|
قضية مارين لوبان: كيف يدمر “الديمقراطيون” الديمقراطية
آلان وودز
(Alan Woods)
الحوار المتمدن-العدد: 8307 - 2025 / 4 / 9 - 08:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لنبدأ بالأمر الواضح وضوح الشمس: كاتب هذا المقال لا تربطه أية صلة على الإطلاق بمارين لوبان، ولا بالأيديولوجية أو الحركة التي تعتبر أبرز ممثليها.
بل على العكس من ذلك، نحن نقف على طرفي النقيض في الساحة السياسية. يجب ذكر هذه الحقيقة منذ البداية، تفاديا لأي خلط أو تحريف.
لكن ومع ذلك سأذكر منذ البداية أيضا أمرا كان ينبغي أن يكون واضحا جليا، لكنه للأسف غاب عن كثير من اليساريين.
قيل لي إن نتيجة محاكمة مارين لوبان الأخيرة قد استقبلت بحفاوة بالغة من جانب اليسار الفرنسي. من ناحية يمكنني أن أتفهم ذلك، فهي تمثل سياساتٍ مرفوضة لديهم، وهذا أمر مفهوم. ولكن من ناحية أعمق، أرى أن هذه الحفاوة في غير محلها.
دعوني أشرح لكم بلغة بسيطة: إن قرار لجنة القضاة الفرنسية بالحكم على السيدة لوبان بالسجن، وبشكل أكثر تحديدا، استبعادها من الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، يُعد ضربة قاصمة حتى لأبسط شروط الديمقراطية البرلمانية.
لقد تم حرمانها، بأثر فوري، من الترشح للانتخابات لمدة خمس سنوات. ويعني هذا القرار أنها إذا لم تتمكن من نقض عقوبتها قبل الانتخابات الرئاسية لعام 2027، فمن المرجح ألا تتمكن من الترشح.
اعتبر الكثير من اليساريين أن هذا انتصار. لكنه بالتأكيد ليس انتصارا للطبقة العاملة، ولا لليسار تحديدا، وينطوي على تهديد جدي للغاية للمستقبل.
يمكنني أن أتوقع مسبقا رد الفعل على كلماتي. ستتصاعد صيحات احتجاج غاضبة تقول إنه بما أن لوبان تمثل أفكارا رجعية وبغيضة، فقد كان من الصواب استبعادها.
جوابي على هذا الاعتراض بسيط للغاية وهو أن مارين لوبان لم تحاكم بسبب أفكارها (على الأقل، هذا ما يُزعم)، بل لارتكابها جريمة جنائية.
يمكن أن يقال -وهذا ما يشاع في وسائل الإعلام- إنها أُدينت بجريمة، وهي اختلاس مبلغ كبير من أموال الاتحاد الأوروبي، والذي يبدو أنها استخدمته، ليس للإثراء الشخصي، بل لتقوية حزبها السياسي.
أليس من البديهي أن أي شخص يُدان في المحكمة بمثل هذه الجريمة يستحق العقاب؟
في الواقع ليست لدي أية وسيلة لمعرفة ما إذا كانت السيدة لوبان قد ارتكبت بالفعل تلك الجريمة أم لا. لكنني على استعداد تام للاعتقاد بأنها، في الواقع، مذنبة بالتهمة المنسوبة إليها.
لكن هل هذا يبرر تلك العقوبة القاسية التي أصدرها القاضي؟ وعلى وجه الخصوص، هل ذلك يبرر استبعاد مرشحة حظيت بدعم كبير من جانب الناخبين الفرنسيين، وتقود حاليا أكبر حزب في البرلمان الفرنسي، وكان يعتقد، على نطاق واسع حتى الآن، أنها صاحبة أفضل فرصة للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة؟
الدعم الشعبي لمارين لوبان ليس موضع شك كبير. لقد توقع استطلاع للرأي، أجري يوم الأحد الماضي، أن تحصل مارين لوبان، في الانتخابات الرئاسية لعام 2027،على ما يصل إلى 37% من الأصوات، بزيادة قدرها أكثر من 14 نقطة مئوية عن عام 2022، وبفارق 10 نقاط عن أي مرشح آخر.
دعونا نطرح المسألة بوضوح: هل يبدو من المقبول أن يتم حرمان ملايين الناخبين الفرنسيين من أبسط حقوقهم الديمقراطية -الحق في التصويت بحرية للمرشح الذي يفضلونه- وأن يُحرموا فعليا من حقهم في التصويت بقرار من عصبة من القضاة غير المنتخبين؟
هذا، وهذا فقط، هو السؤال الذي يجب الإجابة عليه.
الدعم الشعبي لمارين لوبان ليس موضع شك كبير./ الصورة: جيريمي غونتر هاينز يانك، Wikimedia Commons “سيادة القانون” ليست هناك من أسطورة، باطلة تماما، يتم الترويج لها باجتهاد كبير مثل فكرة أن القانون شيء محايد، شيء يعلو على المجتمع وعلى مصالح الطبقات الاجتماعية. هذه كذبة. فعلى مر التاريخ، كان القانون دائما سلاحا يستخدمه الأغنياء والأقوياء للدفاع عن مصالحهم ضد الفقراء والمضطهَدين.
ولعل فرنسا هي أفضل مكان تظهر فيه هذه الحقيقة، حيث يبدي الناس احتقارا واضحا لمعظم المؤسسات، وللقانون البرجوازي تحديدا.
ذات مرة كتب الكاتب الفرنسي الشهير أناتول فرانس قائلا:
«إن المساواة الجليلة التي توفرها القوانين تمنع الأغنياء والفقراء على حد سواء من النوم تحت الجسور، والتسول في الشوارع، وسرقة الخبز».
لم يكن القضاة يوما أصدقاء للطبقة العاملة، أو للديمقراطية. ويمكن الاستشهاد بالعديد من الحالات لإثبات التحيز الشديد والفاضح للنظام القانوني في فرنسا، كما هو الحال في جميع البلدان الأخرى.
يُثبت التاريخ الطبيعة الرجعية للقضاء الفرنسي. لقد أوضحتها قضية دريفوس الشهيرة، التي هي فضيحة سياسية هزت فرنسا بين عامي 1894 و1906، وقسمت الأمة إلى معسكرين متعارضين. وكان لينين قد اعتبر أنها كان من الممكن أن تؤدي إلى حرب أهلية.
تتمثل تلك القضية في حكم سبعة قضاة بالإجماع بإدانة ألفريد دريفوس -وهو ضابط يهودي في الجيش الفرنسي- بتهمة التواطؤ مع قوة أجنبية، والحكم عليه بأقصى عقوبة، بموجب المادة 76 من قانون العقوبات.
لكن تبين لاحقا أن القضية برمتها مبنية على التزوير. وقد سلطت تلك القضية الضوء على معاداة السامية عند الطبقة السائدة الفرنسية وقيادات الجيش، وعلى فساد النظام القضائي.
لا يوجد في التاريخ الفرنسي اللاحق ما يظهر أن الأمور قد تغيرت جذريا. ولتوضيح هذه النقطة بشكل جلي، تكفي الإشارة إلى تعاون القضاة الفرنسيين مع نظام فيشي الموالي للنازية خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن الآن، ولسبب غامض، يتم تصوير القضاة الفرنسيين على أنهم حماة شجعان للديمقراطية. إلا أنه يكفي النظر إلى السجل التاريخي لرؤية الزيف والنفاق الكامنين وراء هذه الفكرة السخيفة.
إن القانون يدعم بشكل منهجي الوضع الراهن، أي مصالح أصحاب الأبناك وكبار ملاك الأراضي والرأسماليين. فإذا كان ذلك يعني أن يتم الدوس بالأقدام على القانون نفسه، فليكن.
لكن ومع كل هذا فإن فابيان روسيل، زعيم الحزب “الشيوعي” الفرنسي، يستطيع أن يقول أشياءً مثل:
«العدالة هي العدالة، سواء كنت قويا أو ضعيفا، كما كتب لافونتين، يجب أن تكون متساوية للجميع. لا سيما وأن مارين لوبان زعيمة سياسية تطالب نظام العدالة بإبداء مزيد من الحزم! فلنحترم العدالة إذا».
فلنحترم العدالة بكل تأكيد. لكن العدالة لا توجد إطلاقا في النظام القانوني القائم في فرنسا. استشهاده بلافونتين مُضلل. إنه استشهاد مجرد ويفتقر إلى أي مضمون حقيقي. وعوض أن يتعامل مع القانون كما هو في الواقع، يتعامل معه كما ينبغي أن يكون. من الأفضل بكثير أن نقتبس كلمات الفيلسوف أناكارسيس والذي قال: «القانون يشبه شبكة العنكبوت، الصغار يعلقون فيها، أما الكبار فيمزقونها». هذه الكلمات تنقل حقيقة القانون، ليس كما ينبغي أن يكون، بل كما هو في الواقع في المجتمع الطبقي.
دعونا نستعرض للحظة سجل القانون في مكافحة الفساد في السياسة الفرنسية.
الفساد في السياسة الفرنسية من المفهوم على نطاق واسع في فرنسا أن الفساد في السياسة الفرنسية ليس منتشرا فحسب، بل هو رياضة وطنية.
فإذا كانت مارين لوبان مذنبة، فإنها ستكون جزء من صحبة ممتازة. إذ حوكم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي بتهمة تلقي تبرعات غير قانونية من ليبيا لصالح حملته الانتخابية.
وكان فرانسوا فيون، رئيس الوزراء اليميني السابق، قد فقد مكانه المتقدم في الانتخابات الرئاسية، في ماي 2017، عندما وضعته الشرطة قيد تحقيق رسمي، في مارس من ذلك العام، بتهمة توظيف زوجته في وظيفة وهمية كمساعدة برلمانية. فتراجعت شعبيته بشكل حاد. وفاز ماكرون بقصر الإليزيه.
لكن المثال الأكثر فضائحية على إساءة استخدام النظام القانوني دفاعا عن السياسيين البرجوازيين كان قضية الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، الذي أُدين بتهمة “اختلاس أموال عامة” لتمويل غير قانوني للحزب المحافظ الذي كان يقوده، وكذلك بتهمة “إساءة استخدام الثقة العامة”.
قام بذلك الاختلاس أثناء توليه منصب عمدة باريس بين عامي 1977 و1995. واتُهم بدفع أموال لأعضاء حزبه، التجمع من أجل الجمهورية (RPR)، مقابل وظائف بلدية غير موجودة.
تبدو تلك جريمة أشد بكثير من جريمة لوبان، إذ يبدو أن لوبان كانت تُحول الأموال لدفع أجور وظائف موجودة بالفعل.
ومع ذلك فإن شيراك لم تتم إدانته إلا في عام 2011، وبالتالي -وهو أمر ملائم للغاية- تمكن من الترشح للانتخابات والفوز بالرئاسة بين سنتي 1995 و2007، عندما نافس جان ماري لوبان، والد مارين لوبان.
أي، بعبارةٍ أخرى، سُمح له بالترشح والفوز بالرئاسة بعد اختلاسه لأموال عمومية.
ووفقا لما قرأته، فقد تمتع بحصانةٍ من الملاحقة القضائية خلال فترة رئاسته، مما يعني أنهم كانوا يمتلكون الأدلة، لكنهم لم يحاكموه إلا بعد توليه السلطة بوقتٍ طويل.
وفي عام 2004، خلال رئاسة شيراك، أُدين آلان جوبيه في القضية نفسها.
حكم عليه بالسجن ثمانية عشر شهرا مع وقف التنفيذ، والحرمان من الحقوق المدنية لمدة خمس سنوات، والحرمان من حق الترشح لمنصب سياسي لمدة عشر سنوات.
ومع ذلك فإنه بعد استئنافه للحكم، تم تخفيض مدة حرمانه من تولي المناصب الانتخابية إلى عام واحد.
ليست قضايا الفساد تلك سوى غيض من فيض. وأغلبها لا تتم متابعتها قضائيا. لكن عندما يتم ذلك فإنه، كما تظهر القضايا المذكورة أعلاه، يمكن التلاعب بالقضاء بسهولة لتخفيف الأحكام، أو إلغائها تماما. هذا هو المعنى الحقيقي لـ”العدالة” الفرنسية.
وغني عن القول إن هذه الظاهرة لا تقتصر إطلاقا على فرنسا وحدها. لا شك أن قادة الاتحاد الأوروبي يحتفلون بزجاجات الشمبانيا بإدانة مارين لوبان. لكن الفساد يزدهر في بروكسل بقدر ما يزدهر في باريس، بل وأكثر من ذلك بكثير.
كان يانيس فاروفاكيس، الملم بخبايا طرق عمل الزمرة الحاكمة الأوروبية، قد أشار إلى أن كريستين لاغارد أُدينت بتهم مماثلة عام 2016، أمام محكمة فرنسية أيضا. ومع ذلك فقد احتفظت بمنصبها رئيسة لصندوق النقد الدولي، وصارت بعد ذلك رئيسة للبنك المركزي الأوروبي.
وأضاف بنبرة لاذعة: «لم يُثر أحد ضجة [بشأن إدانتها السابقة] … ليست لدي أية ثقة إطلاقا في قدرة القضاء على العمل كسلطة قضائية، لا في فرنسا ولا على نطاق أوسع».
الغضب ضد القضاة أثارت أنباء المحاكمة، كما كان متوقعا، موجة من الغضب بين أنصار لوبان.
وذكر مقال، نشر في صحيفة فاينانشال تايمز، يوم الأربعاء، وجود موجة من التهديدات بالعنف ضد القضاة المعنيين بالقضية:
«يقول المنتقدون إن الحزب، ولوبان نفسها، يلعبان بالنار لأن انتقادهما لنظام العدالة يُعد تحديا لسيادة القانون وشرعية المحاكم في تطبيق القوانين التي أصدرها البرلمان. ووفقا لوزارة العدل فقد تلقى القضاة الذين يترأسون القضية تهديدات خطيرة. وقامت الشرطة بدوريات حول منزل رئيس القضاة في باريس فور صدور الحكم.
وقال ريمي هيتز، المدعي العام في أعلى محكمة استئناف في فرنسا، إن هذه التهديدات خطيرة، ودافع عن قرار المحكمة، وأضاف: “القرار ليس سياسيا، إنه حكم قانوني صادر عن ثلاثة قضاة مستقلين ونزيهين. إن التهديدات الموجهة ضد القضاة مرفوضة تماما في ظل الديمقراطية”».
لكن بالنسبة للكثيرين، من الواضح تماما أن هذه المحاكمة كانت بعيدة كل البعد عن “الاستقلالية والنزاهة”، وأن الغضب الموجه ضد القضاة يعكس هذه الحقيقة.
جبن “اليسار” رد فعل القادة السياسيين الفرنسيين كان متوقعا بشكل مسبق. فقد صرح رئيس الوزراء، فرانسوا بايرو، للجمعية الوطنية، يوم الثلاثاء، بأنه ليس صحيحا القول بأن القضاء يقوض الديمقراطية الفرنسية.
لكنه، وبدافع من الإحراج الواضح، شعر بأنه ملزم بإضافة أنه باعتباره “مواطنا” يتساءل عما إذا كان الحظر الفوري من الترشح للانتخابات قبل استنفاد الطعون، موقفا مناسبا. وأضاف أنه يشعر “بالانزعاج” من ذلك.
أثارت تلك الملاحظات رد فعل ساخط من أوليفييه فور، السكرتير الأول للحزب الاشتراكي، الذي سارع إلى الدفاع عن المؤسسة القضائية، مُصدرا توبيخا سريعا قال فيه:
«… من الواضح أن احترام القانون، وسيادة القانون، وفصل السلطات، لم يعد…على جدول أعمال الحكومة».
من الواضح أن تصريحات بايرو مدفوعة بمصالح ذاتية، إذ أنه، هو وحزبه، يواجهان محاكمة ثانية في قضية عقود مزورة مشابهة لقضية لوبان./ الصورة: Rama, Wikimedia Commons وأضاف فرانسوا هولاند، الزعيم السابق للحزب الاشتراكي، أن بايرو «ليس لديه سبب للانزعاج، فعندما تكون رئيسا للوزراء في جمهورية وتكون حاميا للقانون، يجب عليك أن تقبل بضمان استقلالية المحاكم».
من الواضح أن تصريحات بايرو مدفوعة بمصالح ذاتية، إذ أنه، هو وحزبه، يواجهان محاكمة ثانية في قضية عقود مزورة مشابهة لقضية لوبان، بعد أن استأنف المدعون العامون الحكم الأول.
ومع ذلك، فقد قرر أن الجبن هو طريق السلامة، فاعتبر أنه من الأفضل عدم المبالغة في التأكيد على تلك النقطة، لذلك أضاف: «القانون الذي أصدر القضاة بموجبه أحكامهم أقره البرلمان… والبرلمان هو الذي سيقرر ما إذا كان ينبغي تعديل هذا القانون أم لا».
وقد انضمت زعيمة حزب الخضر، مارين تونديلييه، بحماس إلى موجة الإدانة، قائلةً إن لوبان “متهمة مثلها مثل غيرها”. و»عندما نعطي دروسا في السلوك المثالي للجميع، يجب أن نبدأ بتطبيقها على أنفسنا…».
في بريطانيا، تجنبت صحيفة “مورنينغ ستار” (4/1/25) بشكل كامل الخوض في المسألة، واكتفت بسرد الوقائع قائلة:
«تم الحكم على زعيمة اليمين المتطرف بالسجن أربع سنوات، منها سنتان قيد الإقامة الجبرية وسنتان مع وقف التنفيذ، وهو حكم لن يطبق في انتظار الاستئناف.
قالت السيدة لوبان إنه ما كان ينبغي للمحكمة أن تمنعها من الترشح للمنصب إلا بعد استنفاد جميع فرصها في الاستئناف، وأنه من الواضح أن المحكمة كانت تهدف “على وجه التحديد” إلى منعها من الفوز بالرئاسة.
كما أن رئيس الوزراء الفرنسي، فرانسوا بايرو، الذي نجا بفضل حزب التجمع الوطني، من تصويت لسحب الثقة كانت قد تقدمت به أحزاب يسارية، في فبراير، انتقد الحظر الفوري على ترشح السيدة لوبان.
تقول حركة “فرنسا الأبية” اليسارية إنها لم تتوقع قط هزيمة التجمع الوطني في المحاكم، و”ستناضل ضده في صناديق الاقتراع وفي الشوارع”.
أظهر استطلاع رأي أجرته قناة BFMTV يوم الاثنين أن 57% من الفرنسيين يعتقدون أن العدالة قد تحققت في القضية دون أي تحيز سياسي».
لا نعلم مدى مصداقية استطلاعات الرأي المذكورة أعلاه. لكن ما نعرفه هو أن صحيفة “مورنينغ ستار”، التي يُفترض أنها تدافع عن الديمقراطية والاشتراكية، لم تُبد رأيا واضحا بشأن قضية مارين لوبان.
هذا نموذج لجبن اليسار وفشله في الدفاع بثبات عن الحقوق الديمقراطية والنضال ضد الدولة البرجوازية ومؤسساتها.
موقف زعيم “فرنسا الأبية”، جان لوك ميلانشون، ينسجم بشكل كامل مع المشهد البائس للجبن والتواطؤ الذي اتسم به جميع قادة اليسار الآخرين.
أفاد البيان الرسمي لـ”فرنسا الأبية” أن «الحقائق التي أُعلن ثبوتها خطيرة للغاية [و] تناقض تماما شعار “الرؤوس مرفوعة والأيدي نظيفة” الذي طالما استعمله هذا الحزب».
وأضاف: «أحطنا علما بقرار المحكمة هذا، حتى وإن كنا نرفض مبدئيا القبول باستحالة استئنافه. أما بالنسبة للباقي، فلم يكن موقف “فرنسا الأبية” يوماً هو اللجوء إلى القضاء من أجل التخلص من التجمع الوطني».
وأكد ميلانشون أن «قرار عزل سياسي ما من منصبه يجب أن يكون قرارا يتخذه الشعب». هذا جيد، في حد ذاته، لكنه ما يزال بعيدا كل البعد عن الإدانة الصريحة للمناورة المعادية للديمقراطية، كما هو متوقع من شخص يدعي تمثيل اليسار.
إن هؤلاء القادة الإصلاحيين، برفضهم مكافحة مكائد المؤسسة البرجوازية الليبرالية المناهضة للديمقراطية، والأسوأ من ذلك، بترسيخهم الأوهام في مصداقية النظام القانوني، يُسلمون الطبقة السائدة مسدسا محشوا، ستصوبه غدا إلى رؤوسهم.
وقد أكد يانيس فاروفاكيس هذه النقطة بوضوح، إذ قال:
«كانت القضية الرومانية بمثابة حركة تسخينية. الآن انتقلوا إلى لوبان. وغدا سيلاحقون جان لوك ميلانشون».
لقد أصاب جوهر المسألة.
كيف يدمر “الديمقراطيون” الديمقراطية؟ وفي تعليقه على الأحداث في فرنسا، قال دونالد ترامب: «هذه قضية بالغة الأهمية».
قارَنَ بين حظر لوبان وبين سلسلة القضايا القانونية المرفوعة ضده، والتي تم التخلي عن معظمها بعد إعادة انتخابه. وقال: «ذلك يشبه هذا البلد. يشبه هذا البلد كثيرا».
لقد قارن ذلك بالحملة الهائلة التي شنتها المؤسسة ووسائل الإعلام ضده لمنعه من الترشح في الانتخابات الرئاسية. حيث تم استخدام المحاكم على نطاق واسع من أجل محاولة إرساله إلى السجن، لمنعه من الترشح.
كانت وسائل الإعلام قد أثارت ضجة صاخبة، قائلة إن الشعب الأمريكي لن يصوت في الانتخابات الرئاسية أبدا لصالح “مجرم مدان”. لكن نتائج تلك الانتخابات أثبتت بشكل قاطع أن ملايين الناس لم يعودوا يصدقون وسائل الإعلام المضللة. وحقق دونالد ترامب فوزا ساحقا.
وخوفا من احتمال تكرار ذلك في أوروبا، تم اتخاذ خطوات لمنع انتخاب مرشحٍ مناهضٍ للمؤسسة في رومانيا، وذلك ببساطةٍ من خلال إلغاء انتخاباتٍ كان قد فاز بها بالفعل. نفذت المحكمة الدستورية ذلك الإجراء غير المسبوق، مستندة إلى شكوكٍ واهيةٍ من الاستخبارات الرومانية، وبضغوطٍ من جيرانها.
السياسي الشعبوي، كالين جورجيسكو، الذي ظهر فجأة ليفوز بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية العام الماضي، تم ايقافه في شوارع العاصمة بوخارست، وهو في طريقه للتسجيل باعتباره مرشحٍا في الانتخاباتٍ الجديدةٍ المزمع اجراؤها في ماي. وقال المدعون إن إحدى التهم الموجهة إليه هي محاولة “التحريض على أعمالٍ مناهضةٍ للنظام الدستوري”.
تم منعه، منذ ذلك الحين، من الترشح في انتخابات ماي القادمة، والتي كان المرشح الأوفر حظا للفوز فيها بنسبة 40% من الأصوات.
وقد تم وصف هذا الإجراء بأنه ضروري “لحماية الديمقراطية”!
وشهدت تركيا أحداثا مماثلة، حيث خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع احتجاجا على اعتقال المنافس الرئيسي لرئيس البلاد رجب طيب أردوغان.
أكرم إمام أوغلو، الذي يشغل رئيس بلدية إسطنبول، كان من المقرر اختياره، أثناء تصويت أُجري يوم الأحد 23 مارس، مرشحا لحزب الشعب الجمهوري (CHP) للانتخابات الرئاسية لعام 2028. لكن أُلقي القبض عليه رسميا، في وقت سابق من ذلك اليوم، ووجهت إليه تهمة الفساد.
صرح إمام أوغلو بأن الاتهامات الموجهة إليه ذات دوافع سياسية. وكتب على حسابه على موقع “X” قبل احتجازه: “لن أركع أبدا”.
لاقت تصرفات الحكومة التركية إدانة واسعة النطاق من الصحافة وأوروبا. لكن نفس تلك الصحافة “الليبرالية” التزمت الصمت حيال الأحداث في رومانيا، ولم تُبدِ أي انتقاد للمعاملة التي تعرضت لها مارين لوبان.
وهكذا فإن الموقف الحقيقي للنخبة الليبرالية البرجوازية الحاكمة هو ما يلي: نحن ندعم الانتخابات، لكن بشرط أن يكون الذي سيفوز بها من الذين ندعمهم!
قارَنَ ترامب بين حظر لوبان وبين سلسلة القضايا القانونية المرفوعة ضده، والتي تم التخلي عن معظمها بعد إعادة انتخابه./ الصورة: جيريمي غونتر هاينز جانيك، ويكيميديا كومنز مزاج غاضب تعرضت الطبقة العاملة، في العقود الأخيرة، لسلسلة من الهجمات الوحشية على مستويات معيشتها وحقوقها وحرياتها. وتعرضت النقابات العمالية نفسها بشكل متزايد لقوانين عقابية مناهضة لها. يزداد تقييد الحق في الإضراب، ويتعرض الحق في التظاهر في الأماكن العامة لقمع شرس من الشرطة.
لقد انكشفت طبيعة الديمقراطية البرجوازية الشكلية بشكل متزايد على أنها مجرد احتيال وخداع للشعب. لكن حتى وقت قريب، كان يسود الاعتقاد أنه من الممكن تغيير النظام بالوسائل الديمقراطية السلمية، من خلال التصويت في الانتخابات.
والآن، حتى هذا الحق صار مهددا. إن ما حدث في رومانيا وتركيا والولايات المتحدة، وما يحدث الآن في فرنسا، هو تحذير للحركة العمالية.
إذا سلمنا ولو للحظة بأن للدولة الحق في تحديد من هو المرشح المناسب للترشح في الانتخابات، ومن هو غير المناسب، فإن فكرة الانتخابات الحرة ستصبح محض خيال.
إن صمت ما يسمى بالإعلام الليبرالي عن هذه الانتهاكات (وهو الشيء الذي ما كان ليحدث لو وقعت هذه الأمور في روسيا!) يكشف الحقيقة الجلية التي مفادها أن الديمقراطية بالنسبة لليبراليين ليست مبدأً مقدسا على الإطلاق، بل هي مجرد وسيلة لتحقيق غاية، مجرد خداع.
يخفي هذا الوهم حقيقة أن المجتمع مملوك ومُسيطر عليه من قِبل زمرةٍ ضئيلةٍ من أصحاب الأبناك وكبار ملاك الأراضي والرأسماليين، وأن البرلمانات والمحاكم ليست سوى ألعوبةٍ بين أيديهم.
لكنه وهم لا يجدي نفعا إلا بقدر ما يستمر الكثيرون في الإيمان به. إن المزاج العام من الغضب والإحباط والسخط السائد الآن في جميع البلدان هو انعكاس لأزمةٍ عميقةٍ ومستعصيةٍ للنظام الرأسمالي.
اشتداد الصراع الطبقي يتجلى هذا المزاج الغاضب في الحياة السياسية من خلال التقلباتٍ العنيفةٍ على الصعيد الانتخابي نحو اليمين ونحو اليسار. وأمام أعين البرجوازية المرعوبة ينهار الوسط السياسي في كل مكان.
إن اشتداد الاستقطاب بين اليسار واليمين ليس إلا تعبيرا عن اشتداد العداوات الطبقية، اشتداد الكراهية ضد الأغنياء والأقوياء الذين يهيمنون على حياتنا ويقررون كل شيء.
هذه الكراهية ضد المؤسسات يمكن أن تتجلى بطرق مختلفة. لو كان هناك يسار حقيقي يقف بثبات دفاعا عن مصالح الطبقة العاملة وضد سلطة رأس المال، لكانت المشكلة سهلة الحل.
لكن وبقدر ما يخيب قادة جميع الأحزاب اليسارية الرئيسية آمال مؤيديهم، فإن الطريق سيبقى مفتوحا لا محالة أمام جميع أنواع الديماغوجيين من أمثال دونالد ترامب ومارين لوبان.
يتجلى هذا المزاج الغاضب في الحياة السياسية من خلال التقلباتٍ العنيفةٍ على الصعيد الانتخابي نحو اليمين ونحو اليسار./ الصورة: Braveheart، Wikimedia Commons تعيش المؤسسة الليبرالية حالة رعب دائم من هذا الاستقطاب. إنهم يبذلون قصارى جهدهم في محاولة يائسة لدعم الوسط المتفكك. لكن كل محاولاتهم ستبوء بالفشل.
سيستمر البندول السياسي في التأرجح بعنف نحو اليمين ونحو اليسار. سيتم اختبار زعماء الاحزاب والتخلص منهم الواحد منهم تلو الآخر. ونرى ذلك بوضوح في بريطانيا الآن مع انهيار الدعم لستارمر.
لن يكون في مقدور أي كم من الحيل والمناورات والمؤامرات، أو أي كم من الخداع القانوني، وقف مسيرة تاريخية تُعدّها قوى تفوق في قوتها أي محكمة أو جيش أو شرطة.
كان لينين يقول: الحياة تعلِّم. وسوف يتعلم العمال من تجربتهم الخاصة. لن تكون مسيرة سهلة أو سريعة. ستكون هناك فترات صعود وهبوط كثيرة، وهزائم وانتكاسات كثيرة. لكنه سيتم استخلاص الدروس، وسيتم استخلاص الاستنتاجات في النهاية.
وفي نهاية المطاف، بمجرد ما سيتم تنظيم الطبقة العاملة، وتعبئتها خلف راية الثورة الاشتراكية، ستصبح قوة لا يمكن لأي قوة في العالم هزيمتها.
#آلان_وودز (هاشتاغ)
Alan_Woods#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هي الحقيقة؟
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
-
هل الفن ضروري؟
-
عجوز غاضب، أوكراني مختل، وحرب عالمية ثالثة
-
فوز ترامب: ركلة في وجه الإدارة الأمريكية
-
هل نواجه حربا عالمية ثالثة؟
-
أزمة الشرق الأوسط: السير الحثيث نحو الهاوية
-
مغامرة السيد فولوديمير زيلينسكي المذهلة في كورسك
-
مذكرة الاعتقال الدولية: هل سيمثل نتنياهو أمام المحكمة الجنائ
...
-
هجمات إيران: مقامرة نتنياهو الخطيرة
-
لماذا نحتاج إلى أممية شيوعية؟
-
معركة لينين الأخيرة
-
الشرق الأوسط على حافة الهاوية: الإمبرياليون يسكبون الزيت على
...
-
عالم بلا مشاكل: رسالة آلان وودز للعام الجديد 2024
-
الاغتراب والمجتمع
-
ثورة ماركس في الفلسفة – تأملات في أطروحات فيورباخ
-
من قتل بريغوجين؟
-
مقدمة للطبعة المكسيكية لكتاب لينين “الامبريالية أعلى مراحل ا
...
-
وفاة سييفا فولكوف، حفيد تروتسكي: نعي مناضل عظيم
-
دون كيشوت، وإسبانيا في عصر سرفانتس
المزيد.....
-
حماس ترفض الاقتراح الإسرائيلي وتقول إن تسليم سلاح المقاومة -
...
-
-بلومبرغ-: واشنطن تُعرقل إصدار بيان لمجموعة السبع يُدين الهج
...
-
ما الذي يحدث في دماغك عند تعلم لغات متعددة؟
-
الأردن يعلن إحباط مخططات -تهدف للمساس بالأمن الوطني- على صلة
...
-
أبو عبيدة: فقدنا الاتصال مع المجموعة الآسرة للجندي عيدان ألك
...
-
في سابقة علمية.. جامعة مصرية تناقش رسالة دكتوراة لباحثة متوف
...
-
الإمارات تدين بأشد العبارات -فظائع- القوات المسلحة السودانية
...
-
ديبلوماسي بريطاني يوجه نصيحة قيمة لستارمر بخصوص روسيا
-
الحكومة الأردنية تكشف تفاصيل مخططات كانت تهدف لإثارة الفوضى
...
-
-الحل في يد مصر-.. تحذيرات عسكرية إسرائيلية رفيعة من صعوبة ا
...
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|