علي حسين يوسف
(Ali Huseein Yousif)
الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 21:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إذا سلّمنا ـ أولا ـ بالمقولة:(الشر هو الأصل في الوجود، أما الخير فهو ما يحاول الإنسان الانسجام معه)، فإننا بإزاء تصور وجودي لا يرى العالم مكانًا مهيأً للسلام الفطري أو العدالة الطبيعية، بل يرى أن الوجود في جوهره صراع، فوضى، نقص، واندفاع أعمى، وأن الخير ليس سوى محاولة إنسانية لتنظيم هذا الاضطراب وتطويعه في قوالب مفهومة، قابلة للعيش والتشارك.
الشر، هنا، لا يُفهم بوصفه فعلاً أخلاقيا خاطئا فحسب، بل بوصفه حالة أولى، كتكوين سابق على أي ترتيب عقلاني: العنف الأعمى للطبيعة، الوحشية التي لا تميز، الصدفة التي تلد الألم والموت، الولادة القسرية، الشيخوخة، المرض، التحلل، الحاجة، الفقد، الحرب، الأنانية التي تتسرب في طبائع الكائنات، هذا هو (الشر الطبيعي)، وهو ليس مرفوضًا بقدر ما هو معطى لا فكاك منه.
من هذا المنطلق، الخير ليس (أصلاً)، بل مشروعا. إنه تدخل عقلاني - روحي - اجتماعي يقوم به الإنسان لإعطاء العالم وجهًا يمكن احتماله. الخير هو ما لا يأتي لو تُرك الوجود وشأنه. لذلك هو صعب، هش، دائم الانهيار، ويحتاج دومًا إلى تجديد وبناء. الخير ليس طبيعة، بل ثقافة. ليس دافعًا، بل مقاومة. إنه نوع من الجهد، من المقاومة المنظمة لما يُفترض أنه "الأصل": الفوضى، العنف، الخراب، النفي.
هذا التصور ينسجم مع فكر هيراقليطس الذي يرى الصراع أساسًا لكل الأشياء، ومع ما يراه شوبنهاور في "الإرادة العمياء" للوجود، ومع فهم فرويد لأن ما يُسمى الحضارة ليس إلا "قشرة" فوق طوفان من الرغبات العدوانية. كذلك، في الفكر الديني، هناك إشارات إلى أن الإنسان إنما جاء ليُكلف، ويُمتحن، ويقاوم، ويصلح. وهو ما يدل على أن العالم لم يُخلق خيّرًا تامًا، بل ليكون ساحة لصناعة الخير، أي أنه وُجد ناقصًا.
ولأن الشر هو الأصل، لا يحتاج إلى مبرر، ولا إلى فلسفة. إنه بداهة التكوين. أما الخير، فيحتاج إلى إقناع، وتربية، وتكرار، ومثال. الشر يحدث من تلقاء نفسه، أما الخير فلا بد من زرعه في النفس والعالم. لذلك، يقول دستويفسكي في أحد نصوصه: "الشر بسيط، أما الخير ففن معقد."
هكذا، يمكننا النظر إلى الإنسان لا بوصفه كائنًا خيّرًا بطبعه، بل بوصفه الكائن الوحيد الذي فُرض عليه أن يعي الشر، ثم يحاول تجاوزه، لا بإلغائه، بل بالتعايش معه دون أن يُستلب إليه. في هذا المسعى، يكون الخير مرادفًا للحرية: حرية الوعي ضد الدفع الغريزي، حرية التنظيم ضد العبث، حرية الرحمة ضد الغرائز البدائية.
إن الإنسان لا يعيش الخير، بل يصنعه. أما الشر، فهو ما يصنعه العالَم فيه إن لم يقاوم.
أما إذا انطلقنا من المقولة المضادة التي تقول بأن: "الخير هو الأصل في الوجود، أما الشر فهو شذوذ، وخروج عن المألوف، إنه خطأ، وسهو، وأنانية، وجهل"، فإننا نؤسس لنظرية في الأنطولوجيا الأخلاقية ترى الوجود منسجمًا، متوازنًا، يميل بطبيعته إلى التناسق والاكتمال، وأن ما يُسمى بالشر ليس إلا انقطاعًا في هذا النسيج، كسْرًا في لحن الوجود، لحظة نشاز في سيمفونية الكينونة.
أول ما يستدعيه هذا المنظور هو التفكير في البنية الطبيعية للوجود، لا كصراع، بل كنظام. من الذرة إلى المجرة، نجد انتظامًا يحكم العلاقات: قوانين تحكم الحركة، وتوازنات تحفظ الكينونة. فحتى ما يبدو لنا تدميرًا في الطبيعة (كالزلازل أو البراكين أو الموت)، هو – من زاوية أعمق – استمرار في دورة الحفاظ على الكل. وهذا يجعلنا نميل إلى تصور "الخير" كتناغم وانسجام ووحدة، لا كفعل أخلاقي مجرد.
ومن هنا، الشر يظهر كخرق لهذا الاتساق. الشر هو اللحظة التي ينفصل فيها الجزئي عن الكلي، حين تنفصل الذات عن علاقتها المتناغمة مع الآخر. الأنانية، إذًا، هي أول بذور الشر، لأنها تفترض مركزية للذات في نظامٍ لا يعترف بالمركز، بل بالربط والاتصال. والجهل هو الشر لأنه يقاطع مسار الانكشاف والحكمة؛ هو العمى في نظام يُفترض فيه النظر. أما الخطأ فهو الشر لأنه كسر للمعقول، انحراف عن الدقة، كأن تتوقف آلة في نظامٍ ميكانيكي متقن.
في هذا التصور، الشر ليس له وجود جوهري، بل هو نقص في الوجود. إنه ليس كيانًا قائمًا بذاته، بل هو نفي لشيء آخر: الجهل نفي للمعرفة، الكراهية نفي للمحبة، القسوة نفي للرحمة. وهذا ينسجم مع أطروحات فلسفية قديمة، كأفلاطون الذي يرى أن "الشر هو الجهل"، ومع القديس أوغسطينوس الذي يذهب إلى أن "الشر ليس كيانًا، بل هو فساد في الخير".
وبهذا المعنى، فإن الشر لا يُفهم على أنه "ند" للخير، بل كاختلال. فحين نتصور أن الشر مساوٍ للخير في الأصل، فإننا نقع في ثنائية قاتمة تجعل من الإنسان ساحة حرب أبدية لا تُحسم. أما إذا قلنا إن الخير هو الأصل، فإننا نُبقي على أمل الإصلاح، لأننا نؤمن أن ما فسد يمكن أن يُعاد إلى أصله، وأن ما ضلّ يمكن أن يهتدي.
الشر، إذا، ليس قوة مستقلة، بل لحظة من الغياب، فراغ في نسيج متماسك. وهو لهذا السبب لا يستمر، بل يتداعى، لأن الطبيعة – إذا تُركت لحالها – تميل إلى ترميم ذاتها، إلى إصلاح الشذوذ. والإنسان حين يُخطئ، يشعر بالذنب لا لأنه كُسر فقط، بل لأنه انحرف عن الأصل الذي يُفترض به أن يكونه. وهذا الشعور نفسه يدل على وجود "نظام أخلاقي فطري" في أعماق النفس، يحكم على الانحراف لا بوصفه اختيارًا مشروعًا، بل زللًا يجب الرجوع عنه.
وهكذا، فإننا نعيد تعريف الخير، لا كفعل متعالي فحسب، بل كطبيعة داخلية، كغريزة عليا، كنغمة أصلية في كيان الإنسان والعالم. والشر، في المقابل، هو ما يتعارض مع هذه النغمة. إننا لا نطلب الخير لسبب، بل نطلبه لأنه ما ينبغي أن يكون. أما الشر، فنبرره، ونتعذر له، ونتراجع عنه، ونتألم منه. ولو كان أصيلاً، لما احتجنا كل هذا الدفاع عند ارتكابه.
الخير، إذًا، هو القاعدة، هو القصد، هو التوق، هو الإيقاع الأول. والشر؟ خلل. والسهو؟ نسيان اللحن. والأنانية؟ انسحاب من المعنى. والجهل؟ إظلام لحقيقة كانت هناك.
والآن يمكننا صياغة رأي ثالث، أعمق وأكثر اتساقًا مع تعقيد الوجود وطبيعة الإنسان، رأي لا يضع الخير والشر على طرفي نقيض في معركة صفرية، بل ينظر إليهما بوصفهما مظهرين من مظاهر الوعي، تجليين لحركة الوجود وتطور الإدراك، دون أن يكون أحدهما "أصلًا" مطلقًا، ولا الآخر "طارئًا" بالضرورة.
هذا الرأي الثالث يقوم على أن الخير والشر ليسا جوهرين متضادين، بل هما نتيجتان لتفاعل الإنسان مع شرطه الوجودي: مع حاجاته، مع جهله، مع وعيه، مع حريته، مع ضعفه، ومع محاولته المستمرة لتفسير نفسه والعالم.
فالشر قد يظهر بوصفه "أول الفعل"، لكنه لا يكون شرًا إلا حين يُقاس على نظام أخلاقي لاحق. أي أن الإنسان البدائي حين قتل لم يكن شريرًا، بل كان يتصرف بدافع غريزي صرف، لا وعي فيه بالآخر كذات. أما الخير فليس فعلاً آليًا، بل نتيجة لتطور الحس الأخلاقي، لتعمق الشعور بالآخر، لتراكم التجربة، ولولادة الضمير. وبهذا المعنى، فالشر أسبق زمنيًا، والخير أعمق وجوديًا.
إنهما يمثلان مسار العقل من جهل البدء إلى نور الوعي.
هكذا نخرج من التعارض: الشر بداية البدء، والخير غاية النضج.
الشر هو الاندفاع الأعمى، الخير هو الرؤية. الشر هو النقص، الخير هو الامتلاء. ليسا متصارعين في جوهرهما، بل يمثلان درجتين في سلّم وعي الإنسان بذاته وبالعالم.
ففي أولى خطواته، كان الإنسان حيوانًا يتعلم، فكان الشر جزءًا من جهله، من صراعه من أجل البقاء، من أنانيته الطبيعية. لكنه حين بدأ يسأل، ويشعر، ويضع الآخر في موضع الذات، ظهرت الأخلاق، ونشأ الخير بوصفه قيمة، لا مجرّد فعل. الخير إذًا، هو ما لا يُمكن للإنسان أن يبدأ به، لكنه ما يسعى إليه إذا بلغ.
وعلى هذا، لا يكون أحدهما "الأصل" أو "العارض" في المطلق، بل كلٌّ منهما محطة في رحلة الوعي. الشر هو بدايات النار، والخير هو نورها حين تصير دفئًا لا حريقًا.
إن هذا الفهم لا يريح العقل فحسب، بل يجنبه الثنائية المُستنزفة، ويضعه في قلب المسار الوجودي: الإنسان ليس خيرًا ولا شرًا بطبعه، بل كائن يتحرك بين النقيضين، يختبر ويخفق وينضج، وكلما ارتقى وعيه، كلما تراجع الشر في داخله ليظهر كخطأ لا كخيار، وكقبح لا كقيمة.
فالخير ليس الأصل، ولا الشر، بل الحركة من الشر إلى الخير هي الأصل. تلك هي دراما الإنسان، وتلك هي روعته.
#علي_حسين_يوسف (هاشتاغ)
Ali_Huseein_Yousif#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟