنى، إلى لحظة من لحظات الصراع الطبقي في شكله المشوّه. وقد رأى مهدي عامل أن الدولة الطائفية ليست تعبيرًا عن تخلّف مجتمعي، بل هي شكل من أشكال الدولة التابعة، تعيد إنتاج التبعية عبر تفتيت المجتمع إلى طوائف، بما يعيق تكون الوعي الطبقي ويمنع نشوء مشروع تحرري موحد⁴. الطائفية إذًا، ليست “قدرًا تاريخيًا”، بل تقنية سلطوية تُستثمر لتوجيه السخط الشعبي نحو “عدو داخلي” وهمي: الشيعي في وعي السنّي، والسنّي في وعي الشيعي، والكردي في وعي العربي، والعكس.
وفي قلب هذه التقنية يتجلى العداء لإيران، لا بوصفه موقفًا سياسيًا نقديًا من سياسات الجمهورية الإسلامية، بل بوصفه أداة طائفية، تعيد إنتاج صورة “العدو الفارسي المجوسي”، امتدادًا لهوس قومي بعثي تغذيه الآلة الإعلامية الخليجية والغربية. وقد لاحظ فالح عبد الجبار أن الخطاب الطائفي في العراق بعد 2003 لم يولد من العدم، بل بُني على تراكمات ثقافية ومؤسساتية ساهم النظام السابق في ترسيخها⁵.
ويُسجّل أن هذا العداء يوجه نحو الشيعة العراقيين أكثر مما يوجّه نحو الدولة الإيرانية، في تعبير واضح عن كراهية طائفية مقنّعة، تتحول فيها “إيران” إلى مرآة تُسقَط عليها كل أزمات العراق من فقر وفساد واحتلال، في عملية إسقاط نفسي وجمعي تُنتج الكراهية بدل الوعي.
وقد لعب الإعلام الخليجي، لا سيما السعودي والإماراتي، دورًا حاسمًا في ترسيخ هذا العداء، من خلال ضخ كميات هائلة من الخطاب التحريضي، الذي يصور “الخطر الإيراني” بوصفه الخطر الأوحد. وقد لاحظ أيمن حسن في دراسته أن “الخطاب الطائفي يعمل كبنية شمولية تغلق كل إمكانيات التفكير خارج ثنائيات الهويّة، وتحاصر الفعل السياسي داخل قفص التمثيل الطائفي”⁶.
ومن المثير للسخرية أن حتى بعض الخطابات “المعارضة” – سواء بعثية أو إسلامية سنّية أو ليبرالية – تتبنى هذا العداء الطائفي لإيران، من داخل خندقها الطائفي الخاص، وليس من موقع طبقي أو تحرري. وهكذا نجد أن خطاب “رفض الهيمنة الإيرانية” يُستخدم لتبرير الاصطفاف مع الخليج أو مع الغرب، بينما تُغضّ الأنظار عن الهيمنة الأميركية – البريطانية – الخليجية الفعلية التي دمّرت العراق واستنزفته.
وهنا تطرح الماركسية سؤالًا جوهريًا: هل إيران هي التي جلبت الاحتلال؟ هل هي التي أسست نظام المحاصصة؟ هل هي التي منعت بناء الدولة؟ إن الإجابة الصادقة لا تبرّئ إيران من تدخلها، لكنها تعيد الصراع إلى مكانه الحقيقي: بين قوى إقليمية ودولية تتصارع على العراق، وأوليغارشيا داخلية تستثمر هذا الصراع، وطبقة عاملة مسحوقة غائبة عن المشهد.
وهذا ما يجعل الخطاب اليساري المعادي للطائفة الشيعية – وليس للسلطة الطائفية – خطأ قاتل. الشيعة في العراق ليسوا كتلة سلطوية واحدة، بل هم مكوّن اجتماعي واسع، يشكّل الفقراء غالبيته، وقد فُرضت عليهم قوى الإسلام السياسي قسرًا. بل إن أبرز ضحايا هذه القوى هم من الفقراء الشيعة أنفسهم، في مدن الثورة والبصرة والناصرية. وكما يلاحظ علي عبد الأمير، فإن الطائفية تمثل جهازًا أيديولوجيًا يخفي التناقض الطبقي، عبر تحويله إلى تناقض هويّاتي⁷.
وحين تُستبدل “أنا عامل” بـ”أنا شيعي” أو “أنا سني”، فإن الوعي الزائف يبلغ أقصى درجاته. ويشير هارفي مانفريد إلى أن “الطبقة العاملة لا تولد وعيها بشكل تلقائي، بل تُنتج هذا الوعي في سياق الصراع، الذي قد يكون مشوَّهًا بفعل الأيديولوجيا السائدة”⁸. لذلك فإن مهمة اليسار ليست الانخراط في هذا الصراع الطائفي، بل تفكيكه من الجذر، وكشف طبيعته الطبقية، وتوجيه الغضب الشعبي نحو العدو الحقيقي: المنظومة السياسية – الاقتصادية التي تنهب البلاد وتفتّت المجتمع.
وفي ظل غياب النقابات والأحزاب الثورية، وحرية التنظيم السياسي، يظهر الوعي الطائفي كبديل عن التعبير الطبقي، وتُغلق إمكانيات الفعل الجماعي الحقيقي. لذلك، فإن تفكيك الطائفية لا يكون بخطابات التعايش بين الطوائف، بل ببناء حركة ثورية جذرية، توحّد الفئات الشعبية المسحوقة حول برنامج طبقي تحرري، يهدف إلى تدمير النظام الطائفي – الريعي واستبداله بنظام ديمقراطي شعبي.
لقد أشار مهدي عامل إلى أن الطائفية لا تُفكّك إلا في سياق صراع سياسي – طبقي يُظهر للشعب أن عدوه ليس الطائفة الأخرى، بل السلطة التي توظف الطوائف لتكريس السيطرة والنهب والقمع⁹. وهذه هي المهمة التاريخية لليسار العراقي اليوم: أن يُعيد تعريف العدو، ويستعيد زمام المبادرة.
خاتمة
إنّ تفكيك الطائفية بوصفها أداة سياسية وأيديولوجية لا يمكن أن يتم دون تفكيك البنية الاقتصادية والاجتماعية التي تستند إليها. فالطائفية في العراق بعد 2003 لم تكن نتيجة طبيعية لتاريخ طويل من الصراعات “المذهبية”، كما يُراد لها أن تبدو، بل كانت تعبيرًا عن لحظة من لحظات إعادة إنتاج السيطرة الطبقية في إطار التبعية الإمبريالية. وبهذا، فإن العداء المفتعل تجاه إيران، حين يُفهم ضمن هذا السياق، يتجاوز مجرد الخصومة الجيوسياسية ليشكّل آلية لإعادة تشكيل وعي الجماهير وتوجيهه بعيدًا عن الأعداء الفعليين: الاحتلال، النهب، والأوليغارشيات الطائفية.
لقد ساهمت الطبقات الحاكمة، مدعومة بإعلام محلي وخارجي، في تحويل الكراهية الطائفية إلى نظام سياسي وثقافي مستقر، يُعيد إنتاج ذاته من خلال “العدو الفارسي”، و”التهديد الشيعي”، و”الطابور الخامس”. وفي هذا السياق، فإن أي مشروع تحرري لا يبدأ من نقد الطائفية كأداة للهيمنة، ولا يضع إعادة بناء الوعي الطبقي على رأس أولوياته، سيكون مجرد إعادة إنتاج للواقع ذاته بأقنعة مختلفة.
إن مهمة الماركسيين اليوم لا تكمن في “الاصطفاف” مع محور ضد آخر، بل في كشف زيف كل المحاور، وإعادة طرح الصراع على أسس طبقية واضحة. فمن دون تجاوز الانقسامات الطائفية والقومية، واستعادة الهوية الطبقية للشعب العراقي، سيظل هذا الأخير رهينة لصراعات زائفة، تُدار من خارج الحدود، وتُموَّل من بنوك النهب الغربي والخليجي.
وعليه، فإن فضح العداء الطائفي لإيران لا يعني تبرئة سياسات الجمهورية الإسلامية، بل يعني تحرير الوعي الجمعي من الاختزال الطائفي، وتوجيه البوصلة نحو العدو الحقيقي: الإمبريالية، والنيوليبرالية، والطغمة الطائفية الحاكمة. وهذا هو الشرط الأول لأي مشروع وطني، طبقي، تحرري، ومستقبلي.
⸻
الهوامش
1. غسان سلامة، المجتمع والدولة في العالم العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1995)، 58.
2. هيلين لاكنر، الولايات المتحدة والعراق: الأزمة والتدخل (لندن: دار النشر الأسترالية، 2010)، 99.
3. شلومو أوزون، الشرق الأوسط بعد الحروب (تل أبيب: دار الكتب، 2003)، 132.
4. مهدي عامل، في الدولة الطائفية (بيروت: دار الفارابي، 1990).
5. فالح عبد الجبار، الدولة والمجتمع المدني في العراق (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2009).
6. أيمن حسن، الطائفية في العراق: دراسة تحليلية (بغداد: دار الأندلس، 2012)، 75.
7. علي عبد الأمير، الطبقات العراقية: واقعها وتحدياتها (بغداد: منشورات الأكاديمية العربية، 2015)، 45.
8. Harvey Manfred, The Working Class and the Revolution: Marxist Reflections (London: Verso, 2002), 34.
9. مهدي عامل، في الدولة الطائفية، مرجع سابق.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟