أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - تفكيك المقدس: العقل الفلسفي في مواجهة الإيمان المسيحي في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر














المزيد.....

تفكيك المقدس: العقل الفلسفي في مواجهة الإيمان المسيحي في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8306 - 2025 / 4 / 8 - 10:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

شكّل الإيمان المسيحي حجر الزاوية في البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية لأوروبا منذ العصور الوسطى، حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية تمثل السلطة العليا التي لا تعلوها سلطة. إلا أن الفلسفة الأوروبية الحديثة، منذ القرن السابع عشر، بدأت بمساءلة هذا الإرث اللاهوتي، وشرعت في تفكيك أسسه من خلال أدوات العقل والتجربة والتاريخ والشك المنهجي. لقد مثّل هذا النقد العميق انتقالاً جذرياً في علاقة الإنسان بالحقيقة والسلطة والمعنى، كما مهّد الطريق لنشوء العقلانية الحديثة، ولظهور مفاهيم جديدة للحرية، والتقدم، والذات، والعالم. في هذا السياق، لعب الفلاسفة دوراً حاسماً في زعزعة التصور الدوغمائي للعقيدة المسيحية، وفتحوا المجال أمام تأويلات جديدة للوجود الإنساني تتجاوز البنية اللاهوتية التقليدية. هذا النص يسعى إلى تقديم قراءة تحليلية عميقة لأهم الانتقادات التي وجّهها الفلاسفة الأوروبيون إلى الإيمان المسيحي، عبر المحطات الكبرى للفكر الحديث والمعاصر، من ديكارت حتى دريدا، مروراً بكانط، وهيوم، ونيتشه، وفويرباخ، وماركس، وفرويد، وسارتر، وهيدغر.

نقد الإيمان المسيحي في الفلسفة الحديثة:

لقد بدأت المساءلة الفلسفية الجدية للإيمان المسيحي مع رينيه ديكارت، الذي وإن لم يرفض العقيدة الدينية صراحة، إلا أنه أسس لمنهجية تشكك في جميع السلطات المعرفية السابقة، بما في ذلك الوحي والكنيسة. ورغم أنه حاول إثبات وجود الله من خلال العقل، إلا أن هذا المسعى ذاته كان إيذاناً بتحول مركز المعرفة من الإيمان إلى الذات العاقلة.

ثم جاء ديفيد هيوم، الذي اعتبر الدين مجرد نتاج للخوف والجهل، وهاجم المعجزات بوصفها مناقضة للعقل والتجربة، مشككاً في إمكانية تأسيس أي معتقد ديني على العقل التجريبي.

أما إيمانويل كانط، فقد أحدث منعطفاً حاسماً حين فصَل بين الدين والعقل العملي، مؤسساً لفكرة أن الإيمان لا يُبرّر بالبرهان العقلي بل هو ضرورة أخلاقية لضمان وجود "نظام عدالة" يكافئ الخير ويعاقب الشر. لكنه بهذا الإجراء ذاته جرّد الدين من حقيقته اللاهوتية التاريخية، وحوّله إلى فرضية أخلاقية ضرورية لا أكثر.

ثم جاء لودفيغ فويرباخ، الذي أعلن بشكل صريح أن الدين هو إسقاط لإنسانية الإنسان على صورة خيالية في السماء. فالإله ليس إلا انعكاساً لحاجات الإنسان النفسية والوجودية. بهذا فتح فويرباخ الباب أمام كارل ماركس، الذي رأى في الدين أداة أيديولوجية تُستخدم لتخدير الجماهير وإدامة علاقات القهر الطبقي، واعتبر أن "الدين أفيون الشعوب" لأنه يعيق الوعي الطبقي والثورة الاجتماعية.

وفي السياق ذاته، قدّم سيغموند فرويد تفسيراً نفسياً للإيمان، معتبراً أن الدين هو "وهم جماعي"، ناتج عن احتياجات الإنسان الطفولية للأب الحامي، وأنه شكل من أشكال العصاب الجماعي الذي ينبغي تجاوزه عبر التحليل النفسي والعقل العلمي.

غير أن أعنف نقد للإيمان المسيحي جاء من فريدريش نيتشه، الذي أعلن "موت الإله"، ليس بمعنى موت الكائن المتعالي، بل موت النظام القيمي الذي أسسته المسيحية. رأى نيتشه أن المسيحية تمجّد الضعف، وتحطّ من شأن الحياة، وأنها تسوّق لمفهوم أخلاقي عبودي يتعارض مع "إرادة القوة" التي ينبغي أن تميز الإنسان الأعلى.

نقد الإيمان المسيحي في الفلسفة المعاصرة:

مع القرن العشرين، استمر التفكيك لكن بطرائق أكثر تعقيداً. فقد رأى جان بول سارتر أن الإيمان المسيحي يفرغ الإنسان من حريته، ويجعله محكوماً بإرادة خارجية، في حين أن الوجود الإنساني سابق على الجوهر، ولا يحتاج إلى إله ليمنحه معنى. واعتبر أن الإنسان مشروع مفتوح يصنع نفسه بنفسه، مما يجعل وجود الله عقبة أمام الحرية الأصيلة.

أما مارتن هيدغر، فقد تجاوز النفي الصريح للدين، لكنه قلّل من شأنه بربطه بنسيان الكينونة، معتبراً أن اللاهوت المسيحي حجب السؤال الأصلي عن الوجود. فالمسيحية، بنظره، غيّرت مجرى الفلسفة من الاهتمام بالكينونة إلى الانشغال بكائن أعلى، ففقد الفكر الأوروبي جوهره الأصيل.

وفي الاتجاه التفكيكي، وجّه جاك دريدا نقداً ضمنياً للإيمان المسيحي من خلال تفكيكه للبنية الميتافيزيقية التي تقوم عليها المفاهيم اللاهوتية، وخاصة الثنائيات مثل الحضور/الغياب، والخير/الشر، واللاهوت/الإنسان. بالنسبة لدريدا، فإن كل المعاني التي ينطوي عليها الدين المسيحي لا تستند إلى أساس ثابت، بل هي ناتجة عن لعبة الاختلاف والتأجيل.

إن نقد الفلاسفة الأوروبيين للإيمان المسيحي لم يكن مجرد تمرين فكري، بل شكّل انقلاباً إبستمولوجياً ومعرفياً حاداً على البنية التقليدية للعقيدة، ومساءلة جذرية للسلطة الدينية التي سيطرت على الوعي الأوروبي لقرون طويلة. لقد مزّق هؤلاء الفلاسفة الحجاب الذي كانت الكنيسة قد فرضته على العقل، وفتحوا آفاقاً جديدة لفهم الذات والعالم بعيداً عن التصورات الغيبية. وبينما رأى بعضهم في الدين وهمًا نفسياً، أو أداة أيديولوجية، أو انحرافًا عن السؤال الأصلي للكينونة، فإن ما يجمعهم جميعاً هو الرغبة في إعادة تعريف الحقيقة والحرية والمعنى من منظور إنساني يتجاوز العقيدة. وهكذا، فإن نقد الإيمان المسيحي في الفلسفة الأوروبية الحديثة والمعاصرة لم يكن مجرد رفض للدين، بل كان محاولة شاملة لتحرير الإنسان من القيود الميتافيزيقية، وإعادة بنائه ككائن حر، فاعل، ومسؤول عن مصيره في عالم خالٍ من الضمانات المطلقة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما بعد الهيمنة : قراءة في خرائط النظام العالمي الجديد
- صراع العمالقة : الولايات المتحدة والصين ... إعادة رسم خرائط ...
- نظرية المعرفة عند ابن رشد: العقل، التجربة، والتأويل الفلسفي
- من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي: التحولات الفلسفية للسلطة
- الوعي المقيد والوعي الحر: قراءة في أنماط التصديق الدوغمائي و ...
- فاطمة الفهرية: سيدة العلم التي شيدت أول جامعة في التاريخ
- جدلية السلطة والفكر: قراءة موسوعية في تطور الأفكار السياسية ...
- المنطق الرياضي: حجر الأساس للعقلانية والاستدلال في عصر الذكا ...
- مارتن لوثر وثورة الفكر: التداعيات الفلسفية للإصلاح الديني عل ...
- الفلسفات المادية الأوروبية: أزمات جوهرية وتحديات مستقبلية في ...
- ما بعد العلمانية: تحولات المفهوم ومآلاته الفلسفية
- جون لوك: ثورة فكرية غيرت مسار الفلسفة والسياسة
- العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى
- سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان
- تحولات السلطة والفكر: رحلة الفلسفة السياسية الأوروبية من ميك ...
- العلمانية الإنسانية: يوتوبيا زائفة أم أزمة وجودية؟
- حماس بين التصنيفات الدولية: جدلية المقاومة والإرهاب في ميزان ...
- الحرية بين وهم الحداثة وسلطة الخوارزميات: من التنوير إلى الا ...
- حفلة شاي بوسطن: شرارة الثورة الأمريكية وتغير موازين التاريخ
- ما بعد سايكس بيكو: تحرير الأمة من سجون الجغرافيا والتاريخ


المزيد.....




- الدفاع الروسية: قوات كييف استهدفت بنى الطاقة 8 مرات في 24 سا ...
- نواف سلام يبحث مع أبو الغيط الوضع في لبنان والمنطقة
- ليبيا.. حرائق غامضة تلتهم 40 منزلا في مدينة الأصابعة خلال 3 ...
- رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام يصل إلى دمشق حيث سيلتقي بال ...
- -يجب علينا تخيُّل العالم ما بعد الولايات المتحدة- - الغارديا ...
- الجزائر تمهل 12 موظفا في سفارة فرنسا 48 ساعة لمغادرة أراضيها ...
- -ديب سيك - ذكيّ ولكن بحدود... روبوت الدردشة الصيني مقيّد بضو ...
- انخفاض تعداد سكان اليابان إلى أدنى مستوى منذ عام 1950
- جدل في الكنيست حول مصر.. وخبير يعلق: كوهين أحد أدوات الهجوم ...
- وزير خارجية فرنسا يدعو لفرض -أشد العقوبات- على روسيا


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - تفكيك المقدس: العقل الفلسفي في مواجهة الإيمان المسيحي في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر