وليد عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 8305 - 2025 / 4 / 7 - 20:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة
إن التفلسف يمثل رحلة عقلية وروحية مستمرة تهدف إلى استكشاف الحقيقة والسعي نحو الحكمة، وهو مسار يتطلب شجاعة فكرية واستعدادًا للتخلي عن الطمأنينة الزائفة التي توفرها الأوهام المريحة، منذ عصر سقراط وأفلاطون في الفلسفة اليونانية، مرورًا بفلاسفة الحداثة مثل نيتشه وسارتر، ظل التفلسف يعكس اختيار الحقيقة على الراحة، وربط هذا الاختيار بالحكمة التي يجسدها الحكيم في حياته من خلال تجاوز المخاوف والتخلي عن الأمل الزائف، سنستند إلى آراء فلاسفة بارزين لنخلص في النهاية إلى كيفية قيادة التفلسف للإنسان نحو حياة ذات معنى أعمق.
أولا: اختيار الحقيقة على الطمأنينة
يؤكد الفيلسوف اليوناني سقراط على أهمية البحث عن الحقيقة من خلال التساؤل والحوار، حتى لو اقتضى ذلك التخلي عن الراحة أو الطمأنينة الزائفة الناتجة عن قبول الآراء السائدة دون تمحيص، في “مثل الكهف” الوارد في كتاب “الجمهورية” لأفلاطون، يصور سقراط السجناء المقيدين داخل كهف يرون ظلالاً على الحائط ويعتبرونها الحقيقة الوحيدة، وعندما يتحرر أحدهم ويواجه النور الخارجي، يعاني من الألم والارتباك بسبب الانتقال من الظلام إلى الضوء، لكنه يختار هذا المسار الصعب بدلاً من البقاء في الجهل المريح، يقول سقراط عبر أفلاطون: “تخيل الآن أن أحدهم يُحرر من قيوده ويكتشف أن الظلال ليست الواقع… سيكون مرتبكًا في البداية، لكنه سيصعد نحو النور”، هذا المثل يعكس جوهر التفلسف: اختيار المعرفة الحقيقية على الطمأنينة الوهمية.
وقد أوضح الباحث الاسكتلندي ويليام جوثري في كتاب “تاريخ الفلسفة اليونانية” الطريقة السقراطية لتحدي المعتقدات التقليدية، دافعًا الناس للتفكير النقدي حتى لو أزعجهم ذلك، مؤكدًا أن الحقيقة تستحق التضحية بالراحة، بل إنه اختار الموت دفاعًا عن فلسفته بدلاً من التراجع لأجل النجاة.
هذه الفكرة لم تقتصر على سقراط، فقد أكدها فلاسفة الحداثة أيضًا، فريدريك نيتشه، في كتابه “هكذا تكلم زرادشت”، دعا إلى مواجهة الحقائق القاسية مثل “موت الإله”، وهي فكرة تعني انهيار المعتقدات الدينية التقليدية كمصدر للطمأنينة، حاثًا الإنسان على خلق قيمه الخاصة ومواجهة الحياة بشجاعة، في حديث “الرجل المجنون”، يعلن زرادشت أن “الإله مات”، داعيًا إلى التخلي عن الأوهام المريحة لصالح الحقيقة الوجودية، كذلك، يركز جون ستيوارت ميل في كتابه “الحرية” على أهمية النقاش الحر والحرية الفردية كوسيلة للوصول إلى الحقيقة، حتى لو أدى ذلك إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي. يقول ميل: “إذا كان كل البشر يملكون رأيًا واحدًا، وشخص واحد فقط يملك رأيًا معاكسًا، فإن البشرية لن تكون مبررة في إسكات ذلك الشخص”، وفي كتابه “النفعية”، يميز بين الملذات العليا (كالمعرفة) والدنيا (كالراحة)، مؤكدًا أن “من الأفضل أن تكون سقراط غير راضٍ من أن تكون أحمق راضيًا”، مما يعكس تفضيل الحقيقة على الطمأنينة.
التفلسف، إذن، هو اختيار الحقيقة على الراحة، وهو ما يميزه عن التنمية الشخصية التي قد تركز على الرضا والإيجابية، لهذا يرى أبراهام ماسلو في “هرم الحاجات” أن الراحة والأمان أساسيان قبل تحقيق الذات، لكن الفلسفة تتجاوز ذلك إلى البحث عن الحقيقة المجردة، في المقابل، يشير إلى أهمية المشاعر الإيجابية كأداة علاجية، ويؤكد مارتن سليجمان في “Flourish” على بناء عادات إيجابية لتحسين الحالة النفسية، لكن الفيلسوف، على عكس الطبيب النفسي، لا يسعى للعلاج بل للتنوير، كما يرى شوبنهاور في “العالم إرادة وتمثلا” أن الفلسفة ليست علاجًا للمعاناة بل وسيلة لفهمها، مؤكدًا أنها تخاطب الأصحاء نفسيًا الساعين إلى الوضوح لا الراحة.
ثانيا: التفلسف والحكمة
يرتبط التفلسف بالحكمة ارتباطًا وثيقًا، لكن بتمييز جوهري: الفيلسوف يبحث عن الحكمة، بينما الحكيم يعيشها، كلمة “فيلسوف”، المشتقة من “philosophia” اليونانية بمعنى “محب الحكمة”، تشير إلى من يسعى إلى الحكمة عبر التفكير النظري وطرح الأسئلة العميقة حول الوجود والأخلاق والحقيقة، فأفلاطون، على سبيل المثال، قضى حياته في البحث عن الحكمة من خلال حواراته الفلسفية، وديكارت سعى إلى معرفة يقينية عبر التأمل العقلي، هذا السعي الفكري يجعل الفيلسوف متأملًا ومنظرًا، لكنه قد لا يصل بالضرورة إلى تجسيد الحكمة في حياته.
في المقابل، الحكيم هو من يُعتقد أنه بلغ الحكمة ويعيشها عمليًا، حيث تتجلى في سلوكه وقراراته اليومية، الحكمة هنا ليست مجرد معرفة نظرية، بل خبرة حياتية وتوازن عملي، فسقراط، على الرغم من دوره كفيلسوف، عاش كحكيم من خلال التزامه بمبادئه حتى الموت، وبوذا جسد الحكمة في حياته دون الحاجة إلى تدوين أفكاره، الحكيم لا يكتفي بالحديث عن الحكمة، بل يظهرها في أفعاله، مما يجعله نموذجًا حيًا للحياة الجيدة التي يسعى الفيلسوف لفهمها.
ثالثا: الانتصار على المخاوف
يعد الانتصار على المخاوف أحد أبرز معايير الحياة الجيدة التي يجسدها الحكيم، لأن الخوف يقيد الإنسان ويحول دون تحقيق الفضيلة، الفلاسفة الرواقيون، مثل سينيكا وإبكتيتوس وماركوس أوريليوس، ربطوا الحكمة بالقدرة على تجاوز المخاوف بالعقل والإرادة، يرى سينيكا في “رسائل إلى لوسيليوس” أن المخاوف الواهية، كالرهاب من أمور تافهة، تضر بالسلام الداخلي وتدفع الإنسان إلى سلوكيات غير عقلانية، بينما الحكيم يتغلب عليها بالتفكير المنطقي، كذلك، يؤكد جان بول سارتر أن الخوف والقلق جزء من الحرية الإنسانية، وأن الحياة الجيدة تتحقق عندما ينتصر الإنسان على خوفه من العدم ويخلق معنى لحياته، مما يعكس شجاعة وجودية.
وفي رواية “زوربا اليوناني” لنيكوس كازانتزاكيس، يظهر زوربا كحكيم عملي يتحدى المخاوف التي تعيق الآخرين، يعيش زوربا الحياة بجرأة وعفوية، متخليًا عن الخوف من الفشل أو الحكم الاجتماعي، كما يتضح في رقصته الشهيرة التي تعبر عن تحرره، فيسخر من المخاوف التقليدية ويظهر حبه للآخرين بعلاقاته الإنسانية العميقة، مما يجعله قادرًا على التفكير بحرية والانفتاح على العالم، الحكيم، إذن، يتجاوز المخاوف الواهية ليصبح أكثر عقلانية وحيوية، مما يعزز قدرته على العيش بتوازن وحب.
رابعا: التخلي عن الأمل والحنين
المعيار الثاني للحياة الجيدة، في ضوء الحكمة، يكمن في التجاوز الواعي للأمل كتعلق بالمستقبل وللحنين كأسر للماضي، وهو موقف قد يبدو، لأول وهلة، غريبًا عن التصورات الشائعة للسعادة، في الأساطير الإغريقية، كما ترويها قصة باندورا في "الأعمال والأيام" لهسيود، حيث يُقدَّم الأمل كعنصر ملتبس، محبوس في الجرة بعد أن أُطلقت الشرور على البشرية، وقد رأى فيه مفكرون لاحقون أقسى الآفات، ليس لكونه شرًا في ذاته، بل لأنه مرآة تعكس النقصان المتأصل في الواقع: فالأمل بالصحة ينبع من وعي المرض، والتوق إلى الثروة يتغذى من الشعور بالحاجة، والرغبة في الحب تكشف عن عدم وجوده، وهذا ما يظهرمشكلة الأمل في جعله قيد ، يشد الإنسان إلى المستقبل بتوقعاته والحنين إلى الماضي ، فيُبعده عن ملء الحاضر بحضوره.
الحكيم، في هذا الإطار، هو من ينعتق من هذين الوهمين – أسر الماضي وقلق المستقبل – ليستقر في اللحظة الراهنة، متجسدًا في كيانه بكليته، الأمل بما يحمل من إشارة إلى النقص، يتحول إلى عبء حين يحصر الإنسان في دوامة الانتظار والتأجيل، بينما الحياة الجيدة – تلك التي تستحق أن تُعاش بحكمة – تتجلى في القدرة على احتضان الوجود كما هو الآن، دون تشتت بين ما كان وما قد يكون، إن هذا المنظور يؤسس للحكمة كفضيلة لا تقوم على السعي المتواصل وراء أوهام الغد، بل على التسليم العميق لما هو كائن، والعيش فيه بسلام داخلي ويقين واعٍ، فالحياة الجيدة، بهذا المعنى، ليست غاية مؤجلة، بل ممارسة يومية للقبول والاكتفاء بالحاضر، حيث يجد الإنسان ذاته متحققًا في سكون الحكمة.
خاتمة
في الختام، يبرز التفلسف كمسار مزدوج يجمع بين السعي إلى الحقيقة والوصول إلى الحكمة، لكنه يتطلب شجاعة فكرية وروحية لمواجهة الحقائق الصعبة والتخلي عن الطمأنينة الزائفة. من خلال اختيار الحقيقة على الراحة، كما دعا إليه سقراط ونيتشه وميل، يبدأ الفيلسوف رحلته نحو الحكمة التي يعيشها الحكيم بتجاوز المخاوف الواهية، كما أكد الرواقيون وسارتر وزوربا، والتخلي عن الأمل كما عبرت عنه الأساطير الإغريقية، التفلسف ليس مجرد تأمل فكري، بل أسلوب حياة يقود إلى معنى أعمق من خلال الوضوح والتوازن، إنه دعوة للعيش بصدق وشجاعة، حيث يتقاطع البحث عن الحقيقة مع تجسيد الحكمة في حياة تستحق أن تُعاش.
#وليد_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟