|
هل هذه المجتمعات دون الحداثة وليست مؤهلة للنظام المعاصر: مراحل التطور
أحمد إبريهي علي
الحوار المتمدن-العدد: 8308 - 2025 / 4 / 10 - 08:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أستكمل في هذا العرض ما بدأته في المقالة السابقة لأعلن عن قناعتي بضرورة مراجعة فهمنا السائد للدول النامية من منظور مراحل التطور الإقتصادي والسياسي، واين هي الآن. التنظير محاولة إكتشاف النظام والوحدة خلف ظاهرالفوضى والكثرة، وهو معنى التجريد؛ وليس تأويل المعلوم بداهة، او شهادة في الواقع، لينسحم مع تصور مفترض يعاند الإختبار. والبحث الدائم عن الإنتظام، او النمط، الذي جُبِل عليه الإنسان يُعبّرعن حاجتة العميقة لرؤية الوجود معقولاً، مُتّسِقا، كي يشعر بالمعنى والكرامة. مسار التطور ومؤهلات الإجتياز للكشف عن المسار الممكن للتطور الإقتصادي وظيفة عملية إضافة على المعرفة المطلوبة لصلتها بما اشرنا إليه. إثناء إعدادي لكتاب "التصنيع والتحولات الإقتصادية الكبرى" تبيّن تماما كيف أن دراسة التصنيع في التاريخ الإقتصادي تقدم دليلا للنهوض والتطور. بدءاً من غرب اوربا، بريطانيا بالذات في الثورة الصناعية الأولى، ثم ألمانيا القرن التاسع عشر، من بروسيا إلى الوحدة الألمانية ... وما وصلت إليه عام 1913،عندما صارت الدولة الصناعية الأولى في اوربا والثانية في العالم بعملية لحاق بدولة الثورة الصناعية جادة وناجحة، وعلى سبيل المثال صنّعت بروسيا قاطرات السكك بعد عشر سنوات فقط من اول إستيراد لها؛ ودول الغرب الأوربي التي تأخرت في اللحاق، اسبانيا أبرزمثال؛ وبعدها شرق آسيا، اليابان المختلفة في تاريخها وثقافتها عن دول التصنيع الأولى؛ اليابان التي أنجزت الكثير وفنّدت المركزية الأوربية Eurocentrism ، عمليا، وأسقطت حتميات التطابق بين بلوغ تخوم التطور الإقتصادي والتقني ونمط معين دون غيره للإجتماع الإنساني والثقافة. ثم بقية شرق آسيا الجسورة الواثقة وصولا إلى الصين التي أصبحت قاطرة النمو الإقتصادي في العالم. ثمة مصنفات شائعة لمستويات التطور الإقتصادي منها ما تعتمد معيارالدخل للفرد، الوجه الآخر لإنتاجية العمل، وتُبوّب الدول في مجموعات كبيرة بموجبه: عام 2025 تُعرّف الدول بمتوسط الدخل للفرد عام 2023 بالدولار الأمريكي ؛ الدول الأوطا دخلا 1145 فأدنى؛ ومتوسطة الدخل في الشريحة الدنيا بين 1146 و 4515 ؛ ومتوسطة الدخل في الشريحة العليا بين 4516 و 14005 ؛ وعالية الدخل أكثر من 14006. وعند الرجوع إلى موقع البنك الدولي نجد متوسط الدخل للفرد لتلك المجموعات لأقرب دولار: واطئة الدخل 901 ؛ متوسطة الدخل في الشريحة الدنيا 2416 ؛ متوسطة الدخل في الشريحة العليا 10451؛ وفئة الدخل الأعلى 48753 ؛ والمتوسط العالمي 13170 ؛ الولايات المتحدة الأمريكية 82769 ؛ الصين 12614 ؛ العراق 5565 ؛ مصر 3457 ؛ السعودية 32094 . الدخل المبين، آنفا، من تحويل متوسط الدخل للفرد بسعر الصرف الإعتيادي بين الدولار والعملة الوطنية. لكن الأسعار تختلف من دولة لأخرى في نفس السنة ولا يُعبّر سعر الصرف الرسمي عن ذلك الإختلاف، ولذا أعتمدت طريقة أخرى خلاصتها تعديل مستويات الأسعار بمعاملات لتكون السلع والخدمات لجميع الدول مقيمة بأسعار الولايات المتحدة ألأمريكية، وهذه تسمى تعادل القوة الشرائية. ولهذا تتغير متوسطات الدخل للفرد بدولارات متعادلة القوة الشرائية لتصبح للصين 24569 ؛ ومصر 18525 ؛ والعراق 14107. هذا المقياس إعتمدناه في المقالة السابقة وسوف نعتمده تاليا، في هذه المقالة، بموجبه صارت الصين الدولة الأكبر في حجم الدخل تليها الولايات المتحدة الأمريكية. عدا تصنيف الدول تبعا للدخل هناك معايير أخرى منها درجة التصنيع: الفئة الأدنى تسمى نامية وحسب؛ وفوقها التي في طور التصنيع ؛ وأعلاها المُصنّعة ويأتي ذلك التدرج تبعا لمتوسط القيمة المضافة في الصناعة التحويلية للفرد، وتصنيف فرعي حسب مستوى التكنولوجيا في الصناعة التحويلية. وهناك تصنيف آخر للدول :الأقل تطوراً؛ النامية؛ المتطورة. وتوجد مصنفات أخرى تلائم موضوعات البحث. أما الماركسية فتعتمد مفهوم نمط الإنتاج سيأتي، والتطور تعاقب لأنماط الإنتاج، اللاحق أعلى من السابق في التقنيات، وتنظيم عملية الإنتاج، والسياق الإجتماعي والإطار القانوني، ومضمون العلاقة بين المالكين ومن لا يملك وتوزيع نائج العمل بين الطرفين، والتصرف بفائض العملية الإنتاجية. يُعرّف نمط الإنتاج، لدى ماركس بقوى الإنتاج، العمل والأدوات والمواد الأولية، وعلاقات الإنتاج؛ والأخيرة بنى إجتماعية تُنظّم العلاقة بين الناس في إنتاج السلع، وأهم ما في تلك العلاقة حقوق الملكية وما يتصل بها مثل توزيع الناتج. أما نمط الإنتاج الرأسمالي فالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج من خصائصه، والطبقة المالكة تستخلص فائض القيمة، وهوالفرق بين قيمة وقت العمل والوقت الضروري لإعادة إنتاج قوة العمل الذي يعبر عنه الأجر، لمراكمة رأس المال. والسوق من مقتضبات هذا النمط حيث تُبادل السلع وتُسعّر إذ لا بد من التحقق، التعيّن، النقدي لقيمة العمل المضمرة في السلع، وايضا من شروطه العمل الأجري وله سوق حيث تعرض خدمة العمل وتطلب مثل السلع. ومن لوازم هذا النمط الإطار السياسي الذي يتخذ شكل الدولة الحاكمة لحيز من الجعرافية البشرية، والنظام القانوني الذي يكتنف حقوق الملكية والإلتزامات التعاقدية وتكوين وإدارة منظمات الأعمال كلها ضرورية لوجود ودوام علاقات الإنتاج الراسمالية. وطالما يُعرّف نمط الإنتاج ليس فقط بالعلاقة بين المالك ومن لا يملك، بل أيضا بقوى الإنتاج إذن تقترن الرأسمالية بمستوى معين لتطور تلك القوى وليس دونه. ولذا فالرأسمالية بالمضمون الدقيق بصفتها نظاما إقتصاديا للكل الإجتماعي جاءت مع الثورة الصناعية. أما راٍس المال بذاته فهو موجود من قبل لكنه صار سائدا متحكما وتزايد توظيفه في عمليات الإنتاج والصناعة. وسميت القرون الثلاثة السابقة للثورة الصناعية، في اوربا الغربية، راسمالية تجارية أو ثورة تجارية او توسع تجاري . ويفهم من ماركس في كتابه رأس المال أن نظام المصنع الذي يعتمد المكائن Machinery دون العدد اليدوية Tools من مميزات ذلك النمط. وقد شرح الفرق بملاحظة دقيقة بأن العدة اليدوية تشتغل بقدرة العامل بينما الماكنة تشتغل بقدرتها. ومن هذه المقارنة يريد بيان أن العامل زمن الصناعة الحِرَفية كان يدير عملية العمل؛ بينما في نظام المصنع، بعد الثورة الصناعية، صار يدار من الماكنة. وعندما توضع هذه المماثلة في السياق العام لتنظير ماركس تصبح سيطرة مالكي رأس المال على القيمة وجها آخر للسيطرة التقنية على العمل. ماركس ذكر رأس المال في الجزء الأول 2210 مرة، منها إثنان فقط بمعنى الرأسمالية أي النزعة أو المذهب او نمط سلوك سائد Capitalism، والباقي لرأس المال بذاتهCapital او لمالكه Capitalist أو رأسمالية الصفة للعملية او نمط الإنتاج Capitalistic . في الجزء الأول الصفحة 412 يقول في عهد الرأسمالية تصبح الثروة الإجتماعية بدرجة متزايدة للذين يستطيعون الإستحواذ على عمل الآخرين غير المدفوع أي غير المعوض بقيمته، ويقصد بهذا فائض القيمة المذكور آنفا. وفي الصفحة 419 يشير إلى "مقالة في العمل والتجارة" وهو مؤلف نشره Cunningham عام 1770 يطلب فيه خفض اجور العمال البريطانيين لتكون مثل نظيرتها في فرنسا وهولندا، وفي نظر ماركس أن الكاتب، بمطلبه ذاك، فضح السرالأعمق لروح الرأسمالية الإنكليزية. وفي الجزء الثالث ذكر رأس المال 7262 مرة بالدلالات التي بيّنا؛ منها وردت الرأسمالية ثلاث مرات فقط. في الصفحة 154 يرى أن التلازم بين زيادة فائض القيمة وهبوط معدل الربح خاصية لنمو الإنتاجية في الراسمالية. ولهذه العلاقة نظير في علم الإقتصاد المعتاد، النيوكلاسيكي، إذ تتناقص الإنتاجية الحدية لرأس المال، وهي في نفس الوقت عائده، مع زيادة راس المال للعمل وهذه ليست بعيدة عن فكرة زيادة التركيب العضوي لرأس المال لدى ماركس. وفي الصفحة 156 وردت الرأسمالية في تحليل فائض الإنتاج حيث نقص الإستهلاك لا يسمح بإستيعابه وعند ماركس، منطقيا، نتيجة لتوزيع الدخل بلغة صعبة. وقد فسّر الكلاسيك، ايضا، دورة الأعمال والكساد بفائض الإنتاج نتيجة لنقص الإستهلاك، ومنهم مالثوس على نحو واضح، وإستلهم كينز هذه الفكرة عندما أصر على تفسير البطالة وتعطل الطاقة الإنتاجية بنقص الطلب الكلي. وفي الصفحة 268 جاءت الرأسمالية في معرض الحديث عن الشركات المساهمة والتناقض بين الطبيعة الإجتماعية للإنتاج والملكية الخاصة. ماركس في نمط الإنتاج الرأسمالي لا يشترط عدم وجود وفاعلية المُلّاك العقاريين بل اشار إلى التناحر بين الإرستقراطيين والمدافعين عن الصناعة في البرلمان البريطاني عند مناقشة قوانين الذرة ذات العلاقة بالأجر واوضاع الفقراء، وهذه معروفة في التاريخ لها صلة بالجدل حول إستيراد الغذاء وربط ريكاردو بين الغذاء وأجر العامل ونمو السكان ... وخلافه مع مالثوس. لكن ماركس يقول أن البرجوازية هيمنت على البرلمان آنذاك أو أصبحت يدها عليا أو متحكمة. وماركس لم أفهم منه أن الرأسمالية لم تكن، في ومنه، إلاّ في بريطانيا بل ذكر في الصفحة (6) عند تقديمه للطبعة الألمانية. مثلما أن الفيزيائي يدرس الظاهرة او العلاقة في نمطها النقي الذي لم يضطرب بمؤثر طارئ، وإن لم يتمكن يدرسها في المختبر كي يسيطر تماما على التجربة، كذلك هو أتخذ من إقتصاد إنكلترا مرجعا واقعيا لموضوعه، نمط الإنتاج الراسمالي، من اجل التنظير. عندي ليس في فهم ماركس لنمط الإنتاج الرأسمالي ما يسوّغ وصف الدول النامية المعاصرة ما قبل رأسمالية لأن متوسط الدخل للفرد أو إنتاجية العمل فيها أدنى من الغرب او الدول المتقدمة. لأن نمط الإنتاج الرأسمالي الواقعي الذي جرّده ماركس نظريا كان يضم الكثير من العاملين غير الأجراء وأصحاب اموال من غير الرأسماليين الصناعيين وخصائص الإقتصاد آنذاك تجاوزتها الدول النامية في القرن الحادي والعشرين ومنها قبل ذلك وبعضها حتى في النصف الأول من القرن العشرين. ومتى ثبت أن الذين يعملون لحسابهم الخاص في الدول النامية أعلى نسبة من مجموع القوى العاملة مقارنة بنظرائهم غرب اوربا في القرن التاسع عشر أو النصف الأول من القرن العشرين. ومن جهة قوى الإنتاج إستُخدِمَ محرك جيمس واط في القطار الناقل للركاب اول مرة عام 1830 على نطاق محدود في إنكلترا، وانتشر تدريجيا فيما بعد. ولم يعتمد في السفن قبل عام 1850. وتوفرت بيانات عن مديات إستخدام المحرك في الصناعة وكانت تدريجية وفي البداية محدودة، وأواخر القرن التاسع عشر وصلت اضعاف مضاعفة عما كانت عليه منتصف القرن. والكهرباء لم تعرف سوى على نطاق ضيق قبل إختراع تسلا للتيار المتناوب في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. الدول النامية لا تختلف عن المتقدمة نوعيا في الوقت الحاضر فقد وصلتها كل منتجات التكنولوجيا من الدول المتقدمة. الفلاح العراقي او المصري ... يتعامل مع نفس المكننة الزراعية المعروفة في كل مكان؛ وتعارف الناس على ذات المكائن الصناعية، وينتقلون بذات الوسائل، ويُعالَجون بنفس الأدوية. الطلبة في كل العالم يتعلمون بمناهج متماثلة تماما، والإدارة في الحكومات والشركات متشابهة والمحاسبة موحدة بمعايير دولية. ولا تختلف مكونات وتسهيلات المنزل للفئات متوسطة الدخل بين دولة وأخرى. واجهزة الإعلام والإتصالات ... وسواها. فأين هذه المجتمعات ما قبل الحداثة أو ما قبل الرأسمالية. هي إختلافات في مسائل تندرج ضمن الثقافة دون الحضارة، فهل من الضروري أن يتخلى هذا المجتمع أو ذاك عن زيه في الثياب وغطاء الرأس، أو صيغة عقد الزواج وتقاليد حياته الأسرية، ولغة صلاته أو ايام صيامه كي تُرفَع عنه صفة ماقبل الرأسمالية او ماقبل الحداثة. اليست هذه مركزية اوربية Eurocentrism ننتقدها ونتبناها بحماس أشد من اهلها. وضع هلر Heller, Henry (2011) : The birth of capitalism في المقدمة ( الصفحة 4) عنوانا، يشخص الإلتباس المضمر عند حوارنا حول مشكلات المشرق في السياسة والإقتصاد من منظور التطور، وهو الإقتصادوية والمركزية الأوربية Economism and Eurocentrism . ننتقد المركزية الأوربية ولم نتمكن في كثير من الأحيان التحرر منها، ونتبرأ من المبالغة في الشرط الإقتصادي للدولة المعاصرة وفي نفس الوقت نتجنب النظر في التاريخ، كي نرى المصاديق الإقتصادية والإجتماعية هناك التي عرّفت نمط الإنتاج الرأسمالي يوم كانت أوربا لا تزال ريفية، والكثير من الأطفال في سن التعليم الأبتدائي خارج الدراسة، وبالكاد تتحول اوربا الغربية من فحم الخشب إلى الفحم الحجري في الصناعة، وجيمس واط لم يضع اللمسات الأخيرة على محركه البخاري بعد. لكنهم اوربيون يختلفون عنا نحن لم نزل ما قبل ...، وما يجري وجرى في بلادنا لأننا ما قبل ومرادفاتها. قراءة التنظير بمعزل عن التاريخ سبب الإشكال، لأن النظرية مجردة بطبيعة بنائها، ولاداء وظيقتها التحليلية لا تفهم دلالتها دون مقابل موضوعي. وأقتطف من heller هذه الفقرة المطلولة (صفحة 22) فقد وجدتها تتفق مع قناعاتي بأن لم يعد مكان في المشرق وآسيا كلها والعالم لما يسمى ما قبل راسمالي أو شبه راسمالي " ... الميول والنزعات الرأسمالية كانت حاضرة في تطور قوى الإنتاج خلال الفترة ما قبل الرأسمالية ليس فقط في غرب أوربا بل في الصين والهند والشرق الأوسط. مصادفات تاريخية – سياسية وإجتماعية – حددت ظهورالرأسمالية أولا في أوربا دون آسيا ... ومن تلك المصادفات، او العوارض، قوة الدولة في آسيا،ولاحقا آثار التدخل الأجنبي بضمنه تطفل الكولنيالية والإمبريالية الغربية لإعاقة التطور الراسمالي...". كما اؤيد التساؤل الوجيه لماذا لم تبدأ الثورة الصناعية او الرأسمالية في العراق نهاية العصر العصر العباسي ألأول لأن مقدماتها كانت حاضرة. مقارنات من بيانات Maddison كان نمو الإقتصاد بطيئا أقرب إلى الركود قبل الثورة الصناعية، في أوربا الغربية معدل النمو السنوي لمتوسط الدخل للفرد عُشْر الواحد بالمئة تقريبا 0.13 % بين عامي 1000 و 1820. وفي العالم يكاد يقترب من الصفر 0.05 % لنفس المدة. واختلف الأمر كثيراً فيما بعد بين عامي 1820 و 1950 إذ إرتفع النمو السنوي في أوربا الغربية إلى 1% وفي العالم 0.9 %. وبين عامي 1960 و 2023 كان معدل النمو السنوي لمتوسط الدخل للفرد في دول الإتحاد الأوربي 2.2 % ، وفي المانيا 2 % . ولعموم الدول النامية 3.1 % وللفئة متوسطة الدخل من الدول النامية 3.2 %. نلاحظ نمو دخل الفرد في الدول النامية أعلى منه في المتقدمة. وهو قانون عام يؤيده تحليل بيانات دول العالم إكتشفه المؤرخ الإقتصادي Alexander Gerschenkron بين عامي 1947 و1951 ومفاده أن الدولة الإدنى تطورا عندما تباشر التصنيع لا تسلك ذات المسار للدول التي سبقتها، لأنها تنتفع من منجزات التقدم تأخذها جاهزة، وكانت تجربة روسيا في الصناعة من بين إهتماماته. وهو الذي أشاع فكرة مزايا التخلف ومنه أن معدل النمو يرتبط عكسيا بمستوى الوضع الإبتدائي، اي ان فرصة التطور للمتخلف تتزايد طرديا مع عمق تخلفه. وأرى لولا هذه النمط، القانون، الذي إكتشفه غيرشنكرون لما تقاربت بلدان ومناطق العالم حضاريا مع الزمن. وهذا القانون صحيح على صعيد المجتمعات الصغيرة والأسر إذ نرى كثيرا من المتفوقين في المعرفة والتجارة والسياسة ينحدرون من أسر لم يكن لأجيالها السابقة أو التي قبلها باع في هذه المجالات. ومن المتوقع مثل أي نمط في الميدان الإجتماعي تشذ عنه الكثير من الوقائع، وقد لا يظهر لمدة من الزمن لكن مصداقيته باقية. ومن تجلياته الصعود السريع لشرق آىسيا في الصناعة والعمران وغيرها من ميادين التنافس في عصرنا. من دراسة Crafts (1993) عن النمو البريطاني يظهر معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 1 % سنويا في بريطانيا بين 1760- 1801، وللمدة اللاحقة حتى عام 1899 تفاوت معدل النمو بين 1.9 % و 2.5 % ، وقمة النمو في القرن التاسع عشر كانت في وسطه. ومن مصادر أخرى وجدنا نمو الصادرات البريطانية 4.4 % سنويا للمدة 1820 – 1870 ما يدل على إرتباط النمو الإقتصادي هناك بالصادرات، وقد تكررت هذه العلاقة لا حقا في تجارب التصنيع الألمانية واليابانية وشرق آسيا بما فيها الصين. وفي بريطانيا وهي التي إتخذها ماركس نموجا لنمط الإنتاج الرأسمالي، بقيت نسبة الإستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي واطئة بين 1760 و 1913 أعلى ما وصلت إليه 9.4 % للفترة 1831- 1860 . ونعرف في هذه الفترة إنتشرت السكك الحديد في أوربا كلها وتسارع إستخدام المحرك البخاري في الصناعة إضافة على السفن. وللتعرف على مستوى التطور بمعيار التعليم وجدنا من (Zinkina, Julia, et al , 2016 ) عام 1870 نسبة الإنخراط في التعليم الإبتدائي في السويد وفرنسا وسويسرا وكذلك الولايات المتحدة تجاوزت 70% ؛ لكنها في بريطانيا 49 % ؛ وفي إيطاليا 29 % ؛ وهولندا 59% وفي اسبانيا والبرتغال واليونان 42 % ، 13 % ، 20 %. جميع الدول النامية الآن أعلى من هذه المعدلات، واغلبيتها الساحقة فوق 90 %. إستنادا إلى هذه المعطيات كيف نستطيع وصف أية دولة نامية في القرن الحادي والعشرين بما قبل الحداثة أو ما قبل الرأسمالية. وبريطانيا في القرن التاسع عشر لا شك لدى ماركس او غيره أنها مثال للحداثة والرأسمالية وقد إطلعنا على جوانب كثيرة عن وضعها آنذاك. أما القول بأن دولنا تحتاج عشرات السنين الأخرى كي نصل إلى الحداثة الأوربية والرأسمالية، هذا كلام محير، اليس التاريخ مختبر النظرية، وهل ما أنجزته أوربا لم يصلنا بعد في تعليمنا وصحتنا والإدارة والتنظيم ومنتجات الصناعة ووسائل الإنتاج وآدابهم والفلسفة و... ام ماذا. تغير بنية الإنتاج والتشغيل في سياق النمو في التنمية الإقتصادية يتكرر دائما وعلى نحو منتظم نمط من التغيرات البنيوية ومنها خاصة: تزايد نسبة العاملين في الصناعة، وحصتها من الناتج، مع تزايد متوسط الدخل للفرد في مقابل العكس للزراعة؛ وبعد إجتياز الإقتصاد نقطة تحول أخرى يتسارع نمو التشغيل في الخدمات وحصتها من الناتج المحلي. ومنذ سيعينات القرن العشرين تسارع التحول نحو الخدمات لجميع الدول بمختلف مستويات إنتاجية العمل أو متوسط الدخل للفرد. وذلك من نتائج التماثل في اساليب العيش في الدول المتقدمة وبقية العالم، وإرتفاع نسبة الأنفاق العام إلى الناتج وهي الآن في الدول النامية، على الأقل، أعلى مما كانت في اوربا أواخر القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين. ولذا صارت النسبة المرتفعة للعاملين في الخدمات دليلا على إجتياز الدول النامية جميعها لعتبة الحداثة، مما لا يصح مع هذه الخاصية وصفها بما قبل، هي جميعا حديثة ومستوفية للشروط التقنية والتنظيمية لنظام الإقتصاد الحديث او نمط الأنتاج الرأسمالي. قد نرى إستثناءات عن هذا التعميم لعدد قليل من الدول الفقيرة أو جيوب ضمن بقية الدول. لكن تلك الوقائع المنحرفة عن النمط لا تكفي دليلا للتمسك بوصف الدول النامية بما قبل النظام المعاصر. ولأستكمل ما بدأته في المقالة السابقة أقارن الدول النامية عام 2023 بالمملكة المتحدة وفرنسا وبلجيكا والمانيا عام 1960 في الدخل ومؤشرات أخرى. حيث لا أحد يقول أن هذه الدول الأربع لم تكن نماذج للرأسمالية. متوسط الدخل للفرد محول إلى دولارات عام 2021 متعادلة القوة الشرائية وتفاوتها بين الدول الأربع كان ضيقا، ادناها 83 % دخلا من اعلاها، وأخترت الأدنى لمقارنة الدخل، وإبين متوسط الدخل للفرد في المجموعة الدولية أو الدولة النامية منسوبا إلى نظيره في الدولة المتقدمة عام 1960 كلاهما بدولارات 2021 متعادلة القوة الشرائية. دول امريكا اللاتينية والكاريبي عدا عالية الدخل 126 % ؛ شرق آسيا والمحيط الهادي عدا عالية الدخل 129 % ؛ الدول متوسطة الدخل في الشريحة العليا 139 % . وبعد إستبعاد الدول التي يقل سكان الواحدة منها عن 500 الف نسمة والدول المتقدمة وجدنا 57 دولة نامية عام 2023 أعلى مما كانت عليه الدولة المتقدمة بمقياس الدخل للفرد. وتسع دول اخرى أدناها 84 % مما كانت عليه الدولة المتقدمة منها العراق. المقياس الثاني العمق المالي نستدل عليه بنسبة النقود بالتعريف الواسع إلى الناتج المحلي الإجمالي والعلاقة الطردية بين العمق المالي والتقدم الإقتصادي معروفة. وجدنا 74 دولة نامية يزيد عمقها المالي عن بريطانيا عام 1960. وعشر دول اخرى لا يقل عمقها المالي عن 83 % مما كانت عليه بريطانيا. وبمقياس الكهرباء توجد 67 دولة نامية إرتفع متوسط إستهلاك الكهرباء للفرد فيها عام 2014 ، لا تتوفر بيانات شاملة لسنة احدث، عما كانت عليه تلك الدول المتقدمة عام 1960 . وثلاث دول أخرى 83% واكثر منها العراق. الخدمات عدد الدول التي توفرت عنها بيانات 159 دولة عام 2023 يزيد سكان الواحدة منها عن نصف مليون نسمة. مجموع سكانها 7.790 مليار نسمة، ومحموع سكان العالم 8.062 مليار نسمة. متوسط دخل الفرد بالأسعار الجارية بدولارات متعادلة القوة الشرائية 23100 دولار والمتوسط العالمي 22837 ؛ متوسط النسبة الموزونة بالدخل للعاملين في الخدمات 61.1 % من مجموع العاملين، والنسبة الموزونة بسكان الدول 49.2 % ، والمتوسط العالمي 50.2 %. ندرس الإرتباط بين متوسط الدخل للفرد ونسبة العاملين في الخدمات، والإرتباط الموجب بين صفر وواحد صحيح والسالب بين صفر وسالب واحد صحيح. كان الإرتباط 0.34 للدول واطئة الدخل اعلاها الهند متوسط الدخل للفرد فيها 10200 دولار جاري متعادل القوة الشرائية؛ وفي الدول التي تليها وأعلى منها دخلا بعدد 53 أيضا، ينخفض الإرتباط إلى 0.22 ، متوسط الدخل للفرد عند اعلاها 35200 دولار. أما المجموعة الأخيرة الأعلى دخلا فالإرتباط 0.47 ؛ ولجميع الدول كان الأرتباط 0.7 . ولهذه النتيجة دلالة على ان الإرتباط في الإتجاه العام وليس فما بين التغيرات الموضعية. المتوسط البسيط لنسبة العاملين في الخدمات إلى مجموع العاملين في المجموعة العليا 72.7 % والتي تمثل في جزء منها إقتصاد ما بعد الصناعة وهي مجموعة ليست متجانسة منها دول ريعية مثل السعودية والكويت، واخرى دول نامية في الفئة العليا متوسطة الدخل والباقي متقدمة. ويفهم من هذه البيانات ان إنزياح الإقتصاد نحو الخدمات بعيدا عن الأنتاج السلعي سابقا لأوانه حتى في الدول المتقدمة التي يضمها صنف ما بعد الصناعة؛ وقد تترتب على هذا النمط من التطور نتائج سلبية فيما بعد. منها إنحباس كثير من الدول فيما يسمى فخ الدخل المتوسط،أي تعجز عن اللحاق بفئة الدول المتقدمة. وفي الدول المتقدمة تتعمق خصائص الأمْوَلة الزائدة والإنحسار الصناعي؛ فتكون الأصول المالية اربعة أمثال الناتج او اكثر خاصة في الدول المتقدمة مثل اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، والناهضة ذات العمق المالي مثل الصين. وقد تزايدت أصول المؤسسات المالية بأسرع من نمو الناتج وبالمتوسط العالمي إرتفعت نسبتها إلى الناتج المحلي من 310 % عام 2002 إلى 458 % عام 2023. وبنية الناتج ذاتها لا تبدو مناسبة في الدول المتقدمة حيث مساحة الخدمات بين اربع إلى خمس امثال مساحة مجموع الزراعة والصناعة التحويلية بدلالة القوى العاملة والقيم المضافة. الدول النامية مصدرة للسلع الصناعية نشير إلى مرادفات التقدم الصناعي للدول النامية بنسبة صادرات سلع الصناعة التحويلية من مجموع صادراتها: 86 % من مجموع صادرات مجموعة دول شرق آسيا والمحيط الهادي بإستبعاد عالية الدخل منها وهي نسبة مرتفعة قياسا بحصة الصناعة التحويلية من مجموع الصادرات السلعية. و64 % من صادرات الهند ؛ و 75 % من صادرات المغرب ؛ 78 % من صادرات المكسيك ؛ 76 % من صادرات رومانيا. و50 % من صادرات دول أمريكا اللاتينية والكاريبي بإستبعاد عالية الدخل منها؛ و 73 % من صادرات الدول النامية متوسط الدخل بمجموعها. لقد غادر العالم ذلك الزمن الذي توصف فيه الدول النامية بأنها تصدر مواد خام زراعية وإستخراجية وتستورد سلع مُصنّعة وتُبخَس في عملية التبادل مع الدول المتقدمة. في أبحاث منشورة للكاتب عالجت بيانات صادرات العالم منذ عام 1965 وجدت أن أسعار سلع قطاع التعدين والإستخراج تزايدت باكثر من ضعف معدل نمو أسعار صادرات السلع الصناعية وهذه لم تتجاوز الصادرات الزراعية في وتيرة نمو أسعارها. الإنفتاح التجاري كان سريعا في الدول النامية بمجموعها زادت نسبة صادراتها من السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي من 10 % عام 1960 إلى 26 % عام 2022 ، فوصلت إلى ما كانت عليه الدول عالية الدخل عام 2005. هذه ليست تغيرات فحسب بل تحولات تتطلب إعادة التحليل بصفة مستمرة دون الإحتفاظ بإستنتاجات دراسات قديمة لفهم مجريات الحاضر. تلك المقارنات لا تغفل تعريف نمط الإنتاج الرأسمالي وأنه لا يقتصر على قوى الإنتاج وتجلياتها في المؤشرات آنفا. لكن الأسواق وحقوق الملكية والعمل المأجور ... وسواها حاضرة وكافية لإنسجام المفهوم مع تعريفه الواقعي. نشير ان الدول الريعية لا بد أن تشذ في بنية الإنتاج والتشغيل عن النمط العام تبعا للثقل النسبي للمورد الريعي. لكن هذا لا يعني أن الإقتصاد الريعي ما قبل رأسمالي، لأن الريع ذاته نتيجة الإندماج بنظام الإقتصاد في العالم، والذي إختلف جذريا عما كان عليه قبل سبعينات القرن العشرين.
#أحمد_إبريهي_علي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدول النامية الآن وأوربا القرن التاسع عشر: لمحة في بيانات إ
...
-
المسلمون ونزاع الهويات: رأي على هامش الأحداث
-
النفط ومستقبل الوقود الأحفوري
-
المشاريع العامة والتجهيزات: خلل في التنظيم والإدارة
-
الواجب الأول في السياسة تأكيد إستقلال وسيادة العراق
-
إعادة تنظيم أجهزة الدولة في العراق
-
التمويل الحكومي للقطاع الخاص: مصارف التنمية في ضوء التجربة ا
...
-
الإ ئتمان والخدمات المصرفية للمالية العامة وإعادة تنظيم المص
...
-
الإستثمار العام وفجوة البنى التحتية في العراق
-
عود على بدء: الإحتياطي الفدرالي لم يُذكَر في قرار مجلس الأمن
...
-
لا بد من تأكيد حق العراق في إدارة إحتياطياته الدولية بحرية ت
...
-
إيضاح حول مقال إستلام إيرادات النفط
-
العراق لم يعد مُلزَما بإستلام إيرادات النفط في الإحتياطي الف
...
-
ملاحظة حول النفط والغاز والقانون المنتظر
-
التحرك السريع لحماية الأموال العامة
-
الفشل السياسي في العراق أساسه عميق وشامل
-
ملاحظة حول الإصلاح المالي في العراق
-
العملة الأجنبية في العراق والتصرف بها: بعض الحساب الإقتصادي
-
الإشتباه بين التعويم وتغير سعر الصرف
-
نافذة بيع العملة الأجنبية: ثانيا
المزيد.....
-
أقدم غوريلا في العالم تحتفل بعيد ميلادها الـ68 عامًا.. شاهد
...
-
السعودية تكشف 5 إجراءات قبل موسم الحج 2025 حفاظا على سلامة ا
...
-
ترامب يتجاهل مصافحة زوجة وزير الصحة.. مشهد محرج خلال حدث ريا
...
-
-تنذكر ما تنعاد-، صور من حرب لبنان الأهلية في الذكرى الـ50 ل
...
-
قوة تدميرية غير مسبوقة.. واشنطن في طريقها لتطوير قنبلة ذرية
...
-
الجزائر تعرب عن -احتجاجها الشديد- على حبس أحد موظفيها القنصل
...
-
حماس: قصف الاحتلال مستشفى المعمداني جريمة حرب بغطاء أميركي
-
الجزائر تحتج على توقيف فرنسا أحد موظفي قنصليتها
-
طهران تعلن عن جولة جديدة وترامب يشيد بالمحادثات معها
-
عاجل | مصادر طبية: 7 شهداء وعدد من الجرحى في قصف استهدف سيار
...
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|