أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد علي سليفاني - العراق وكوردستان: تجليات الدولة المأزومة في فضاء الجغرافيا المتصدعة















المزيد.....

العراق وكوردستان: تجليات الدولة المأزومة في فضاء الجغرافيا المتصدعة


خالد علي سليفاني
شاعر وكاتب ومترجم

(Khaled Ali Silevani)


الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 16:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تمهيد
منذ أن انبثقت الدولة العراقية الحديثة من رحم الخرائط الاستعمارية مطلع القرن العشرين، وهي تتأرجح بين طموح التأسيس ومعضلة التشظّي. لم يكن العراق دولة، بقدر ما كان حقلًا لتجريب مشاريع سلطوية مأزومة، تتلبّس لبوس الحداثة حينًا، وتنكفئ إلى غريزة الغلبة الطائفية أو القومية حينًا آخر. وفي شماله، حيث الجبل يعلو على الخضوع، تجسدت المفارقة الأكثر سطوعًا: كوردستان، بخصوصيتها الجغرافية والثقافية، صارت مرآةً مزدوجةً تعكس هشاشة المركز، وتُظهِر محاولات الهامش في التأسيس لذاته بوصفه كيانًا مأهولًا بالمقاومة والتوق إلى السيادة.

أولًا: الدولة العراقية وتناقضات النشأة
تكوّنت الدولة العراقية من تركيب قسري لكيانات إثنية وطائفية متباينة، جُمعت ضمن حدود لم تكن نتاج توافق اجتماعي، بل نتيجة معادلات استعمارية بريطانية – فرنسية. ومع غياب المشروع الوطني الجامع، سادت دولة النخبة المركزية، فاستُبدلت الفكرة السياسية بفكرة الغلبة، وحلّ منطق الإقصاء محلّ منطق المشاركة.

إن الدولة العراقية، في جوهرها، لم تخرج من عباءة «العشيرة الحاكمة»، وإن غلّفت نفسها بمفردات التحديث والمؤسسات. ولأنها لم تستوعب التعدد، بل قاومته، تحوّلت إلى جهاز قمعي يُرهب الأطراف، ويسعى إلى إذابة خصوصياتها في مركز متضخم.
ثانيًا: كوردستان العراق: الهامش الذي راكم الوعي والدم

لقد كانت كوردستان – في معاناتها وصمودها – مسرحًا لفلسفة المقاومة، لا بوصفها فعلًا مسلحًا وحسب، بل كمنظومة من الإصرار الوجودي على البقاء. فمن ثورة أيلول الكبرى عام 1961، حين سعى الكورد لتثبيت حقهم في الحكم الذاتي ضمن عراق مضطرب، إلى انتفاضة كولان عام 1976، التي جسّدت استمرارية الوعي التحرري الكوردي في وجه الخديعة المركزية، شكّلت هذه اللحظات التاريخية مشاهد حيّة في ملحمة الرفض العميق للذوبان القسري داخل دولة لا تعترف بتعدديتها.

ثم جاءت الثمانينيات، بما تحمله من ظلام كثيف، لتكون أكثر العقود فتكًا بالروح الكوردية: حملات التعريب الممنهج، قصف حلبجة بالكيماوي، عمليات الإبادة الجماعية المعروفة بـ"الأنفال"، والتي لم تكن مجرد جرائم عسكرية، بل محاولات فلسفية لمسح الوجود، لإبادة الذاكرة، وقطع العلاقة بين الإنسان وأرضه. ومع كل ذلك، لم ينكسر الكورد، بل ظلّوا متمسكين بالجبل، بالحقل، باللغة، وبالأمل.

ثم جاءت اللحظة الأكثر مأساوية – ولكنها أيضًا أكثر كشفًا – مع الهجرة المليونية عام 1991، عقب الانتفاضة الشعبية. افترش الملايين الثلج والجبال والحدود، هاربين من الجحيم، حاملين أطفالهم والكرامة في آنٍ واحد. لم تكن الهجرة مجرد نزوح، بل كانت إعلانًا صامتًا عن فشل الدولة العراقية في أن تكون وطنًا، وإثباتًا صارخًا على أن الإنسان الكوردي، حين يُسحق، لا يستسلم، بل يتحول إلى شهادة حيّة على معنى الكفاح ضد المحو. وحين أُتيحت الفرصة، بعد 2003، لممارسة الحكم الذاتي الحقيقي تحت خيمة الإقليم، دخلت كوردستان في طور جديد: طور بناء النموذج البديل، بما يحمل من طموح وأخطاء.

ثالثًا: بين حلم الدولة وحدود الجغرافيا
ما زالت كوردستان تتأرجح بين كونها جزءًا من العراق وبين سعيها المشروع نحو تقرير المصير. إلا أن واقعها محكوم بتقاطعات متشابكة: إرث الفساد العراقي الذي طال مؤسسات الإقليم، ضغوط الجوار الإقليمي، وانقسام البيت السياسي الكوردي نفسه.
وهنا، تظهر المفارقة الفلسفية: فـ"الحلم بالدولة" يتحول أحيانًا إلى إعادة إنتاج ذات البنية السلطوية التي كانت هدفًا لمناهضتها. لم تسلم كوردستان من المحاصصة، ولا من الاقتصاد الريعي، ولا من تشظي السلطة بين الجهات والأحزاب، ولكنها – على الرغم من ذلك – ظلت تحاول أن تكتب نصّها الخاص، ولو على هامش النص الأكبر.

رابعًا: القميص الأمريكي والطفل الذي عبر الجبل
في ربيع 1991، حين اختلط الجليد بالخوف، والهواء بصدى القصف، كنتُ – وأنا طفل صغير – واحدًا من أولئك الذين افترشوا الثلج على الحدود العراقية - التركية، ضمن الهجرة المليونية التي اندفعت من كوردستان هربًا من القتل بعد انتفاضة شعبية وأمل مخذول. لا زلت أذكر المشهد: طفل لا يحمل شيئًا سوى اسمه، برده، وذعر والدته. في إحدى لحظات التشظي تلك، سلّمني جندي أمريكي قميصًا عسكريًا ليحميني من البرد.
كان ذلك القميص أكبر من جسدي، لكنه احتواني. لم أفهم يومها معنى "الحماية الدولية"، ولا من هو هذا الجندي. لكني، مع الزمن، فهمت رمزية القميص: كان غطاءً لا ينتمي إلى الدولة التي كنتُ أحمل هويتها الورقية، بل من قوة خارجية جاءت لتُرمم ما فشلت فيه الجغرافيا السياسية.
ذلك القميص ما زال في الذاكرة، ليس كقطعة قماش، بل كدليل على أن الدولة التي من المفترض أن تحتويني، لم تكن هناك. تركتنا لنواجه الصقيع، والرصاص، والخوف، وحدنا. ومنذ تلك اللحظة، صار سؤال الدولة سؤالًا شخصيًا، لا نظريًا. لم أعد أبحث عن "وطن" كحدود، بل كمن يمنح القميص دون أن يسأل.

خاتمة ثانية: حين يتحوّل القميص إلى وطن
حين سلّمني الجندي الأمريكي قميصه العسكري، لم يكن يعرف أنه يسلّمني، في لحظة عابرة، معنى الدولة كما تمنيتها: دولة لا تسأل من أنت، ولا من أي قومية أو طائفة تنتمي، بل فقط: هل أنت بردان؟ خائف؟ مهدد؟ إذًا خذ هذا القميص، وابق حيًّا.
كان ذلك القميص دفءً مؤقتًا، لكنه كشف لي برودة الدولة التي كنت أحمل جنسيتها. فالدولة العراقية، لحظة امتحانها، لم تكن أمًا ولا مأوى، بل غابت أو شاركت في صناعة الكارثة. ومنذ تلك اللحظة، صار سؤال الدولة سؤالًا شخصيًا، لا نظريًا. لم أعد أبحث عن "وطن" كحدود، بل كمن يمنحك الأمان.

والآن، بعد عقود من تلك اللحظة، ما زلت أتساءل: هل يمكننا حقًا أن نبني دولة من رماد الهويات المجروحة؟ هل نستطيع أن ننتج وطنًا لا يحتاج أطفاله إلى قميص الجندي الأجنبي ليحميهم من شتاء بلادهم؟
ربما، حين نكفّ عن اعتبار الدولة جهازًا قسريًا، ونراها كـ علاقة أخلاقية بين الحاكم والمقهور، بين الجبل والمركز، بين الإنسان وظله في المرآة… حينها فقط، يمكن لطفل آخر على الحدود، ألا يحتاج إلى قميص أحد.



#خالد_علي_سليفاني (هاشتاغ)       Khaled_Ali_Silevani#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تغريد الإبداع أمام تهريج الجهلة
- إنتاج الغباء
- حين يشكر الكاتبُ الناشرَ: أزمة التقدير في عالم الكتب – تفكيك ...
- فساد بالتقسيط... حتى إشعار آخر!
- الشخصية الكوردية بين إرث الصراعات وغياب الرؤية الاستراتيجية
- وهم المجد ومجد الوهم
- التكوين الفلسفي للهوية الكوردية في كتاب -كوردستان القديمة-
- بين -حانة- الحداثة و-مانة- التراث
- سلاسل من حرير
- التاريخ بين السرديات المتباينة وإشكالية التزييف
- جدلية الحقيقة: بين الإدراك والواقع
- لا وجه له
- الاحتفال بين الهروب والتحدي: تساؤلات حول معنى الفرح في ظل ال ...
- دور المهرجانات السينمائية في دعم القضايا القومية والوطنية: د ...
- الأنظمة القمعية تسقط، لكن الفكر القمعي يبقى إرثًا متجذرًا
- سارع إلى تعلم السباكة قبل غيرك: متغيرات قادمة والمستقبل مجهو ...
- فلسفة السرد الروائي: الأخطاء التي تشوّه البنية الأدبية
- التفاهة: نظام بين التافه والأتفه
- بوصلة التيه
- الدكتاتوريات الصغيرة وسياسة الفصل الطبقي في المؤسسات الحكومي ...


المزيد.....




- أقدم غوريلا في العالم تحتفل بعيد ميلادها الـ68 عامًا.. شاهد ...
- السعودية تكشف 5 إجراءات قبل موسم الحج 2025 حفاظا على سلامة ا ...
- ترامب يتجاهل مصافحة زوجة وزير الصحة.. مشهد محرج خلال حدث ريا ...
- -تنذكر ما تنعاد-، صور من حرب لبنان الأهلية في الذكرى الـ50 ل ...
- قوة تدميرية غير مسبوقة.. واشنطن في طريقها لتطوير قنبلة ذرية ...
- الجزائر تعرب عن -احتجاجها الشديد- على حبس أحد موظفيها القنصل ...
- حماس: قصف الاحتلال مستشفى المعمداني جريمة حرب بغطاء أميركي
- الجزائر تحتج على توقيف فرنسا أحد موظفي قنصليتها
- طهران تعلن عن جولة جديدة وترامب يشيد بالمحادثات معها
- عاجل | مصادر طبية: 7 شهداء وعدد من الجرحى في قصف استهدف سيار ...


المزيد.....

- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق
- الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف / هاشم نعمة
- كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟ / محمد علي مقلد
- أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية / محمد علي مقلد
- النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان / زياد الزبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خالد علي سليفاني - العراق وكوردستان: تجليات الدولة المأزومة في فضاء الجغرافيا المتصدعة