أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامي عبد العال - الكتابة ... الرؤية والزمن















المزيد.....

الكتابة ... الرؤية والزمن


سامي عبد العال

الحوار المتمدن-العدد: 8309 - 2025 / 4 / 11 - 15:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


"إنَّ ما تكتبه قد يتّساقط أمامك كأوراق الخريف تحت أشجارٍ عارية الأغصان.."... هل هو ذنبٌ مَا لا يبرحُك حتى تراه؟ أهي لعنة المعرفة الآتية معنا نحن البشر عندما أكلنا من الشجرة المحرمةِ منذ سحيق الزمان؟! أم هو نسغٌ لحياةٍ عشناها عبر تجارب الآخرين وقد لامسنا الحقائق؟! بأية طريقةٍ تكون الكتابةُ وسيلةً لعالم لم يأتِ بعد؟!"

أحياناً يكون الواقعُ دعوةً طازجةً للجنون لا مساحةً نعيش داخلها وتعيش داخلنا. الحياة شذرات مُتناثرة من التجارب والخبرات بقدر ما تُثري وجودنا الإنساني. ليست كلُّ تفاصيل الحياة هي ما نعيش تحديداً، نحن نعيش المواقف التي نمتليء بها، بينما الفائت والعابر والراسب أكثر بكثير من ذلك. العيش هو العمق الذي نكونه عبر الزمن لا مجرد التواجُد. والزمن يكشف لنا في كل مرة: كمْ فاتنا من الحياة ما لم نُدركه من أول وهلةٍ. قُلْ لشخصٍ كمْ عشتَ من أوقات، سيقُول لك سنوات وسنوات، ولكنه راغب في المزيد!! قُلْ لآخر كم جربتَ من مواقف، سيؤكد جربت مراراً وتكراراً، سوى أنه يريد تجريباً لا ينقطع!! بل قد يتمنى الإثنان أنْ يعيشا في عصور أخرى.

مهولةٌ هي الأشياء المفقودة من وجودنا على مستوى الواقع والمعرفة والفكر. الحياه مثل المياه الجارية، لاندركها من خلال السطح إذْ تحمل أشياء كثيرةً وكثيرةً. وتنقل لمَنْ يرى صورةً بكون الأمواج هي جميع ما نشاهد. غير أنها مياه هادرةً دوّارة حدَ الإدهاش حاوية لرواسب شتى بعيدةٍ عن النظر. الحياة لا تتوقف كما نريد ولا تنتظر من فاعليها ما يرغبون حتى تجسد ما ترغب. ففي جميع الرغبات، ستجد أنت ما تدّعي وتبرر، ولكن الحياة ستدهشك على الدوام بالمفاجآت.

نحن كائنات إنسانية نُعطي جوانب العالم المعنى والحقيقة، ولكنه عالم لا يُعطينا سوى ما نشعُر به ونتفاعل معه. فأشكال الحياة التي نحياها ليست متماثلةً مع جميعِ البشر، إنّها معطيات خارج السيطرة. نختار من بينها الأقرب للاحتمال لا المحتوم بظروفٍ غير معروفةٍ، رغم أنَّ خداع السيطرة على الأشياء يظل مُهيمناً على عقولنا حتى الرمق الأخير. في سعي محموم للتعبير عن كياننا الهش، بينما الرثاء يلاحقنا نحن البشر من عصرٍ إلى آخر... لماذا لم نهيمن على حياتنا إلى هذه الدرجة المرغوبة أو تلك؟!

في هذا الاتجاه، ثمة مسافةٌ متباعدةٌ بيننا وبين الوصول إلى نقطة النهايةِ. لأنَّ المعاني المختلفة والأفعال الطارئة والأشياء الحادثة قضايا تجعل ثمة إمكانية مفتوجة على المجهول. وما أكثر بُعد الآخر وقربه بالوقت نفسه. تلك المفارقة الزمنية التي تحكم علاقتنا بمنْ نحن ومنْ ليس نحن.

السبب غاية في البساطة وهو: أننا نعجز عن أنْ نعيش حيوات الآخرين كما هم. أي أنك لا تستطيع إلاَّ أن تكون أنتً. أنت المتفرد حيث يواصل حلمُك قفزاً داخل ذاتك. ومع هذا أنت تظل تلاحق الأحلام طوال العمر آملاً أنْ يقفز إحداها إلى الخارج. فالحياة بصمةٌ لا تتكرر مرتين، حتى لو تزاملنا نحن البشر العيش معاً. كما أنها لا تعاش فعلياً إلاَّ مرة واحدة. هل يوجد إنسان عاش الحياة مرتين؟! إنَّ كل مَنْ لم يستطع مواكبة المصير مع سواه لم يكُن له أنْ يحيا وجودَ الآخر مثلما هو. إنهما حينئذ شخصان اثنان بالعدد الحسابي لا إمكانيتين إنسانيتين بالتبادل. ولذلك تتلقى حياتنا الخاصة صُوراً متعددة عبر أنماط البشر بأشكالٍّ غير محدودةٍ. بل نحن على موعد متوقّع في أية لحظة لتلقي هذه التجارب!

رغم ذلك، فمن المحتمل أنّ تجارب الناس المختلفين لا تذهب سُدى ولا تنتهي دون آثار باقيةٍ. هي تجارب تظل قرينة الثقافة. بالتحديد ترسب تجارب الآخرين في غربال الحياة التي تنقّي المُفيد والضروري. هكذا يصل الآخرون إلينا عبر وجودنا المشترك داخل الثقافة. لا أحد يفلت من هذا الغربال، فلا يستطيع أحدهم أنْ يقول عكس ما يحيا. لأنها لن تكتب ما يريده ولا تقول إلاّ ما حدَث وما لم يحدث بالفعل. ولذلك تمثل الثقافة مدونات وسرديات كبيرة بحجم المجتمع. بل هي التاريخ الذي تحقق وباتَ على مقربةٍ من ناصية وجودنا مشكلاً ماهيته. تجيب الثقافة عن سؤال: كيف نعيش نحن البشر هذا الحياة المتفلتة دوماً؟!

لم يكن متصوراً أنَّ ما يكتبه الكاتبُ- أي كاتب- سيراه يوماً ما رُئي العين. الكتابة هي المعنى الذي يجعل هناك سياقاً للقول، سياقاً للفعل والرؤية. هي فعل الزمن الآتي متخفياً عبر وجودنا. الكتابة تقول لنا إنَّ الإنسان الآخر معنا لا يبارحنا مهما تنصلنا من ذلك ومهما ابتعدنا بوجودنا قليلاً أو كثيراً. الكتابة هي قدرتنا على كشف الواقع واحتمال وجودنا فيما لا نراه. الكلمات تستبق إلى ما يمكن وجوده على المدى البعيد. ربما هي المعاني لمحاولة الإجابة عن أسئلة حياتيةٍ مُزمنةٍ. بأي صورة تأتي تفاصيل عالمنا الإنساني؟! وما آفاق الحياة بيننا نحن بني البشر؟.. ذلك هو الوضع المتأخر أمام أرجوحة الواقع والفكر، النظر والمجتمع التي لطالما أجهدت الفلاسفة. وهي الأرجوحة التي استهلكت ادمغتنا عبر تاريخ البحث عن فهم الأحداث والظواهر من حولنا. فجأةً تجد: أنّ ما تكتبه وستكتبه سيلاقيك في جميع التفاصيل. هل دماغ الإنسان مُفصلّة على واقع يستبقه إلى حيث كان هو؟

لكن الأمر غدا مقلوباً، فبدلاً من أن تنقل الكلمات واقعاً، أصبح الواقع في الزمن هو ما ينقل ويستبق إلى المستقبل. أهو تمويه الواقع عندما يمكنك رؤيته فيما بعد؟ هل ثمة ذاكرة في الحياة ممتدة تعطيك كشفاً بشكل تدريجي راميةً إلى المستقبل؟ هل الماضي يأتي من الغد لا من الأمس؟!

هناك مَنْ يكتُب إزاء مسألة من المسائل من خلال خبراته وتجاربة التي مرت. يحلل وينتقي ويشذب بقايا العالم وأحداثه، ثمّ يقدمها للقارئ كصورةٍ للحياة. والتاريخ قائم على الفكرة العامة التي تقول: إنّ أحداثاً وحيوات وأزمنة وعصوراً قد مرّت بنا نحن البشر: إذن كيف نكتبها؟!

هكذا تقدم الكتابة نفسها كممارسة فرديةٍ من بعيد. لا أحد يستطيع الزعم بأنه يكتب مع كتابة آخرين. أنْ تكتب يعني أنْ تختاز زاويةً خاصةً أنت من سيراها. ومن المستحيل الكتابة بواو الجماعة. كلُّ من يستعمل ( نحن و كلنا و عامة الناس) سيسقط فيما كان يتحسّب منه. هو الخطأ الذي يدفعه للتعميم دون جدوى. وأغلب منزلقات الكتابة أنْ تعمم!! دعْ القارئ هو من يشعر بظلال التعميم دون أن تستبقه أنت إليه. لو استبقت ظلال الاحداث ستسقط في الزمن مثل أوراق الخريف بالضبط.

إنَّ الكتابة حياة بمعناها الأوسع، ليست تقنية طرح أفكار عبر حروف منحوته من معاجم. فهي حصيلة التجارب بعد أنْ تحولت إلى سرد داخلي، بعد أن غدت نسغاً للواقع. ومن ثمَّ ليست الكتابة نسْخاً لما نمُر به من مواقف، ولكنها كشف، نبوءة، حس مختلط بجميع كيان الإنسان. أن تكتب مؤداه أن تندمج وتتوحد مع كل كيانك المترقب للأشياء المفاجأة. تماماً مثلما كان الإنسان يعيش في كهف خائفاً من حيوانات الغابة ومثلما أدرك بكل غرائزه أن كيفية العيش هي اللحظة التي ينجو فيها من افتراس محقق. الحروف في الكتابة هي سهامه التي اعتنى بها وثقفها حتى تصيب. والكلمات هي الكوخ الذي يوقد به ناراً للتدفئة وفنون العيش واشعال رغباته.

الكتابة استكشاف خطير يرمي إلى الغد، إنها التناقض الجوهري عندما يمر الواقع من خلال وجودنا الحُر. إذ كيف يكون الواقع واقعاً ثمَّ يوجد أمامنا في الزمن؟! إنه ما لم تكن الكتابة عملية إنسانية متواصلة نحو الغد، فلن تكون ذات مكانةٍ. والرمي إلى الغد لا يُقصد في الغالب لذاته، لأن عقل الإنسان متناغم مع واقع ما ومتنافر معه في الوقت عينه. العقل يعيش تجرية الحياة التي يفرزها عبر ما يحيا ويعيش. والعقل يعيش على خلاصة وجودنا. ليس كل ما هب ودب يدخل إلى عقولنا. إنه قد يأخذ الجانب الهادئ والحكيم والعاصف في الآن ذاته.

الكتابة تلتقط هذه المفارقة السائلة بلغة الفيلسوف البولندي زيجموند باومان. مفارقة أنْ تكتب وفي اللحظة نفسها لا تكتب لأناس معينين إلاّ بمقدار ما تراهم فيما هو آتٍ. إنهم سيتقبلون كلماته أو لا يتقبلون، إنهم سيجدون له مبرراً أو لا يجدون. ولكن في جميع الأحوال، ستتعقبهم الكتابة في الزمن كاشفةً لهم الطريق.

تسري هذه الفكرة على كافة الجوانب الإنسانية. ففي إطار السياسة والمجتمع على سبيل المثال، ستجد الواقع سبّاقاً لما قد نكتب. والمدهش أنه واقع متقدم على ما تمَّ انتقاده أو شجبه بالفعل. فالاستبداد وحركة المجتمعات لا ينتظران أفعال البشر (المواطنين فيما يقال)، لكونهما (أي الاستبداد وحركة المجتمعات) يرميان بثقلهما نحو المستقبل عادةً. كل استبداد يراهن على المساحة الحرة من وجودنا وإنْ كانت داخل كل فرد على حدةٍ. المهم أنَّ الاستبداد سيُشعرك بكونه أبعد من الإمساك به، حتى يعود بكل قوته. الاستبداد غدا أكثر شراسة، لا يدّخر وسعاً للانقضاض على فرائسه في أي مكان. وللاستبداد قدرة على إشغال تواقعاتنا القريبة باستمرار. وإذا كانت ثمة سمةٌ تميزه، فهو اللعب على الجوانب المتخيلة من وجودنا المشترك. لو قلت إن واقع الفساد أقل مما تمّ تحديده، فالمسألة ستحتاج إلى رؤية أخرى.

لأنَّ الكتابة في مثل هذه الحالات رغم فرادتها بالنسبة لكاتبٍ أو آخر، إلاَّ أنها مسئولية تنتظرنا جميعاً لتغيير الواقع. وكشف النقاب عن الحياة الحقيقية التي تليق بنا نحن بني الإنسان. وهذا ما يدُل على أنَّ القراءة لونٌ من ألوان الكتابة أيضاً. لأن الكتابة مؤثرة بالقدر الذي يجعلها عائدة داخل عملية التلقي والتواصل. كما أنَّ الحياة واحدة وأنَّ ما نكتبه نحن منها، ستأخذه هي وتصُوغه في اتجاهات عدةٍ بصور مختلفةٍ.



#سامي_عبد_العال (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تأويل النعال (8)
- تأويل النعال (7)
- تأويل النعال (6)
- فلسفة النعال (5)
- فلسفة النِعال (4)
- فلسفة النِعال (3)
- فلسفة النِعال (2)
- فلسفة النِعال (1)
- جنة الملعون
- اغراء المختلف
- الأشياءُ التي كأنَّها لم تكُن
- الإشباع الثقافي
- تجليات الروح الشعبي
- ترويض الطُقوس
- السعادةُ قهراً
- الناسُ ... هكذا هي الحياة
- التحرر من القطيع
- ذيلُ الفلسفةِ !!
- سلطة الحقيقة (5)
- سلطة الحقيقة (4)


المزيد.....




- أقدم غوريلا في العالم تحتفل بعيد ميلادها الـ68 عامًا.. شاهد ...
- السعودية تكشف 5 إجراءات قبل موسم الحج 2025 حفاظا على سلامة ا ...
- ترامب يتجاهل مصافحة زوجة وزير الصحة.. مشهد محرج خلال حدث ريا ...
- -تنذكر ما تنعاد-، صور من حرب لبنان الأهلية في الذكرى الـ50 ل ...
- قوة تدميرية غير مسبوقة.. واشنطن في طريقها لتطوير قنبلة ذرية ...
- الجزائر تعرب عن -احتجاجها الشديد- على حبس أحد موظفيها القنصل ...
- حماس: قصف الاحتلال مستشفى المعمداني جريمة حرب بغطاء أميركي
- الجزائر تحتج على توقيف فرنسا أحد موظفي قنصليتها
- طهران تعلن عن جولة جديدة وترامب يشيد بالمحادثات معها
- عاجل | مصادر طبية: 7 شهداء وعدد من الجرحى في قصف استهدف سيار ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سامي عبد العال - الكتابة ... الرؤية والزمن