أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - مشروع محمد عابد الجابري: قراءة نقدية في تفكيك التراث وبناء العقل العربي














المزيد.....

مشروع محمد عابد الجابري: قراءة نقدية في تفكيك التراث وبناء العقل العربي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8307 - 2025 / 4 / 9 - 12:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

يُمثّل مشروع محمد عابد الجابري واحدًا من أكثر المشاريع الفكرية تأثيرًا في الفكر العربي المعاصر، لما انطوى عليه من محاولة طموحة لإعادة بناء العقل العربي على أسس عقلانية نقدية. وقد تجلى هذا المشروع في سلسلة من الكتب التي تُشكّل بمجموعها ما يمكن تسميته بـ"ثلاثية العقل العربي": تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي. وقد رافق هذه السلسلة قدر كبير من الجدل العلمي والفكري، لما احتوته من طروحات جذرية، تتحدى التصورات التقليدية للتراث، وتسعى إلى قراءة عربية حديثة لعلاقة العقل العربي بالسلطة والمعرفة والدين.

إن الجابري انطلق من فرضية مركزية مفادها أن الأزمة التي تعاني منها المجتمعات العربية تكمن في "خلل بنيوي" في العقل العربي، ناتج عن تراكبات معرفية متضاربة لم يتم غربلتها ولا نقدها. ولذا دعا إلى "نقد العقل العربي" على طريقة كانط، ولكن بروح تراثية من الداخل، تنطلق من مكوناته لا من خارجها. وهذا ما دفعه إلى تقسيم التراث إلى ثلاثة أنماط معرفية: البيان (الممثل في الفقه والكلام)، والبرهان (المستمد من الفلسفة والمنطق الأرسطي)، والعرفان (المنسوب إلى التصوف والإشراق)، معتبرًا أن هيمنة النمطين البياني والعرفاني عطلت إمكانات العقل النقدي في الحضارة الإسلامية، فيما النمط البرهاني ظل مقموعًا ومهمشًا.

لكن القراءة النقدية لمشروع الجابري تقتضي التوقف عند عدد من الإشكالات الكبرى التي تعتري رؤيته، سواء على مستوى المنهج أو المضامين أو النتائج. أول هذه الإشكالات يكمن في نزعة التعميم التي وقع فيها الجابري، حين اختزل تاريخًا فكريًا طويلًا ومعقدًا في تصنيفات ثلاثية متجمدة، تُسقط التنوع الداخلي والتفاعلات المعرفية الغنية بين هذه التيارات. كما أن موقفه الحاد من التصوف، باعتباره تجليًا للعقل "اللاعقلاني"، تجاهل الأبعاد الروحية والفلسفية العميقة التي لعبت دورًا حيويًا في بلورة هوية إسلامية إنسانية شاملة.

ومن زاوية منهجية، ورغم إعلان الجابري اعتماده على المنهج البنيوي، إلا أن تطبيقه للبنيوية بدا انتقائيًا وغير صارم، مما أوقع مشروعه في نوع من المفارقة بين المنهج المُعلن والممارسة التحليلية الفعلية. كذلك فإن محاولته "توطين الحداثة" من خلال التراث بدت أحيانًا أسيرة ثنائية قسرية بين الأصالة والمعاصرة، دون أن يقدم تصورًا متماسكًا لمفهوم "الحداثة العربية" بوصفها مشروعًا معرفيًا مستقلًا ومفتوحًا على إمكانات متعددة.

أما على الصعيد الإيديولوجي، فقد سعى الجابري إلى بناء عقل عربي "حداثي" قادر على دخول العصر، لكنه ربط هذا العقل بمفاهيم العقلانية الغربية، مما أوقعه – دون أن يصرح بذلك – في منطق التبعية المعرفية ذاتها التي كان يحاول نقدها. ورغم محاولته الاستناد إلى ابن رشد كرمز للعقلانية العربية، فإن قراءته له كانت أحيانًا أقرب إلى "إسقاط الحاضر على الماضي"، حيث تم تأويل الرشدية وفقًا لمفاهيم الحداثة الأوروبية أكثر من كونها تجربة فكرية أصيلة ومتعددة الأبعاد.

ومع ذلك، فإن الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن مشروع الجابري قد نجح – وإن جزئيًا – في إعادة طرح الأسئلة الكبرى المتعلقة بالهوية والعقل والسلطة والمعرفة في الثقافة العربية، كما ساهم في تحفيز أجيال كاملة من الباحثين على مساءلة التراث بدلًا من تقديسه أو إلغائه. فالجابري لم يكن مجرد ناقد للتراث، بل كان مفكرًا يسعى إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الذات العربية وماضيها، في محاولة لصياغة مشروع نهضوي عقلاني، وإن شابه الكثير من القصور والجدل.

ختامًا، يمكن القول إن مشروع محمد عابد الجابري، بكل ما فيه من طموحات وتناقضات، يمثل علامة فارقة في الفكر العربي الحديث، جدير بالتأمل والنقد والتطوير. لا باعتباره "حلًا نهائيًا"، بل كخطوة جريئة في مسار طويل من التحرر من هيمنة التراث المغلق والانفتاح على إمكانات جديدة لصياغة فكر عربي نقدي، يتجاوز ثنائيات الماضي والحاضر، ويصنع مستقبله على قاعدة الوعي والتجدد.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حروب بلا رصاص: الإعلام في زمن الخوارزميات والواقع المزيف
- تفكيك المقدس: العقل الفلسفي في مواجهة الإيمان المسيحي في الف ...
- ما بعد الهيمنة : قراءة في خرائط النظام العالمي الجديد
- صراع العمالقة : الولايات المتحدة والصين ... إعادة رسم خرائط ...
- نظرية المعرفة عند ابن رشد: العقل، التجربة، والتأويل الفلسفي
- من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي: التحولات الفلسفية للسلطة
- الوعي المقيد والوعي الحر: قراءة في أنماط التصديق الدوغمائي و ...
- فاطمة الفهرية: سيدة العلم التي شيدت أول جامعة في التاريخ
- جدلية السلطة والفكر: قراءة موسوعية في تطور الأفكار السياسية ...
- المنطق الرياضي: حجر الأساس للعقلانية والاستدلال في عصر الذكا ...
- مارتن لوثر وثورة الفكر: التداعيات الفلسفية للإصلاح الديني عل ...
- الفلسفات المادية الأوروبية: أزمات جوهرية وتحديات مستقبلية في ...
- ما بعد العلمانية: تحولات المفهوم ومآلاته الفلسفية
- جون لوك: ثورة فكرية غيرت مسار الفلسفة والسياسة
- العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى
- سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان
- تحولات السلطة والفكر: رحلة الفلسفة السياسية الأوروبية من ميك ...
- العلمانية الإنسانية: يوتوبيا زائفة أم أزمة وجودية؟
- حماس بين التصنيفات الدولية: جدلية المقاومة والإرهاب في ميزان ...
- الحرية بين وهم الحداثة وسلطة الخوارزميات: من التنوير إلى الا ...


المزيد.....




- الدفاع الروسية: قوات كييف استهدفت بنى الطاقة 8 مرات في 24 سا ...
- نواف سلام يبحث مع أبو الغيط الوضع في لبنان والمنطقة
- ليبيا.. حرائق غامضة تلتهم 40 منزلا في مدينة الأصابعة خلال 3 ...
- رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام يصل إلى دمشق حيث سيلتقي بال ...
- -يجب علينا تخيُّل العالم ما بعد الولايات المتحدة- - الغارديا ...
- الجزائر تمهل 12 موظفا في سفارة فرنسا 48 ساعة لمغادرة أراضيها ...
- -ديب سيك - ذكيّ ولكن بحدود... روبوت الدردشة الصيني مقيّد بضو ...
- انخفاض تعداد سكان اليابان إلى أدنى مستوى منذ عام 1950
- جدل في الكنيست حول مصر.. وخبير يعلق: كوهين أحد أدوات الهجوم ...
- وزير خارجية فرنسا يدعو لفرض -أشد العقوبات- على روسيا


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - مشروع محمد عابد الجابري: قراءة نقدية في تفكيك التراث وبناء العقل العربي