|
أسطورة سوداء عن -الجزار الدموي- بيريا – الرجل الثاني بعد ستالين
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8306 - 2025 / 4 / 8 - 20:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نافذة على الصحافة الروسية نطل منها على أهم الأحداث في العالمين الروسي والعربي والعالم أجمع
*اعداد وتعريب د. زياد الزبيدي بتصرف*
ألكسندر سامسونوف كاتب صحفي ومحلل سياسي مؤرخ وخبير عسكري روسي
29 مارس 2014
الجزء الأول 1-2
في مثل هذا اليوم قبل 115 عامًا، وتحديدًا في 29 مارس 1899، وُلد "لافرينتي بيريا". وُلد وزير ستالين المستقبلي في جورجيا في قرية ميرخيولي بمحافظة كوتايسي في عائلة فلاحين فقراء. أظهر لافرينتي قدرات عالية وتخرج من المدرسة الابتدائية في سوخومي. وفي عام 1919، أكمل دراسته بإمتياز في مدرسة باكو التقنية للبناء والميكانيكا، وحصل على دبلوم مهندس معماري. خلال دراسته، كان يعمل لإعالة والدته وأخته، حيث عمل كمدرس خصوصي ومتدرب في شركة النفط التابعة لعائلة نوبل. بدأ الدراسة في معهد البوليتكنيك في باكو لكنه لم يكملها، وانضم إلى الحزب البلشفي وبدأ مسيرته الثورية.
في عام 1917، خدم في وحدة تقنية عسكرية على الجبهة الرومانية، وعمل في أوديسا ثم في باشكاني (رومانيا)، قبل أن يُسرح بسبب المرض. واصل نشاطه في المنظمة البلشفية، وبعد سقوط كومونة باكو واحتلال القوات التركية للمدينة، انخرط في العمل السري. بين عامي 1919 و1920، عمل في جهاز مكافحة التجسس التابع لحكومة الموسافيين (أي حزب المساواة) في جمهورية أذربيجان الديمقراطية، حيث كان يرسل المعلومات إلى مقر الجيش الأحمر في تساريتسين. في نفس الوقت، قاد منظمة سرية بلشفية للعمال التقنيين.
بعد استعادة السلطة السوفياتية في باكو، أُرسل إلى جورجيا للعمل السري ضد حكومة المناشفة، لكنه أُلقي القبض عليه وتم ترحيله. بين عامي 1921 و1931، شغل بيريا مناصب قيادية في أجهزة الأمن في القوقاز. خلال خدمته في جهاز لجنة الطوارىء والشرطة السياسية التي كانت أدوات أساسية استخدمها البلاشفة للسيطرة على الحكم. إذا كانت الأولى تعمل بعنف وعلانية، فإن الثانية اتبعت أساليب أكثر "دهاءً" لكنها لم تكن أقل وحشية. وقد مهّد كلا الجهازين الطريق لإنشاء وزارة الداخلية ولاحقًا لجنة الأمن الدولة KGB، لعب دورًا كبيرًا في القضاء على القوى المعادية مثل الداشناك والموسافيين والتروتسكيين والاشتراكيين الثوريين والمناشفة وعملاء المخابرات الأجنبية. كما ساهم في القضاء على الفوضى الإجرامية التي انتشرت في القوقاز بعد انهيار الإمبراطورية الروسية والحرب الأهلية. حصل على وسام الراية الحمراء في جورجيا عام 1923 ووسام الراية الحمراء لل٥اتحاد السوفياتي عام 1924 تقديرًا لجهوده.
برز بيريا كقائد بارز في القوقاز بين نهاية العشرينيات وعام 1938، حيث شغل مناصب حزبية رفيعة. تحت قيادته، شهدت المنطقة نموًا اقتصاديًا كبيرًا، خاصة في صناعة النفط، حيث أصبحت نصف إنتاج النفط بحلول عام 1938 يأتي من منشآت جديدة. كما تطورت الصناعات المعدنية والفحم والمنغنيز. في جورجيا، تم تنفيذ مشاريع صحية كبيرة مثل تجفيف المستنقعات، مما جعلها منطقة سياحية. تطور الزراعة أيضًا، حيث تمت زراعة الحمضيات والشاي والعنب، مما رفع مستوى معيشة الفلاحين.
في عام 1931، انتقدت اللجنة المركزية للحزب "الأخطاء السياسية" في القوقاز، حيث انتشرت النزاعات القبلية والمحسوبية. عُين بيريا سكرتيرًا أول للحزب الشيوعي الجورجي، ثم سكرتيرًا لمنطقة القوقاز، حيث قام بإصلاح الحزب وقمع نزعات "الزعامات المحلية"، مما أكسبه شعبية بين الناس وكراهية النخب المحلية.
كان أسلوب بيريا في القيادة بسيطًا ومتواضعًا، حيث عاش حياة متقشفة وكان محبوبًا من الناس. بعد اغتياله، لم يُعثر على ثروة تُصادر، وكان يُشاهد وهو يلعب كرة القدم مع الأطفال أو يتدرب في الفناء. كان مثقفًا ومحترمًا، مما أكسبه احترام الشعب الجورجي.
من فتى فقير إلى "أب القنبلة الذرية السوفياتية"، يُعتبر بيريا أحد أعظم الشخصيات بعد ستالين وأفضل إداري في القرن العشرين. لكن أعداء المشروع الستاليني صوروه كشيطان دموي. بعد اغتياله، نُسبت إليه تهم كثيرة مثل التآمر وحتى الانحراف الجنسي، لكن عند التدقيق، يتضح أنه كان رجل دولة ومنظمًا عبقريًا.
الأكاذيب عن بيريا وستالين نُسجت في عهد خروتشوف، الذي دمّر المشروع الستاليني الذي كان يهدف لجعل الإتحاد السوفياتي قائدًا عالميًا. حوّل خروتشوف المسار إلى "التعايش السلمي" مع الغرب، وأوقف برامج ثورية كانت ستغير البشرية. لذلك، تم تشويه صورة ستالين وبيريا.
*أسطورة "جلاد ستالين"*
يُتهم بيريا بأنه كان المسؤول عن "التطهير الكبير" عام 1937، لكن هذا غير صحيح، لأنه كان يعمل في القوقاز حتى 1938 ولم يكن له دور في القرارات السياسية حتى 1946. المسؤولون الحقيقيون عن القمع كانوا "هينريخ ياغودا" (رئيس NKVD 1934-1936) و"نيكولاي يجوف" (1936-1938). عُين بيريا في نوفمبر 1938 لوقف القمع وفوضى الأمن. قام بإصلاح الجهاز وأطلق سراح آلاف المعتقلين، وأعدم قادة التروتسكيين مثل ياغودا ويجوف، وقتل تروتسكي نفسه.
مساهمات أخرى في النصر
لا يمكن نسيان مساهمات لافرينتي بيريا الأخرى في النصر. من نوفمبر 1938 إلى فبراير 1941، قاد بيريا الاستخبارات الخارجية السوفياتية. في فترة قصيرة، أنهى بيريا الفوضى والارهاب الذي كان يسيطر على الاستخبارات الخارجية. تم إنشاء شبكة استخباراتية ممتازة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان في 1939-1940. ساهمت هذه الشبكة في الفوز في الحرب العالمية الثانية وتطوير مشروع القنبلة الذرية السوفياتية.
سنوات الحرب
خلال الحرب العالمية الثانية، استمر بيريا في قيادة وزارة الداخلية، حيث كان نائبًا لرئيس مجلس الوزراء، وكان مسؤولاً عن إدارة وزارة الداخلية ووزارة الأمن الوطني ووزارات الصناعات الأخرى. كما كان عضوًا في اللجنة الحكومية للدفاع، حيث كان يتحكم في قرارات اللجنة حول إنتاج الطائرات والمحركات والأسلحة، بالإضافة إلى عمل القوات الجوية. كان يتحكم أيضًا في عمل وزارة صناعة الفحم ووزارة المواصلات. في عام 1944، تم تعيين بيريا نائبًا لرئيس اللجنة الحكومية للدفاع ورئيسًا لمكتب العمليات. كان المكتب مسؤولاً عن إدارة الصناعات الرئيسية مثل الصناعات العسكرية والنقل والطاقة والصناعات الكيميائية. في عام 1943، تم تكريم بيريا بمنحه رتبة بطل العمل الاشتراكي.
كان بيريا من بين قادة إجلاء الصناعة السوفياتية، حيث كان عضوًا في مجلس الإجلاء التابع لمجلس الوزراء. قامت القيادة السوفياتية بعمليات فريدة لإجلاء المصانع والمنشآت الثقافية والعلمية والمخزونات الاستراتيجية من المناطق المهددة إلى المناطق الشرقية للبلاد خلف الأورال. هذا سمح بحفظ القاعدة الاقتصادية والصناعية للبلاد، مما كان أحد العوامل الرئيسية التي ساهمت في الفوز في الحرب العالمية الثانية. أصبح بيريا من بين القادة الرئيسيين الذين نظموا عمل الجبهة الداخلية، مما ساهم في تحقيق النصر السوفياتي.
إسهامات أخرى
لا يمكن نسيان إسهامات بيريا الأخرى في النصر. كان حرس الحدود، جزءًا من وزارة الداخلية، من بين أبطال قلعة برست ومواقع الدفاع الأخرى، الذين أظهروا في بداية الحرب أن الغزو الألماني لن يكون سهلًا. عندما هاجمت القوات الألمانية الإتحاد السوفياتي في 22 يونيو 1941، واجهوا مقاومة شرسة من حرس الحدود. كانوا يتصدون للهجمات الألمانية لساعات وأيام وأسابيع، وفي بعض الأماكن قاموا بهجمات مضادة وسيطروا على مواقع على الأراضي الألمانية. ساهم حرس الحدود والاستطلاع والاستخبارات في النصر الكبير، وبرز دور بيريا في ذلك. في عام 1945 أصبح مارشالًا للإتحاد السوفياتي .
الحرب جعلت بيريا الشخصية الثانية في الإتحاد السوفياتي
في الواقع، كانت الحرب هي التي جعلت بيريا الشخصية الثانية في الإتحاد السوفياتي. في وقت حرج، كانت مواهبه مطلوبة بشكل خاص. كان لافرينتي بيريا حقًا "أفضل مدير في القرن". كان يدير جميع المجالات الرئيسية – من الأمن إلى الصناعة والمشاريع العلمية الابتكارية. كان بيريا "أب القنبلة الذرية السوفيتية". نظم بيريا صناعة الذرية تقريبًا من الصفر. بفضل طاقته وذكائه التحليلي، تم اختيار علماء عباقرة ومديرين موهوبين، الذين في فترة قصيرة قاموا بما كان يعتبر مستحيلًا في الغرب: قدموا للشعب السوفياتي درعًا نوويًا قويًا. هذا الدرع مازال يسمح لنا بالعيش في أمان، بينما يأسف قادة حلف الناتو على عدم قدرتهم على إعادة الإتحاد السوفياتي إلى العصر الحجري. عملت الإستخبارات الخارجية بشكل رائع تحت إشراف بيريا.
مشاريع أخرى
بالإضافة إلى مشروع القنبلة الذرية، الذي قدم الإتحاد السوفياتي العديد من التكنولوجيات الهامة للسلام، أصبح بيريا منظمًا لمشاريع بحثية عديدة، مثل تصميم الصواريخ الباليستية والصواريخ المضادة للطائرات. هذا جعل الإتحاد السوفياتي قائدًا في مجال التكنولوجيا الفضائية والصواريخ. تم إنشاء نظام الدفاع الجوي في وقت كان فيه استراتيجيو الغرب يخططون لتدمير الإتحاد السوفياتي.
يُتبع الجزء الثاني...
***** الجزء الثاني 2-2
في 5 مارس 1953، رحل عملاق حقيقي، أحد أعظم الشخصيات ليس فقط في التاريخ الروسي، بل في التاريخ العالمي – جوزيف ستالين. مع رحيله، انتهى عصر كامل من النضال والإنجازات، وغطى الحزن الاتحاد السوفياتي. بدأ الصراع على المناصب بين قيادات الحزب. بالفعل في 2 مارس، بعد إصابة ستالين بالسكتة الدماغية، بدأت مفاوضات سرية بين بيريا، مالينكوف، خروتشوف، وبولغانين. وفي 6 مارس، اجتمعوا للاتفاق على تقاسم الكعكة. كانت هذه في الواقع مؤامرة من القمة، دون عقد مؤتمرات أو اجتماعات للجنة المركزية للحزب أو جلسات لمجلس السوفيات الأعلى.
كما قاموا بإلغاء قرارات المؤتمر التاسع عشر الأخير واللجنة المركزية التي قادها ستالين. تم إلغاء مكتب هيئة رئاسة اللجنة المركزية، وتقليص الهيئة من 36 إلى 14 عضوًا. تم استبعاد الكوادر الجديدة التي رفعها ستالين لتحل محل الكوادر القديمة، بينما أعيدت كوادر قديمة كانت في نهاية حياة الزعيم قد فقد الثقة منها – مثل مولوتوف، كاغانوفيتش، ميكويان، وفوروشيلوف.
اعتبر مالينكوف "الخليفة" لستالين، حيث حصل على منصب رئيس مجلس الوزراء والأمين الأول للجنة المركزية. بينما اعتبر بيريا "الرجل الثاني" في الدولة، حيث سيطر على وزارة الداخلية والأمن المشتركة، وحصل على منصب النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء. بينما حصل مولوتوف، بولغانين، وكاغانوفيتش على مناصب نواب لرئيس مجلس الوزراء. أما فوروشيلوف، فقد حصل على منصب شرفي كرئيس لهيئة الرئاسة. لكن الصراع على السلطة لم يتوقف هنا، حيث رأى رفاق مالينكوف أنه حصل على "قطعة كبيرة جدًا من الكعكة". تم الضغط عليه، وفي 14 مارس، وُضع أمام خيار: إما الاحتفاظ بمنصب رئيس مجلس الوزراء أو منصب الأمين الأول للحزب. لم يستطع مالينكوف مقاومة هذا الضغط واختار مجلس الوزراء. فأصبح نيكيتا خروتشوف الأمين الأول للجنة المركزية.
لكن في الواقع، كان بيريا هو "الزعيم الخفي". لقد كان ل "لافرينتي بيريا" هيبة حقيقية، ومهارات إدارية عالية، وفي جعبته إنتصارات وإنجازات حقيقية، بالإضافة إلى سيطرته على جهاز القمع في الإتحاد السوفياتي. كما كان يعمل في تحالف مع مالينكوف.
بعد مقتل (أو اغتيال؟) بيريا، تم تشويه سمعته بأسطورة سوداء تصوره على أنه "جلاد" ستالين، وحش مطلق. هذه الأسطورة دعمها الغرب بحماس، وكذلك الليبراليون في الإتحاد السوفياتي. تم إختراع هذه الأسطورة، مثل أسطورة ستالين، بهدف تشويه الحقبة الستالينية تمامًا. فقد بدا القادة اللاحقون، وخاصة خروتشوف، أقزامًا مقارنة بهذين العملاقين. بدلًا من إثبات كفاءتهم كقادة، إختار خروتشوف طريق "تقزيم" القادة السابقين.
في الواقع، العديد من الجرائم التي أُلصقت ببيريا بعد موته (ولم يكن لديه من يدافع عنه) كانت من فعل خصومه أنفسهم. على سبيل المثال، مالينكوف نفسه، خلال فترة "يجوفشينا" (عندما كان نيكولاي يجوف يرأس وزارة الداخلية بين 1936-1938)، كان مالينكوف يشرف على وزارة الداخلية في المكتب السياسي خلال أشهر عمليات "التطهير". كما أنه نفذ بنفسه عمليات قمع في بيلاروسيا. أما خروتشوف، فقد قاد عمليات التطهير في منظمة الحزب بموسكو وأوكرانيا. وحتى عندما بدأ التخفيف من عمليات التطهير الواسعة، استمر خروتشوف. في عام 1939، أرسل له ستالين برقية تقول: "كفى، أيها الأحمق".
على العكس من ذلك، عندما تولى بيريا وزارة الداخلية (في ديسمبر 1938)، بدأ العمل على تصحيح الأخطاء، حيث تمت تبرئة آلاف الأشخاص، واستعادة حقوقهم، بينما تمت معاقبة المسؤولين عن القمع المفرط.
بالطبع، لا ينبغي تقديس بيريا أيضًا، فهو لم يكن "فارسا بقفازات بيضاء". كان شخصية نموذجية من ذلك العصر القاسي، مر بتجربة النضال السري والثورة والحرب الأهلية. كان قوي الإرادة، صارمًا، وذكيًا. لكنه، على عكس خروتشوف، كان مفكرًا استراتيجيًا عميقًا، دون ميول سادية. لم يكن مؤيدًا لإراقة الدماء غير الضرورية. في جورجيا، على سبيل المثال، هناك حادثتان مثيرتان للاهتمام: في عام 1924، عندما كان نائبًا لرئيس الشرطة المحلية، حاول منع تمرد القوميين بتسريب معلومات تفيد بأن المؤامرة مكشوفة. لكن القوميين لم يستجيبوا للتحذير. وأثناء "التطهير الكبير"، عندما كان يرأس الحزب الشيوعي الجورجي، منع حدوث إرهاب واسع النطاق. في جورجيا، تم قمع 5 آلاف شخص فقط، وهو عدد قليل نسبيًا نظرًا لقوة القوميين والتروتسكيين والمناشفة السابقين هناك.
لهذا السبب عين ستالين بيريا مكان "يجوف". أصبحت حملة القمع الجديدة موجهة ضد المسؤولين عن الاعتقالات غير المبررة، أولئك الذين أشعلوا نيران الإرهاب. تمت مراجعة جميع القضايا، وأجريت عمليات تبرئة جماعية. في عام 1939، بناءً على تكليف من ستالين، تم إطلاق سراح آلاف الكهنة والقساوسة وأتباعهم الذين أدينوا في قضايا "كنسية". تم إنشاء قسم خاص في وزارة الداخلية لمراجعة هذه القضايا والاهتمام بشؤون الكنيسة. لم يكن هذا القسم يراقب الكنيسة فحسب، بل كان يحميها أيضًا من الهجمات والمحاولات المختلفة. لأن جهاز البطريركية كان يعمل بشكل غير قانوني حتى عام 1943.
أصلح بيريا الوضع الكارثي في مجال الاستخبارات السوفياتية (التي دُمرت فعليًا في 1937-1938) والصناعة الدفاعية. فقد سُجن مصممون ومهندسون مثل توبوليف، مياسيشيف، بيتلياكوف، كوروليوف، وتوماشفيتش، وغيرهم الكثير. هؤلاء هم من أصبحوا لاحقًا فخر التاريخ السوفياتي. كان من الممكن أن يهلكوا في السجون أو يفقدوا قدرتهم على الإنجاز. لكن بيريا لم يبرئهم فحسب، بل تولى رعايتهم شخصيًا، وساعد في إعادة بناء المصانع ومكاتب التصميم والمعاهد المدمرة. وساعدهم بالكوادر والمعدات.
قاد بيريا شخصيًا عملية إعادة بناء جهاز الإستخبارات السوفياتي. واختار لمساعدته في هذا العمل المهم "بافل سودوبلاتوف"، الذي كان مخططًا استبعاده من الحزب واعتقاله. وفقًا لتصريحاته، قام بيريا بإطلاق سراح جميع الخبراء المتخصصين الناجين الذين كانوا مسجونين في المعتقلات والسجون على دفعات. كما نجح في أن يُكلف من قبل المكتب السياسي بالإشراف على الإستخبارات الإستراتيجية. أي أن بيريا تمكن من "مركزة" إدارة أجهزة الأمن التابعة لمختلف المؤسسات – مثل المديرية الرئيسية لأمن الدولة (إينو إن كي في دي)، واستخبارات الجيش الأحمر (جي آر يو)، وغيرها. كانت هذه مهمة بالغة الأهمية، حيث كان من المعتاد أن تتنافس هذه الأجهزة وتعمل بشكل غير متناسق.
وبحسب سودوبلاتوف، قام بيريا بمراجعة جذرية لاستراتيجية أجهزة الإستخبارات السوفياتية. فإذا كانت المهام الرئيسية منذ بداية العشرينيات تنظيم عمليات عبر الأحزاب الشيوعية الأجنبية ومحاربة منظمات المهاجرين، فإن هذا النشاط لم يعد أولوية الآن. نقل بيريا أولويات الإستخبارات السوفياتية إلى تعزيز عمل الشبكات الإستخباراتية في المجالات السياسية والإقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وإلى تجنيد العملاء أو زرع عملاء نفوذ. بدأ العمل بنشاط لاستعادة الشبكات الإستخباراتية.
وفي فترة قصيرة جدًا (فالبناء أصعب من الهدم)، تم إنجاز هذه المهمة الجبارة قبل الحرب. وصلت آليات أجهزة الإستخبارات السوفياتية إلى مستوى أفضل أجهزة الاستخبارات العالمية، مثل البريطانية أو الألمانية.
في عام 1942، تمكن بيريا، بصفته عضوًا في اللجنة الحكومية للدفاع (GKO)، من تنظيم دفاع عن القوقاز بقوات صغيرة ودون خطوط مُعدة مسبقًا. وهذا أيضًا إنتصار له وإنجاز يُحسب له. كما أن الفضل يعود إلى بيريا في أن أجهزة المخابرات الألمانية فشلت في بداية الحرب في تنظيم عمليات جادة لـ"الطابور الخامس" في مؤخرة الجبهة السوفياتية. على الرغم من أن الآمال كانت كبيرة جدًا، وأن الألمان نشطوا بشكل كبير، إلا أنهم لم يحققوا نجاحًا يُذكر في هذا المجال. مع أنه لا يمكن اتهامهم بعدم امتلاك الكفاءة العالية. فقد تمكّن الإتحاد السوفياتي قبل الحرب من تحييد الجزء الأكبر من العملاء المعادين.
بعد عام 1942، نُقل بيريا، بصفته أحد أبرز الإداريين في عصره، إلى جبهة عمل أخرى بالغة الأهمية. تمت إعادة هيكلة الأجهزة: انفصلت وزارة أمن الدولة (NKGB) عن وزارة الداخلية (NKVD)، وتم نقل الإستخبارات الإستراتيجية إلى سيطرة بيريا. عُين بيريا للإشراف على تطوير أنواع جديدة من الأسلحة. تحت رعايته، تم إنشاء مؤسسات مسؤولة عن الدفاع الوطني، بما في ذلك معهد موسكو الميكانيكي للذخيرة (الذي أصبح لاحقًا معهد موسكو للفيزياء والهندسة). كما ترأس اللجنة الخاصة، أي تطوير الأسلحة النووية والهيدروجينية. لكن القول بأن الإتحاد السوفياتي "سرق" سر القنبلة النووية من الولايات المتحدة غير صحيح. فقد استخدم الأمريكيون نفس الأساليب عندما حصلوا على الجزء الأكبر من الإرث العلمي والتقني للرايخ الثالث. لذلك يجب أن نقول "شكرًا" لبيريا لأنه في الفترة الأصعب، عندما كان الإتحاد السوفياتي مهددًا بحرب عالمية ثالثة باستخدام الأسلحة النووية، حصلنا على سلاحنا النووي الخاص. هذه الحقيقة أخمدت حماسة "الصقور" في لندن وواشنطن، وتأسس توازن نسبي. بالمناسبة، ابن بيريا واسمه سرغو حقق مسيرة علمية رائعة وعمل لصالح الوطن.
من الواضح أن القصص عن "إغواء وخطف النساء" ليس لها أي علاقة بالواقع. لافرينتي بيريا كان رجلًا مخلصا ومحبًا لعائلته. حتى المنطق البسيط يتعارض مع هذه الإشاعات. في عهد ستالين، كان الدخول في مثل هذه المغامرات أمرًا خطيرًا للغاية. فمثلًا، أباكوموف كان سيسرع بالإبلاغ عن مثل هذه الحالة بكل سرور. وبيريا لم يكن أبدًا شخصًا غبيًا.
كان بيريا رجلاً دعم مبادرات ستالين وأدرك أهمية الإصلاحات الجذرية. فبحسب فكر ستالين، كان على الحزب أن يصبح نوعًا من "نظام الفرسان"، أي هيكلًا أيديولوجيًا بحتا دون الحاجة للسلطة الفعلية. كان على الحزب أن يوحّد الأشخاص الأكثر نشاطًا والمتمتعين بمُثُلٍ عالية. وكان من المفترض أن تنتقل جميع السلطات إلى السوفييتات المحلية، أي أنه كان سيتم فعليًا استعادة الحكم الذاتي المحلي الحقيقي. كما جرى تطوير إصلاحات أخرى لتحسين مستوى معيشة الكولخوزيين (أعضاء المزارع الجماعية)، وغير ذلك. يمكن قراءة المزيد عن هذا الموضوع وغيره في الكتب الرائعة لـ*يوري موخين*.
بصفته رئيسًا للمخابرات، كان بيريا على دراية بواقع الحال في البلاد أكثر من الكثيرين. كان يعرف عن الإختلالات في الاقتصاد، والوضع الصعب للفلاحين، وما إلى ذلك. إصلاحات بيريا، الخطط
لذلك، عندما توفي ستالين، حاول بيريا مواصلة مسيرته وبدأ إصلاح النظام. تم تنفيذ عفو عام، الذي اعتبره مناهضو "الشمولية" إجراءا سلبيا، زاعمين أنها كانت خطة ماكرة. كان يُفترض أن يزيد السجناء السابقون من معدل الجريمة في البلاد، ليصبح بيريا ديكتاتورًا، "نسخة ثانية من ستالين". تم الإفراج عن 900 ألف، وبحسب مصادر أخرى 1 مليون و200 ألف شخص. لم يشمل العفو "المجرمين العائدين للإجرام": فقد أُطلق سراح الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات قصيرة – 5 سنوات أو أقل، والأمهات اللاتي لديهن أطفال دون العاشرة، والأشخاص المدانون بمخالفات إدارية أو اقتصادية، وكذلك من سُجنوا بسبب قضايا "يومية" أو "قرارات رئاسية" – مثل مخالفات انضباط العمل، والسرقات الصغيرة، والتزوير، وأفراد عائلات ما يُسمى بـ"المجرمين السياسيين". أي أنه تم إطلاق سراح أولئك الذين لا يشكلون تهديدًا للدولة أو للأفراد. ومن بين المجرمين، أُفرج فقط عن المشاغبين الصغار والسارقين البسطاء.
نعم، لقد أخرج بيريا مصلحة السجون من تبعية وزارة الداخلية وسلمها لوزارة العدل. كما نقل الإدارات الرئيسية للبناء والإنتاج في السجون إلى الوزارات القطاعية. تم تقليص صلاحيات "اللجنة الخاصة" التابعة لوزارة الداخلية، وأُغلقت سلسلة من القضايا مثل "قضية المنجيليين"، و"قضية الأطباء"، و"قضية شاخورين"، و"قضية المارشال ياكوفليف". بدأ بيريا حملة "تطهير" جديدة في أجهزة القمع، وجرى التحقيق في الاتهامات الكاذبة والأساليب غير القانونية في العمل.
إقترح بيريا إجراء إصلاحات جذرية في مجال الإقتصاد الوطني. حيث كانت صناعة الدفاع القوية والهندسة الميكانيكية وغيرها من فروع الصناعة الثقيلة قد أُنشئت بالفعل، وانتهت الحرب بانتصار، ولم يكن هناك تهديد بحرب كبرى جديدة، لذلك خطط لافرينتي بيريا لتعزيز تنمية الصناعات الخفيفة وصناعة الأغذية بشكل عاجل. وزيادة الإستثمارات في الزراعة، وخفض الضرائب على الفلاحين، وتوسيع الحكم الذاتي للكولخوزات، حتى إنشاء مشاريعهم الخاصة وتعاونياتهم، وإقامة روابط اقتصادية بين بعضهم البعض. وبالنظر إلى الخبرة الهائلة والناجحة التي إكتسبها بيريا في مجال الإقتصاد الوطني في جورجيا، يمكن القول إن مستوى معيشة الشعب كان سيرتفع بشكل حاد بعد هذه الإصلاحات، خاصة في الريف.
في السياسة الخارجية، كان بيريا ينوي تحسين العلاقات مع الغرب. وفي دول أوروبا الشرقية، اقترح التوقف عن بناء الاشتراكية وفقًا "للنموذج السوفياتي"، مؤكدًا على ضرورة إتباع نموذج أكثر مرونة يأخذ في الاعتبار الخصائص المحلية. وكان من المفترض أن يتم ربط هذه الدول بالإتحاد السوفياتي عبر قنوات أخرى — إقتصادية ودبلوماسية. وهذا كان سيتيح التخلي عن "المساعدة الأخوية" المكلفة للإتحاد السوفياتي وشعوبه لدول الإشتراكية الناشئة.
على ساحل البحر الأسود في القوقاز، خطط بيريا لإنشاء منطقة سياحية من الطراز العالمي، بجذب مستثمرين غربيين على أساس الامتيازات (الكونسسيونات). وبذلك، يكون قد أنشأ نوعًا من "النافذة" لجذب رأس المال الأجنبي إلى الإتحاد السوفياتي. أي أن بيريا سبق فعليًا الخطط الحالية لروسيا الاتحادية بإنشاء مثل هذه المنطقة في كراسنودار وسوتشي وغيرها.
بعض إجراءات بيريا تبدو مثيرة للجدل، لكن لا يمكن إنكار توجهها الإيجابي العام. كان بإمكانه أن يصبح نوعًا من "دنغ شياو بينغ" السوفياتي — حيث يحافظ على الأيديولوجية السوفياتية لكنه يسمح بمزيد من الحرية في الاقتصاد والحكم المحلي. وكقائد إداري، كان بيريا يتمتع بقدرات استراتيجية وتخطيطية تفوق خروتشوف وبقية القادة السوفيات بمراحل.
لكن كل هذه الخطط — سواء لستالين أو بيريا — تم إفشالها بسبب خروتشوف والأشخاص الذين وقفوا خلفه.
***** ملاحظات إضافية: - *دنغ شياو بينغ*: هو مهندس الإصلاحات الاقتصادية في الصين التي نقلتها من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق الاشتراكي، مع الحفاظ على سيطرة الحزب الشيوعي. - *الكونسسيونات (الامتيازات)*: نموذج استثماري تمنح فيه الدولة حقوق إدارة مشروع ما لشركة أجنبية مقابل عوائد مالية أو تقنية. - *المساعدة الأخوية*: إشارة إلى الدعم السوفياتي المكلف لدول الكتلة الشرقية، والذي كان يُثقل كاهل الإقتصاد السوفياتي. *****
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 549 – نتنياهو في بودابست كأنه في بيته
-
طوفان الأقصى 548 – حرب الولايات المتحدة مع الحوثيين – مكاسب
...
-
كيف دمر خروتشوف أسس الدولة السوفياتية
-
طوفان الأقصى547 – آخر أخبار من سوريا – ملف خاص
-
طوفان الأقصى 546 – الدراما حول قناة السويس - الجزء الثاني 2-
...
-
طوفان الأقصى 545 – الدراما حول قناة السويس - الجزء الأول 1-2
-
المؤرخ يفغيني سبيتسين - وفقًا ل-خطة أندروبوف-، كان من المفتر
...
-
طوفان الأقصى 544 – إسرائيل تعزز مواقعها في جنوب لبنان وتتقدم
...
-
طوفان الأقصى 543 – تطهير غزة -- إلى أين يُريدون تهجير الفلسط
...
-
على جثث مَنْ صعد غورباتشوف إلى السلطة
-
طوفان الأقصى 542 – كيفية حماية روسيا من تدفق الإرهابيين من س
...
-
طوفان الأقصى541 – هل الولايات المتحدة مستعدة لبدء حرب ضد إير
...
-
طوفان الأقصى 540 – الهجرة الطوعية - إسرائيل تستعد لاحتلال غز
...
-
البيريسترويكا – لغز عمره 40 عاما لم يحل بعد - الجزء الثالث 3
...
-
طوفان الأقصى 539 – وجها لوجه مع تركيا - كيف تغير نهج إسرائيل
...
-
البيريسترويكا – لغز عمره 40 عاما لم يحل بعد - الجزء الثاني 2
...
-
طوفان الأقصى 538 – الحوثيون يعتزمون مواصلة القتال حتى النهاي
...
-
البيريسترويكا – لغز عمره 40 عاما لم يحل بعد - الجزء الأول 1-
...
-
طوفان الأقصى 537 – من شرارة اشتعلت النار. لماذا استأنفت إسرا
...
-
ألكسندر دوغين – ترامب يبني نظامًا عالميًا جديدا للقوى العظمى
المزيد.....
-
الدفاع الروسية: قوات كييف استهدفت بنى الطاقة 8 مرات في 24 سا
...
-
نواف سلام يبحث مع أبو الغيط الوضع في لبنان والمنطقة
-
ليبيا.. حرائق غامضة تلتهم 40 منزلا في مدينة الأصابعة خلال 3
...
-
رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام يصل إلى دمشق حيث سيلتقي بال
...
-
-يجب علينا تخيُّل العالم ما بعد الولايات المتحدة- - الغارديا
...
-
الجزائر تمهل 12 موظفا في سفارة فرنسا 48 ساعة لمغادرة أراضيها
...
-
-ديب سيك - ذكيّ ولكن بحدود... روبوت الدردشة الصيني مقيّد بضو
...
-
انخفاض تعداد سكان اليابان إلى أدنى مستوى منذ عام 1950
-
جدل في الكنيست حول مصر.. وخبير يعلق: كوهين أحد أدوات الهجوم
...
-
وزير خارجية فرنسا يدعو لفرض -أشد العقوبات- على روسيا
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|