أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد يحيى عبيد - موقف الأديب بين الانحياز والتحيز















المزيد.....


موقف الأديب بين الانحياز والتحيز


عماد يحيى عبيد

الحوار المتمدن-العدد: 8305 - 2025 / 4 / 7 - 13:37
المحور: الادب والفن
    


لا يستطيع أحد أن يتهم من ينحاز إلى القيم الأخلاقية العليا في الحياة بالتواطؤ أو التعصب أو العنصرية، فالانحياز للخير والعدالة والتسامح والحق والعطاء سمات متجذرة في روح الإنسان، هذه القيم شأنها شأن القيم الجمالية كالحب والفرح والجمال، جميعها لا تقبل الازدواجية في الموقف ولا الاختلاف حولها، تميل إليها النفس الإنسانية بحكم الوعي الوجودي والأصالة الروحية، بينما يصبح التحيز موقفا عدوانيا عند التنكر لهذه القيم وتزييفها وتجييرها بعكس مسارها، لكن الفكر الشيطاني قد انتهج أساليبا خبيثة ليهدم منظومة القيم العليا حين تلاعب بالمفاهيم والمعايير المؤسسة لتلك القيم والناظمة لها خدمة لمآربه السلطوية، فروّج للظلم والشر والقبح والاستغلال باستخدام مساحيق تجميلية مبتكرة وأقنعة تنكرية خادعة ليقلب الصورة الأصلية، ويزور الحقائق كي يبقى مهيمنا وفارضا لقوته المخربة لمنظومة الحياة برمتها.
أمام هذا التناحر بين منظومتي الخير والشر، العدالة والظلم، الجمال والقبح، يقع على عاتق القامات البارزة في شتى مناحي الحياة – لا سيما المبدعين - مهمة تأصيل الموقف الحاسم المنحاز للقيم النبيلة ونبذ التحيز إلى عصبة الشر، ففي أتون هذه المعركة الضارية بين الخندقين مازالت السياسات العربية قاصرة عن الدفاع عن حقوقها، ومازال الإعلام العربي متخلفا عن استثمار المواقف والفرص التاريخية وتوظيفها لنصرة قضايا أمته العادلة، فهناك الكثير من مواقف لأعلام وأساطين في الفكر والعلوم العلمية والإنسانية في شتى بقاعِ العالم وقفوا مواقف مشرفة من القضايا العالمية العادلة عموما والعربية خصوصا، لم تستثمر وتستغل كحقائق وقرائن لنصرة الحق، خاصة القضية الفلسطينية.
بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وقيام إسرائيل في 14/5/1948 تولى (حاييم وايزمان 1880-1952) منصب رئاسة الدولة الهجينة، فيما تولى (دافيد بن غوريون 1890- 1973) منصب رئاسة الوزراء، وبعد وفاة وايزمان في 8/11/1952 شغر منصب رئيس الدولة، فكلف بن غوريون سفيره في الولايات المتحدة (أبا إيبان 1915-2002) ليعرض على العالم الشهير (البرت أينشتاين 1879-1955) تولي رئاسة إسرائيل بصفته يهودي أولا، ولاستغلال اسمه العلمي المرموق ليسوق للدولة المحدثة حضورها الدولي ثانيا، بشرط أن يقبل الجنسية الإسرائيلية ويقيم إقامة دائمة في الكيان الجديد، فرفض أينشتاين العرض بدبلوماسية مقنّعة أنه لا يصلح لهذه المهمة، غير أن لأينشتاين أسباب أخرى، فقد سبق له أن وصف قيام دولة إسرائيل قبل عشر سنوات من قيامها بأنه (شيء يتعارض مع الطبيعة اليهودية) وقال بعدها عن مشروع قيام الدولة (إنه أمر سيء) كما أرسل مع ثلة من الأكاديميين رسالة إلى صحيفة (نيويورك تايمز) عام 1948يشجبون فيها زيارة (مناحيم بيجن 1913-1992) إلى أمريكا بوصفه زعيم حزب الحرية (حيروت) ووصفوه بأنه حزب نازي وفاشي، وذلك على إثر ارتكابه لمجزرة دير ياسين كونه قائدا لعصابة (أراغون)، ولما حاول (شيبرد ريفكن) المدير التنفيذي لجمعية (أصدقاء المقاتلين من أجل حرية إسرائيل) - ومقرها أمريكا - التقرب من أينشتاين وإمالته لدعم جمعيته، أجابه برسالة تم التعتيم عليها يقول في نهايتها ( أنا لست على استعداد لرؤية أي شخص مرتبط بهؤلاء الأشخاص المضللين والمجرمين) وقد كُشفت تلك الرسالة لاحقا وبيعت في مزاد علني ووصفت بأنها واحدة من أكثر الوثائق المعادية للصهيونية التي تُنسب إلى العالم العبقري، وهناك قول لم يتم التأكد من توثيقه أن أينشتاين علل رفض قبوله لرئاسة الدولة المصطنعة بأنه لا يقبل أن يكون رئيسا لدولة مسخ. فمثل هذه المواقف لقامة بحجم أينشتاين لم تستثمرها السياسات العربية في المحافل الدولية، ولا جرى تكريسها وتدريسها ونشرها، سيما أنها صادرة عن أهم شخصية يهودية مؤثرة في تاريخ العالم.
هذا على صعيد رصد موقف لشخصية علمية توازي شهرتها أهم مشاهير العالم، أما على صعيد الأدب والأدباء فهناك الكثير من المواقف – إيجابا وسلبا – لأدباء عالميين جاهروا بآرائهم إما انحيازا للعدالة أو تحيزا للظلم جديرة أن يسلط الضوء عليها.
بعد مرور خمسة عشر عاما على وفاة الأديب البرتغالي الكبير (خوسيه ساراماغو 1922-2010) والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1998، مازال يذكر بصفته من أهم الروائيين في العالم، ومن المعروف أن ساراماغو علماني العقيدة اعتنق الاشتراكية الماركسية، وحافظ على مبادئه طيلة حياته، هجر بلده البرتغال عام 1993 وأقام في جزيرة (لنثاروتي) وهي إحدى جزر الكناري الإسبانية احتجاجا على قيام وزارة الثقافة والتعليم في دولته منع روايته (إنجيل المسيح) من التداول في المدارس والجامعات، هذه الرواية التي سببت له انتقادات جمة، خاصة من قبل الفاتيكان الذي انتقد مؤسسة نوبل لأنها منحت الجائزة لكاتب متمرد على الكنيسة الكاثوليكية، وقتها رد ساراماغو متهكما ( أقول للفاتيكان أن يتفرغ لصلواته ويدع الآخرين يعيشون في سلام)، واستطاع ساراماغو أن يضيف إلى الأدب العالمي مجموعة من الإبداعات على صعيد التأليف الروائي والأدبي والفكري، فضلا عن مواقفه المناهضة للظلم والاضطهاد وانتصاره للعدالة والقيم الخيّرة، كما استطاع التوفيق بين لادينيته واحترامه لإيمان الآخرين، نابذا لغطرسات قوى الشر، ولعل من أبرز المواقف التي جاهر بها مؤيدا للحق ولعدالة القضية الفلسطينية زيارته لفلسطين مع عدد من أعضاء برلمان الكُتاب الدولي ليعلنوا رفضهم للممارسات العنصرية الصهيونية بعد مذبحة جنين عام 2002، وقتها صرح ساراماغو أمام حشد من الصحفيين في رام الله، ووصف ما رأى بـ (الجريمة البشعة، وأنها لا تقل بشاعة عن “أوشفيتز” التي بنت عليها إسرائيل أسطورة وجودها)، وحينما استفزته صحفية إسرائيلية بقولها (لكن هنا لا يوجد أفران غاز) رد عليها بهدوء (ليس هناك أي كلمة أخرى لوصف ما يحدث هنا أقل بشاعة من المحرقة النازية)، على إثر هذا الموقف اتهمته إسرائيل أنه وقع ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة، فرد على هذا الاتهام بقوله: (إنني أفضل أن أكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة بدلاً من أكون ضحية للدعاية الإسرائيلية الباهظة التكاليف) وأضاف: (وأفضل أن أكون ضحية كالفلسطينيين على أن أنتمي إلى معسكر القتلة بالفعل: إسرائيل، والقتلة بالصمت: الغرب وإعلامه) نعم لقد كان ساراماغو جريئا وصادقا ودفع ثمن جرأته حين استعدته المؤسسات الصهيونية الإعلامية والسياسية وحرضت عليه لتشويه سمعته والتضييق عليه، غير أنه سجل موقفا للتاريخ لا ينسى إلا عندنا العرب، فلم تكلف نفسها دولة عربية واحدة للاستفادة من موقفه ودعوته وتكريمه.
من جنوب أفريقيا برزت الروائية (نادين غورديمر 1923- 2014) - البيضاء البشرة وذات الأصول اليهودية – كواحدة من أهم المناهضين لسياسة التمييز العنصري ونظام الأبارتيد في بريتوريا، انتسبت إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وناصرت الزعيم (نيلسون مانديلا 1918-2013) ووقفت مع السود، ووجهت معظم كتاباتها للدفاع عن حقوق الإنسان ومقاومة العنصرية والظلم والطغيان، فما من مؤلف من كتاباتها في القصة أو الرواية إلا وكرسته لتعرية الظلم والانتصار للحق، خاصة رواياتها الشهيرات (الأيام الكاذبة – ضيف شرف – ابنة برغر - المحافظ – جماعة تموز) وآخر رواياتها (ما من زمن يشبه الحاضر) وهي الحائزة على العديد من الجوائز العالمية كـ (جائزة المان بوكر 1974) و(جائزة نوبل للآداب 1991)، هذه الكاتبة الجريئة طالبت علانية بجلاء اليهود عن أرض فلسطين، وقالت في معرض الكتاب في القاهرة عام 2005: (إني أؤمن بحق الفلسطينيين في أرضهم، وأساعد القضية بكل وسعي، وأدافع عنها بالفعل وليس بالكتابة فقط، ولا يوجد من يملي علي ما أفعله) ومع هذا لم تحظ بأية احتفالية أو تكريم عربي لموقفها هذا.
ونبقى في أفريقيا مع الكاتب النيجيري الشهير (وول سونيكا 1934) أول أديب أفريقي يفوز بجائزة نوبل للآداب عام 1986، والشهير بمناهضته للعنصرية والأنظمة الديكتاتورية، تعرض للسجن أكثر من مرة، وبعد أن زار الأراضي الفلسطينية وإسرائيل عام 2002 خرج بانطباع مثير وهو يقارن بين حياة الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، وحياة الإسرائيليين والهوة الفارقة بينهما، وطالب الأدباء والمثقفين في العالم بمقاطعة إسرائيل، وصرح: (يجب فعل شيء ما. هناك حاجة إلى أن تفهم "إسرائيل" أن سلوكها غير مقبول، ويجب على الأكاديميين أن يكونوا في طليعة المطالبين بالمقاطعة الثقافية والرياضية والاقتصادية لهذا النظام)، وبكل أسف يكاد يكون سونيكا شخصية منسية في الوسط الثقافي والأدبي العربي.
على مقلب آخر سنجد أديبا عالميا لامع الشهرة وذائع الصيت وهو الأرجنتيني (خورخي بورخيس 1899-1986) هذا الأديب الموسوعي الثقافة والمبدع المميز شعرا ونقدا ودراسات وصحافة، والذي يعتبر من الكتاب اللامعين في القرن العشرين والحاصل على جوائز عديدة كـ (جائزة فورمنتر) مناصفة مع الكاتب (صموئيل بيكيت) و(وسام جوقة الشرف الفرنسية) و(جائزة سرفانتس)، غير أن هذا الأديب الكبير تولع بالديكتاتوريين العسكرتاريا، فقد تعلق بالجنرال (فيديلا) حاكم الأرجنتين، وناصر الجنرال (بينو شيت) سيء الذكر قائد الانقلاب الدموي على الرئيس التشيلي المنتخب (سلفادور الليندي)، وبجّل الجنرال الجلاد (فرانكو)، كما وقف ضد حركات التحرر لأمريكا اللاتينية، ولم يكترث بأوجاع مواطنيه ولا بهموم الفقراء، على عكس أدباء أمريكا اللاتينية الكبار الذين تميزوا بمواقفهم الأخلاقية المناهضة للظلم والظالمين أمثال (أوكتافيو باث وجورجي أمادو وغابريل غارسيا ماركيز وبابلو نيرودا وإيزابيل الليندي وإدواردو غاليانو)، وقد وصفه الكاتب الأورغوياني الشهير (إدواردو غاليانو 1940-2015) بقوله: (اراه محض رأسٍ ولا شيء غير هذا الرأس، فهو لا يمتلك قلبا دافقا ولا جنسا إنسانيا ولا معدة جائعة تشعر بفاقة الاخرين، نعم يحوز رأسا لامعا في غاية الذكاء ليس إلاّ، اراه من اصحاب النخب الغارقة في انعزالها عن الشريحة المسحوقة، نكوصيا وعنصريا يعتاش على حنينه الدائم للدكتاتورية والعسكريتاريا المعادية لشعوبها والمتسلطة على مقدرات الملأ العريض)، أما أكبر فظائع هذا الكاتب الكبير هو عشقه لإسرائيل وتولعه بها، فقد بلغ به التحيز لها أن رقص نشوة بعد حرب عام 1967 لانتصارها على العرب، ووصفها بـ (الأمة الفتية) وأهداها عام 1969قصيدة يمجد تاريخها وصنائعها يقول من عرضها:
(أخشى على إسرائيل من حنيني
حنيني المتربص بعذوبة ماكرة
الذي تراكم مثل كنزٍ حزين منذ قرون التفرق والشتات
في مدن الجحيم وفي الاحياء اليهودية
في تخوم السهوب وفي الاحلام العريضة
حنين هؤلاء الذين يتشوقون اليك يا قدس
انتِ التي بجانب مياه بابل
ايّ شيء كنت سوى هذا الحنين يا اسرائيل
لا اقول غير الرغبة في النجاة من انقلابات الزمن
غير الكتاب القديم المذهل
وصلواتك وعزلتك مع الاله
وليس الامر بهذا الشكل الذي نراه
فأعرق الامم هي اكثرها فتوةً
والتي لم تسحرها اسماء جنان الخلد
ولا شهوة الذهب وملل اكتنازهِ
كنتِ وطنا ، وطنا اخيرا مصرّا ان يبزغ)
ثم زار معشوقته إسرائيل ضيفا معظما عام 1971، التي كرمته بمنحه (جائزة القدس) فرد الجميل بقوله (انه يشعر بسعادة طاغية في اعماقه لأنه موجود في القدس، اذ لا توجد مدينة بالعالم تستهويه ويتوق اليها دوما مثل القدس، ليس باعتبارها عاصمة فلسطين وبالأخص الشرقية منها، بل باعتبارها العاصمة الابديّة لإسرائيل الحلم الذي ظهر بعد انتظار طويل من المرارات والعذابات التي لاحقت شعب الله المختار) ووصفها بـ (الكأس المترعة) وسبق أن وصف إسرائيل بـ (أرض الحليب والعسل) وغلا في القول لدرجة الوقاحة قائلا (التاريخ سيبدو غريبا بلا إسرائيل، فهي ليست فقط فكرة مهمة للحضارة، انما فكرة لا غنى عنها في صقل تلك الحضارة، اذ لا يمكن تصوّر الثقافة من دون إسرائيل) ثم أهداها قصيدة ثانية نذكر منها:
(يا اسرائيل
من سيعلمني أنك كنت تجرين بأنهار دمي
متاهةً ضائعة منذ قرون
وفي اية اماكن جالت وطافت دماؤنا
اعلم انكِ بائنة في الكتاب المقدس المطوق للزمن
بوركتِ اسرائيل وانتِ تحمين جدران الربّ
وتنتصرين في المعركة)
هذا هو بورخيس الذي تناسى أن في هذه الأرض شعبا عربيا فلسطينيا ينتمي إلى أمة نهل من ثقافتها وتشرب من تراثها، وتأثر بألف ليلة وليلة وزين نصوصه باقتباسات منها، وتولع بالصوفية العربية وانغمس في تهويماتها الروحية وتأثر بأعلامها كالحلاج وابن الفارض والنفري وابن عربي، لكن عصبيته غلبت عليه وتغلبت معها تعاليم اليهودية وتراثها والأفكار التلمودية والعهد القديم الذي اعتبره الحلة الزاهية للإبراهيمية الأولى، مثلما تناسى جرائم محبوبته إسرائيل و عنصريتها وقمعها لشعب يعيش تحت وطأة عنفها، فهل كان عماه سببا في عدم الرؤيا أم تعاميه؟؟
أين بورخيس من الكاتب البيروفي (ماريو بارغاس يوسا 1936) الحائز على أهم الجوائز العالمية (نوبل 2010- سرفانتس 1995- بلانيتا 1993- نابكوف 2002)، وصاحب مقعد في (الأكاديمية الفرنسية) والمؤلف للروايات الشهيرة (حرب نهاية العالم – حفلة التيس – الفردوس على الناصية الأخرى – البيت الأخضر) هذا الأديب الشهير سبق أن ضللته الدعاية الصهيونية، وأبهرته سمعة إسرائيل، فتمادى في التهليل لها والإطراء عليها لدرجة معادته للعرب كخطر يهدد الدولة الحضارية، حيث منحته إسرائيل جائزة (القدس 1995) تقديرا لموقفه هذا، لكن ما أن زار إسرائيل برفقة ابنته المصورة (مورغانا) وشاهد عن كثب ما تمارسه (أمة بورخيس الفتية) والتباين الصارخ بين حياة اليهود والعرب حتى انقلب رأسا على عقب وعلم أية كذبة تورط بها، فصحح موقفه وعندما عاد كتب سلسلة مقالات نشرها في صحيفة (الباييس) الإسبانية، فضح فيها ممارسات الدولة المارقة ووبخها متهما إياها بممارسة إرهاب الدولة، وأدان بشدة جريمة قتل الناشطة الحقوقية الأمريكية (راشيل كوري 1979-2003) تحت جنازير الجرافة العسكرية الإسرائيلية في رفح، علما أن يوسا معروف عنه بارتداده عن الشيوعية وتبنيه للأفكار الليبرالية وتأييده في البداية لحرب أمريكا على العراق بحجة أنه من الصعب تنحية الديكتاتوريات من الداخل، لكنه ما أن رأى ما حل ببغداد بعد الحرب واطلع على حجم الخراب الذي حلَّ على العراق حتى ندم على موقفه وقال (أية حرب بربرية هذه، لقد هدموا أهم حضارة في العالم)
على صعيد أخر يذكرنا التاريخ بمواقف مشرفة للأدباء النبلاء الذين لم يتوانوا عن مناصرة القضايا العادلة في أية بقعة من بقاع المعمورة، ومؤازرة الأدباء المظلومين والمفترى عليهم، وإدانتهم لكل ما من شأنه أن يمس العدالة الإنسانية وحقوق الإنسان وحريات الأدب والأدباء.
وقف (جان بول سارتر 1905-1980) موقفا حاسما من أمريكا وفعائلها في الهند الصينية ووصمها بالإمبريالية المتوحشة، وهو المعروف عنه باعتناقه للوجودية الاشتراكية وقد سبق له أن أسس حركة (الاشتراكية والحرية) وكان على علاقة وطيدة مع الحزب الشيوعي الفرنسي ومعجبا بالماركسية، لذلك كان اسمه مطروحا على القائمة السوداء من قبل أمريكا التي منعت نشر كتاباته وحرضت ضده، كما منعت ترشيحه لجائزة نوبل أكثر من مرة، لكنه لم ينحرج في إدانته للتدخل السوفييتي في المجر عام 1956 عندما كتب مقالا صارخا يدين فيه التدخل، واعتبره احتلالا سافرا ضد إرادة الشعب المجري وحريته في التعبير، بعدها قامت (منظمة حرية الثقافة) التابعة للمخابرات الأمريكية باستثمار هذا المقال أيما استثمار لإدانة السوفييت والمعسكر الشرقي، فوافقت على ترشيحه لجائزة نوبل وفاز بها عام 1964، لكنه رفضها لقناعته بتسيسها باعتبارها رشوة للأدب.
من المواقف المثيرة الغريبة التي تذكر في هذا السياق، موقف لأهم فنانين تشكيلين في العالم من قضية اغتيال الشاعر الإسباني العظيم (فيديريكو غارسيا لوركا 1898-1936) الذي اغتاله الانقلابيون أنصار الجنرال فرانكو في ذروة شبابه وعطائه، هذا الموت الذي هزّ كل أحرار العالم، ومازالت أثاره محفورة في خواطر سدنة الأدب، سنجد مواطنه (بابلو بيكاسو1881-1973) ينفطر قلبه لوعة على هذا الفقد الذي تأثر له لدرجة امتنع بعدها سنوات عن الرسم وممارسة الفن ألما وحزنا على صديقه الأثير، بينما انفرجت أسارير الفنان العبثي (سلفادور دالي 1904-1989) الموالي للديكتاتور والشامت بموت الشاعر الاشتراكي وكأن شيئا لم يكن، هنا وأمام موقف دالي الرخيص لم يعد للإبداع قيمة جمالية قادرة على تجميل لوحة السواد القاسية اللاإنسانية المصلوبة على جدران الضمائر الميتة.
حين حُكم على أديب تركيا الكبير (ناظم حكمت 1902-1963) بالسجن عام 1938 لمدة ثمانية وعشرين عاما، أضرب عن الطعام في عام 1949، مما حدا بكوكبة من أهم أدباء العالم إلى القيام بحملة دعوا فيها إلى الإفراج الفوري عن حكمت، ووقعوا بيانا يدين هذا السجن، كان على رأس الحملة الأديب الروماني الفرنسي (تريستان تزارا) وضمت كل من (بابلو بيكاسو – لويس أراغون – جان بول سارتر – سيمون دي بوفوار – إيف مونتان – ألبير كامو – بابلو نيرودا) وتقدموا بطلب إلى السلطات التركية، مما اضطر الرئيس التركي (محمود جلال بيار) إلى الاستجابة للضغط وإصدار عفو بالإفراج عنه عام 1950، نعم هؤلاء الأدباء والفنانون أصحاب الضمائر اليقظة والحس الإنساني دفعتهم شهامة الضمير أن يقفوا مع رفيق القلم موقفا إنسانيا عابرا للحدود واللغات والأديان والأعراق، ليجسدوا قيمة التعاضد الإنساني بأجمل ما يجب عليه أن يكون.
ولو بحثنا عن مواقف الشخصيات المبدعة عبر التاريخ لوجدنا الكثير من المواقف الجليلة لقامات وصل بها شرف الموقف أن تدفع روحها ثمنا لرأي جريء أو موقف شجاع، انتصارا للقيم النبيلة ومؤازرة لمظلومية الشعوب والأفراد، تماما كما يرى الفيلسوف الفرنسي الشهير (ألبير كامو 1913-1960) حين قال: (ليس النضال هو الذي يدفعنا إلى أن نكون فنانين، بل إنه الفن الذي يفرض علينا أن نكون مناضلين).
كذلك سنعثر على أسماء لامعة تخاذلت بل تنكرت للحق والعدالة وروجت للعسف والظلم والتفتت عن الحقوق الواضحة للمقهورين والمغبونين في الحياة.
هذه المقتطفات من مواقف الأعلام الكبار في الأدب والفن والسياسة تُعنى بالمواقف الإنسانية الخارجة عن التأطير المناطقي أو القومي أو الإيديولوجي، فقد وقفها أصحابها انتصارا لشعوب غير شعوبهم وبلاد غير بلادهم، لأن الحس الإنساني لديهم عال، وقد لا يتسع المجال في هذا المقال لذكر مواقف سدنة الأدب والفن ضد الطغيان والاستبداد نصرة لبلادهم، فهذا أقل الواجب بالنسبة لأوطانهم، ويضيق المجال عن ذكر مواقف صناع الفكر والأدب في الوطن العربي الكثير الاستبداد عبر تاريخه، فالكثير منهم دفع أثمانا باهظة لمواقفه المشرفة، كما أن هناك من انتهز ووالى الطغاة بمواقف مخزية.
ولعل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر يختصر علينا ما يجب على المثقف والكاتب أن يكونه حين قال: (ان المثقف والكاتب الحقيقي قد خُلِق معارضا لا يعرف مهادنة الدكتاتورية ولا يأنس مغازلة الحكام الذين أساؤوا لشعوبهم والعسكرتاريا التي تمقت الحرية والمدنية) وهذا الكلام ينحسب على كل إنسان حر في العالم بغض النظر عن مكانته وقامته في سجل التاريخ الإنساني.



#عماد_يحيى_عبيد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النصوص الدستورية وحقوق المرأة السورية
- الإعلان الدستوري السوري، خطوات إلى الوراء
- الديمقراطية وشرعنة الديكتاتورية
- العرب خيمة وسوق
- بين مدينة إفلاطون وإمارة ميكافيللي


المزيد.....




- -فيلم ماينكرافت- يحقق إيرادات قياسية بلغت 301 مليون دولار
- فيلم -ماينكرافت- يتصدر شباك التذاكر ويحقق أقوى انطلاقة سينما ...
- بعد دفن 3000 رأس ماشية في المجر... تحلل جثث الحيوانات النافق ...
- انتقادات تطال مقترح رفع شرط اللغة لطلاب معاهد إعداد المعلمين ...
- -روحي راحت منّي-.. أخت الممثلة الراحلة إيناس النجار تعبّر عن ...
- -عرافة هافانا- مجموعة قصصية ترسم خرائط الوجع والأمل
- الفنانة ثراء ديوب تتحدث عن تجربتها في -زهرة عمري-
- إلتون جون يعترف بفشل مسرحيته الموسيقية -Tammy Faye- في برودو ...
- معجم الدوحة التاريخي ثروة لغوية وفكرية وريادة على مستوى العر ...
- بين موهبة الرسامين و-نهب الكتب-.. هل يهدد الذكاء الاصطناعي ج ...


المزيد.....

- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد يحيى عبيد - موقف الأديب بين الانحياز والتحيز