|
في إنكار دوغمائية اليسار
عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)
الحوار المتمدن-العدد: 8304 - 2025 / 4 / 6 - 21:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ملاحظة بسيطة أسوقها دون إطالة وأمُرّ، بخصوص اتّهامي من جديد ب"عبادة" آثر البخاري في صحيحه. أعتقد أن هذا لا يليق لأن الدّعوة للاطلاع ليست دعوة للاعتناق. إنما يُراد بهذه الجملة المُستفزّة تصنيفي مع اليمين الديني قصد التّشويه لا غير. ولست بحاجة لدحض هذه التُّهمة لأني واجهت الاسلام السياسي والفكر الظلامي بأكثر من مئة مقال غطّت ما يزيد عن ألف صفحة. وهي موثقة ومنشورة. وقد قرأها رفاقي وآلاف الأصدقاء.
الأهم من النّقاشات التي تستهدفني في شخصي، أنتقل مباشرة لمناقشة نقطين فقط. الأولى أساسية: في إنكار أن يكون اليسار التونسي قد عانى طوال تاريخه من الدغمائية والتشبّث بالنصوص.
والنقطة الثانية اليسار ومقاربة التعامل مع المسألة الدينية: وهي نقطة ثانوية سأذكر بها مجرّد تذكير لأني كتبت فيها كثيرا وبأسلوب شديد الوضوح، ولا يقبل التأويل إلا لمن لا يرغب في الفهم.
اليسار في تونس عمره قرن على الأقل. منذ عام 1920 وأجيال اليسار المتلاحقة تدفع فواتير التضحيات، وفواتير الأخطاء القاتلة. ومن وراء ذلك تدفع تونس سنيننا من عمرها وتخسر أجيالا من شبابها ولا تتحرك إلى الأمام، بل تتراجع إلى الخلف.
من المعلوم أن الحزب الشيوعي هو أقدم حزب سياسي تونسي إذ تأسس عام 1920. أول خطأ يعادل الكارثة هو بقاء الحزب الشيوعي خلال الفترة الأولى من الكفاح ضد المستعمر تحت وصاية الفيدرالية الأممية الشيوعية، ونظرا لمكانة الفرنسيين داخل الأممية في ذلك الوقت، ظل لسنوات فرعا من فروع الحزب الشيوعي الفرنسي، إذ تورط في الدفاع عن شعار "الاتحاد الفرنسي" المناهض للاستقلال.
بعد ذلك نجحت القيادة التونسية في تصحيح مسار الحزب الذي التحق بالحركة الوطنية، وطالب بالاستقلال متخليا عن موقفه السابق المشين. ولكن بسبب ذلك الخطأ، لم يتمكن الحزب الشيوعي من الإشعاع؛ ولم يتحول إلى حزب جماهيري أبدا، رغم كل المجهودات التي قام بها لتأصيل وجوده في البيئة التونسية. ففي مطلع الستينات مثلا نجح في ربط صلات نضالية متينة بالاتحاد، وبدأ ينتعش وينفتح ببطء على الطبقة العاملة. ولكن النظام أصدر قراراً بتجميد نشاطه عام 1963. وشنت عليه حملة ممنهجة فاتُّهِم بموالاته لفرنسا الاستعمارية، كما أنه تضرر كثيراً من ارتباطه بالاتحاد السوفييتي ودفاعه عن سياسته الخاطئة، كالمساومتة بقضايا الشعوب، وأهمها الموقف من قضية فلسطين، الذي نجم عنه موقف أعمى ولا وطني يتحدث عن خرافة "تحالف البروليتاريا اليهودية والبروليتارية العربية ضد رأس المال" على اعتبار أن جوهر الصراع في فلسطين هو صراع طبقي وليس وطنيا. وهذا ما عزل الحزب الشيوعي وأفقده القدرة على التوسع واحتلال مكانة لائقة في المجتمع.
في أواسط الستينات، وبعد قرار نظام الحكم بمنع نشاط الحزب الشيوعي، وفي إطار الصراع التاريخي بين التروتسكيين والأحزاب الموالية لموسكو، حاول التروتسكيون سحب البساط من تحته واحتلال مكانه خصوصا في الحركة الشبابية. ولكن تلك المحاولة لم تخلف أثرا يذكر أو يؤثر بشكل مباشر في ما سيأتي من أحداث.
وفي آواخر الستينات التقى مجموعة من الشباب: شيوعيين وقوميين ومستقلين توانسة في باريس، وكونوا "تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي"، وأصدروا مجلة "آفاق"، وكان الهدف من هذا التجمع الذي سرعان ما التحق به مئات الطلبة في البداية، ثم عمال مهاجرون، هو بناء يسار جديد على أنقاض الحزب الشيوعي الذي انسحب قادته وانصاره من السياسة، وركزوا جهودهم في الجبهة الثقافية وفي التعليم. ولعل هذا ما يفسر الدور المركزي لليسار التونسي في المسرح والسينيما والأدب والشعر، وأيضا في النخبة الجامعية. نقول هذا دون أن ننسى تأثير التيار اليساري داخل حزب الدستور نفسه. ويكفي الرجوع لمداخلات النواب في المجلس التأسيسي الأول التي ولد منها دستور 1959 حتى نقف على الحضور القوي لهذا التيار، ودوره في بناء الدولة الجديدة بعد 1956.
"تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي" أدى في النهاية إلى تأسيس حركة آفاق اليسارية التي قدمت من التضحيات والسجون والمنافي ما لم تشهد له تونس مثيلا في تاريخها. هذه الحركة كان بإمكانها التحول إلى قطب وطني صلب يضم في صفوفه هذا التيار اليساري العريق الراسخ في شرايين تونس الحديثة قبل بناء الدولة، ومنذ الثلاثينات حيث ولدت الحركة العمالية التونسية المستقلة نسبيا.
كان بإمكان آفاق أن تتجه إلى الطبقة العاملة كأولوية و أن تركز الجهد في صفوف الشعب وجيوب الفقر والأحياء الشعبية و الأرياف. كان بإمكانها أن تستند إلى العمال والفلاحين الفقراء وعموم الشعب على اعتبار هذه الفئات هي القاعدة الاجتماعية لكل تغيير ثوري.
فماذا حدث بدل كل هذا؟
في تلك الفترة، كان الصراع بين أجنحة الحكم في ذروته، وقد انفجر البيت الدستوري في انقلاب موتمر المنستير، والتصدع الأكبر الذي شهده نظام الحكم، بين الجناح المتطرف الذي يمثله الهادي نويرة- عبد الله فرحات- ومحمد الصياح، والجناح الليبيرالي بقيادة وزير الداخلية أحمد المستيري وحسيب بن عمار والصادق جمعة ... وآخرون. هولاء الذين سيطردون من الحزب ومن الدولة وسيبعثون جريدة الرأي، وسيحاولون استخدام اتحاد الشغل، لينجحوا أحيانا ويستخدمهم عاشور أحيانا أخرى... وهكذا
في ذلك الجو، يذهب بعض المؤرخين إلى استدراج حركة آفاق وتوظيفها من قبل المطرودين من حزب الدستور في صراعهم ضد النظام. ففي فيفري 1971 نشطت حركة آفاق بكل ما لديها من جهد وأسهمت في افتكاك اتحاد الطلبة من الدساترة، وقد ردّ النظام على نتائج الآنتخابات بإفساد المؤتمر، وما رافق ذلك من عنف واعتقالات واسعة النطاق، كان الهدف منها القضاء على الشيوعيين وتطهير الجامعة من وجودهم. ولقد مهد ذلك العنف إلى اندلاع الانتفاضة الطلابية الشهيرة التي عبّرت عنها "حركة أكتوبر 1972".
فماذا كانت النتيجة؟
اعتقال كل الكوادر اليسارية الفاعلة، ورميهم في حبس الكاف وحبس برج الرومي، ومن نجا منهم أكلته المنافي. وهكذا دخل اليسار في مرحلة تشرذم وضياع لأكثر من ثلاثة عشرة سنة، ظل فيها وراء أسوار الجامعة. ولقد تسبب ذلك العجز في اندلاع صراعات فكرية غريبة عجيبة حول قضايا الخلاف في الحركة الشيوعية العالمية. وحول تفاصيل فلسفية نادرا ما ينتبه لها حتى الفلاسفة أنفسهم. وحول بعض المواقف الثانوية التي وردت في سياق نصوص كارل ماركس بصدد الجزائر أو الهند. وحول بعض التفاصيل الخلافية داخل الحزب الإشتراكي الروسي ومفهوم لينين لخطتي الاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية.. هذه هي "مدرسة الفكر المتنقلة" التي يمجّدها بعض الرفاق المجروحين بفشلنا جميعا.
تخيلوا، اليسار في تونس انقسم إلى عدة مجموعات بسبب الآختلاف في تأويل مقررات المؤتمر السادس للأممية الشيوعية الثالثة الذي انعقد في صيف 1928 في موسكو.
لقائل أن يقول : ما هي هذه المقررات التي قسمتنا ؟ وماذا تحتوي؟
هي عبارة عن جملة من التعليمات الصارمة والسياسات الدقيقة التي رسمها الكومنترن للأحزاب الشيوعية، بحيث ابتدع مفهوم إيديولوجي جديد يقسم التاريخ الحديث إلى ثلاث فترات:
"الفترة الأولى" التي تلت الحرب العالمية الأولى وشهدت طفرة الطبقة العاملة الثورية وهزيمتها.
"الفترة الثانية" هي توطيد الرأسمالية في معظم عقد العشرينات.
"الفترة الثالثة"، كان الشيوعيون يعتقدون أنها لحظات الموت الأخيرة للرأسمالية. وهذه "الفترة الثالثة" تبدأ من عام 1928 فصاعدا، سيما وقد بدت بوادر أزمة 29 تظهر في الكساد الاقتصادي في الدول الغربية وفي المجاعة التي طالت عددا من المستعمرات آنذاك. فسمّوها "حقبة الانهيار الاقتصادي الواسع، وتجذّر الفكر الثوري عند جماهير الطبقة العاملة الذي سيؤدي إلى نضوج الأوضاع وحدوث الثورة البروليتارية فيما إذا تمسكت الأحزاب الشيوعية ب"التشدد"، وقد ركزت توصيات الكومنرتن على العداء الشديد للإصلاح السياسي والمنظمات السياسية الإصلاحية التي تطالب بالحريات مثلا، إذ اعتبرت تلك السياسات عائقا أمام الثورة البروليتارية.
في النقابات مثلا، تم إنشاء "نقابات حمراء" بمعنى جذرية تحت سيطرة الحزب الشيوعي بدلا من تجذير النقابات من الداخل.
والغريب في الموضوع هو أن هذه "النظرية" التي أدت إلى انقسامات اليسار المتتالية في تونس، والتي نعاني منها إلى يوم الناس هذا، سقطت بعد خمسة سنوات. فهي في حقيقة الأمر فصل من فصول سياسة الآتحاد السوفياتي الخارجية في إطار الصراع الدولي على النفوذ في العالم. فإثر صعود الحزب النازي إلى السلطة في ألمانيا عام 1933 والإبادة التي تعرضت لها الحركة الشيوعية الألمانية، أَجبر الروس الأممية الثالثة على إعادة تقييم تكتيكات "الفترة الثالثة"، بحيث بدأ النقاش عام 1934، وانتهى بالتخلي عن "التشدد". لتحل محله سياسة "الجبهة الشعبية" التي اُعتُمدت كسياسة في مؤتمر الأممية السابع عام 1935. وخلاصة هذا التكتيك الجديد هي أن يسعى الحزب الشيوعي في جميع بلدان العالم إلى بناء جبهة شعبية واسعة شرط أن يكون هو قائدها. وفي ذلك المناخ وبناء على تلك التوصيات وصلت الجبهة الشعبية الفرنسية للحكم سنة 1936. وخاضت أختها الإسبانية الحرب الشنيعة ضد قوات فرنكو ... وهكذا.
حول هذه المسائل العرضية في التاريخ، والتي لا علاقة لها بواقع تونس انقسم اليسار في الجامعة التونسية سليل حركة آفاق الشبابية إلى تيارات عديدة أهمها: العامل التونسي. ووسط لهيب تلك الصراعات الفكرية الطلابي، ولد التيار الوطني الديمقراطي بجناحين منفصلين: "الشُّعلة" و"الوطد". والذان سيشهدان انقسامات بلا أي مبرر معقول باستثناء الزعامتية الفاضحة والولاءات الأشبه بالولاءات القبلية، مُغلّفة بخلافات حول نصوص الماركسية، تلك الخلافات الصبيانية حول النقطة والفاصل
على امتداد عشرين عاما كنت فيها شاهدا قريبا جدّا عن العلاقات اليسارية اليسارية، التي اتسمت بالصراعات و الأحقاد. وطوال كل هذه المدة، قلة قليلة جدا من الجانبين كافحت كفاحا مريرا من أجل ترسيخ الحدّ الأدنى من تقاليد العمل المشترك في مجالي العمل النقابي والحقوق والحريات، واعترضت باستمرار وبشدة على قضايا الخلاف المفتعلة. وحاولت عدة مرات الالتقاء حول مهام معينة يفرضها الوضع. منها تجربة "اليسار النقابي المناضل"، معركة الحق النقابي آواسط التسعينات، وفكّ الحصار على الحقوقيين والسياسيين في ظل الانغلاق القاتل الذي فرضه نظام بن علي بعد أن ضمن تحالف واسع بين الحزب الحاكم وجميع المعارضات الكرتونية والبيروقراطية النقابية خلال عشرية التسعينات المشؤومة. كذلك تجربة بيان 1 ماي 2000 وقوس الكرامة ... وباستثناء تلك الأقلية التي كابدت من أجل تشكيل جبهة نضال وطني ديمقراطي على الأقل في الهوامش الممكنة، استمرت الأغلبية الساحقة، بما في ذلك "قيادات" أحزاب اليسار اليوم، بكل ما لديها من الجهد في تغذية تلك الخلافات، وتعميق الجراح بين المناضلين في الجهات بسبب تلك الخلافات النظرية حول تأويل طبيعة المجتمع وطبيعة الثورة. ولم يستفد من ذلك إلا نظام الحكم. ولعل مسيرة الآتحاد العام لطلبة تونس والصراعات والفضائح منذ عام 1988 تشهد على ما أقول. وضعف اليسار عموما، وفشل تجربة الجبهة السعبية، كلها عائدة لعبادة النصوص والتكلّس الفكري. و"طبيعة المجتمع" و"طبيعة الثورة"، و-"كيفية التغير السياسي"، هل يسقط النظام بالانتفاضة الشعبية مسنودة بالإضراب العام؟ أو يتم التغيير بالنضال من أجل الحريات السياسية ومراكمة عزل النظام؟
وإذا لم تكن هذه جزء من الأسباب العميقة لفشل اليسار في بناء مشروعه السياسي والمجتمعي. فماهي هذه الأسباب إذن؟ وبكل صراحة لا أرى ما كتبه السيد منجي البوعزيزي كافيا ليفسّر أسباب الفشل.
ماذا كانت نتيجة تلك الصراعات المريرة التي لا مبرر لها ولا محتوى ولا سبب مقنع سوى مرض الإنعزالية وضيق الأفق؟
اندلعت الثورة في ظل ذلك التشرذم وذلك الإرث الثقيل من الكراهية والتنافر. وبالرغم من ذلك كان أبناء اليسار وبناته في قلب الآحتجاجات الشعبية التي كان للاتحاد الدور المركزي في احتضانها ولكن في محاولة لتأطيرها هنا والتحكم فيها هناك، حسب الظرف والعلاقة بالسلطة.
بنات اليسار وأبناؤه، ضحايا "القيادات" الضعيفة المنقسمة باستمرلر، هم الذين قادوا الثورة وزودوها بشعاراتها السياسية الأكثر راديكالية وأهمها "الشعب يريد إسقاط النظام". ولكن على المستوى السياسي وجدت الأحزاب والتنظيمات اليسارية في ذيل حركة الشارع، لأنها كانت أضعف بكثير تنظيميا وسياسيا وبشريا من قوة الشارع الجارفة.
حتى بعد الثورة وسقوط بن علي وحل البرلمان وحل حزب التجمع الحاكم، وحل مجلس المستشارين، وحل جهاز البوليس السياسي، استمر انقسام اليسار على بعضه. وفشلنا في إقناعهم بالتوحد فورا في جبهة ديمقراطية شعبية واسعة تملأ الفراغ السياسي الحاصل، وواجهناهم صراحة بكون الثورة التي كنتم تختلفون على طبيعتها قد حدثت. ولم يعد هنالك ما يبرر الانقسام. ولكنهم استمروا بنفس منهجية التذرّع بالاختلافات الأيديولوجية، التي لم تكن مانعا في أي تجربة لقاء على الحد الأدنى السياسي في أي بلد في العالم. ولذلك السبب، دخلت الأحزاب اليسارية في انتخابات المجلس التأسيسي متفرقة كالعادة، فكانت النتيجة الهزيمة القاسية التي صدمت الجميع، وهي في حقيقة الأمر الثمرة المرة الطبيعية لما تراكم من الأخطاء على امتداد العقود الثلاثة الماضية..
بعد هزيمة 23 أكتوبر 2011، وبعد جهد جهيد ونقاشات ومراسلات واستقالات واحتجاجات دامت قرابة العام، ولدت الجبهة الشعبية.
بطبيعة الحال اليساريون من كلّ المشارب والمدارس في تونس خارج الأحزاب يعدون بمئات الآلاف، فاليسار كما ذكرت في بداية المقال عمره أكثر من مئة عام. وله وجود في كل قرية وكل دوار بكامل تراب تونس. وكانت ولادة الجبهة الشعبية بمثابة حلم كل تلك الأجيال المتعاقبة، ولذلك هب الناس من كل حدب وصوب لحضور اجتماع إعلان الجبهة نساء ورجالا وشبابا وشيوخا. وكانت الدموع شاهدة على منسوب الأمل في أن الخلاصة النوعية لتجربة اليسار التونسي على امتداد مئة سنة تتحقق في جبهة واحدة متراصة الصفوف ستحمل المشروع الوطني في استكمال السيادة الوطنية وتحقيق الديمقراطية الآجتماعية و السياسية..
لا شك، ولا يخفى على أحد أن الشهيد شكري بلعيد كان له الدور المركزي في توحيد اليسار من جهة، وتوحيد هذا الأخير بجزء هام من التيار القومي العروبي بجناحيه الناصري والبعثي. ولكن الذي يجهله البعض أن رفاقنا في حزب العمال لم يكن في برنامجهم ولو للحظة واحدة الذهاب بالجبهة أبعد من أن تكون مجالا وفرصة لتقوية حزبهم. وهذا خطأ آخر جوهري من أخطاء اليسار التاريخية المرتبطة بالفهم الميكانيكي لمقولة الحزب اللينيني، والتي أدت به على الدوام إلى الهزائم القاسية. ولعل ذلك كان سببا من أسباب منع الجبهة الشعبية من التطور والتحول إلى فعلا إلى الخلاصة النوعية لنضال أجيال متلاحقة. بل على عكس المراد تفككت الجبهة وانتهى أمرها.
لماذا؟
لأن رفاقنا في حزب العمال مازالوا مقتنعين بتوصيات الموتمر السابع للأممية الشيوعية الثالثة الذي انعقد في أوت 1935 حيث رفع شعار "الجبهة الشعبية المعادية للامبريالية بقيادة حزب الطبقة العاملة". وبما أن الرفيق حمة يعتقد أن البوكت هو حزب الطبقة العاملة، فإن دوره ليس بناء جبهة شعبية مرشحة لحكم البلاد، بل قيادتها إلى حيث هو يريد. و بسبب تلك الخلافات القديمة، وبسبب ذلك التردد في بناء الجبهة، انتهز رئيس الحكومة المتخلي آنذاك الأستاذ الباجي قائد السبسي فرصة الفراغ وأنشأ حزب نداء تونس الذي بناه وقاده يساريون مكانهم الطبيعي في الجبهة الشعبية.
كان يمكن لليسار لولا القوالب الجاهزة المنسوخة من تجارب بلدان أخرى نسخا لاهوتيا أن يتوحّد حول برنامج سياسي يستهدف تغيير منوال التنمية، يُخرج البلد من تحت وصاية الصناديق الدولية، ويتبنى محاربة الفقر وتوزيع الثروة، والاصلاح الزراعي وترسيخ الديمقراطية. ولكن للأسف منعته تلك النصوص التي تحولت إلى قواعد عمل من أن يشكل قطبا ديمقراطيا شعبيا قادرا على إلحاق الهزيمة بسلطة الفئات البرجوازية الرثة المتمعشة من السمسرة وإعادة إنتاج التخلف.
أما بخصوص ضرورة بناء مقاربة جديدة للتعامل مع المسألة الدينية التي أضعفت اليسار العربي عموما، انطلاقا من كون الماركسية لا تعادي الدين كدين، بل ترفض استخدامه لتبرير المظلمة الطبقية وقمع الفكر الحر. وكون المعركة الحقيقية ليست بين الإيمان والكفر، بل بين من يُدافع عن العدالة الاجتماعية وكرامة الإنسان، ومن يستغل الإنسان ويوظف الدين لتبرير الاستغلال. فهذه مسألة طُرحت للنقاش داخل أطر جميع الأحزاب الشيوعية العربية تقريبا. وهي مسألة محسومة عند الأحزاب والمفكرين والحركات المؤمنة بالتغيير فعلا. بقدر ما هي مسألة غير ذات بال عند "مناضلي الربوة" الذين يقدمون خدمات جليلة للخوانجية بالتأكيد يوميا على أن الماركسية معادية للإسلام
نعم نحن بحاجة إلى يسار جديد، عقلاني، قريب من الناس، لا يضع الجمهور المتدين في خانة العدو، بل يفتح معه أفقًا للنقاش حول وسائل النضال من أجل العدالة والحرية.
وكلّ هذا الأمور تُوجب على القوى اليسارية إعادة قراءة التراث قراءة نقدية شجاعة لتثويره من داخله، حتى تنجح في خوض المعركة الفكرية ضد قوى الردّة والظلام، بدل ازدرائه والاكتفاء برفضه دون فهم، والنتيجة هي جني الهزائم المُرّة المتكرّرة أمام سيطرة القوى الرجعية على الضمير الديني والتلاعب به.
أعتقد أن هذه هي النقاط التي أثارها السيد منجي مشكورا، والتي تستحق الاهتمام والبحث عسى أن يتمكن اليسار من تجاوز معوّقات نهوضه في اتجاه احتلال دوره الطبيعي في الكفاح الوطني والطبقي.
أختم فأقول، أتمنى أن لا يبقى الحوار ثنائيا، لأن هذه مسائل تاريخية وفكرية يحتاج بحثها جُهدا جماعيا. مع الحرص على النقاش باحترام وتفادي الاتهامات الباطلة لأنها تُسيء لصاحبها قبل غيره، إذ تكشف عن نوع من عدوانية مؤلمة، نائمة في أعماق النفس وتنتظر فرصة لتصريفها، لذلك تخرج بشكل عشوائي.
#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)
Boughanmi_Ezdine#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأزمة السياسية في تركيا وصراع البرجوازية الحاكمة
-
وثيقة موجهة إلى رئيس الجمهورية: من الغضب إلى الفعل، ومن الخط
...
-
عنوان الحرب هو التطهير العرقي. وليس استرداد الرّهائن
-
زلزال سياسي في تركيا: بين اهتزاز شرعية أردوغان وصعود المعارض
...
-
دعوة للارتقاء بالنّقاش وإخراجه من دائرة القدح العشوائي.
-
مَن يقود الشرق الأوسط، لا بدّ له من السيطرة على سوريا
-
سوريا في بيئة ملتهبة بالصراعات الدولية والإقليمية
-
وتستمر المعركة بين الدم والغطرسة
-
مفاعيل الإبادة الجماعية، وبداية تفكك الأبارتهايد الصهيوني
-
المعارضة التونسية ستندثر إذا لم تُعيد تعريف نفسها وتتصالح مع
...
-
مسار تغيّر النظام الدولي ودلالات صعود اليمين المتطرّف في فرن
...
-
اليسار يحتاج تنظيما جديدا
-
سوق التّجارة بمعاناة اليهود في أزمة كساد خانقة.
-
نهاية رواية مُزوّرة!
-
إسرائيل، مشروع مُفتَعَل
-
طوفان الأقصى، ضربة في مقتل.
-
الولايات المتحدة الأمريكية شريكة في الحرب على غزة
-
صُنّاع الكراهية يقودون المظاهرات ضدّ الكراهية!
-
سقوط حلّ الدولتين، أو انتصار الدم على المدفعيّة
-
هل تغيّر الموقف الأمريكي تُجاه الحرب على غزة؟
المزيد.....
-
إيران: قدمنا -عرضًا سخيًا- لإجراء مفاوضات مع أمريكا وننتظر ر
...
-
تصعيد فلسطيني ضد هنغاريا بعد زيارة نتنياهو وانسحاب بودابست م
...
-
الجزائر تقرر غلق مجالها الجوي أمام مالي
-
استمرار جهود الإنقاذ وإزالة الأنقاض بعد الزلزال المدمر الذي
...
-
دراسة تكشف علاقة جديدة بين السوائل وقصور القلب
-
دمار بالممتلكات في عسقلان بعد سقوط صواريخ أطلقت من قطاع غزة
...
-
RT ترصد آثار القصف الأمريكي على صنعاء
-
بزشكيان: على واشنطن إثبات سعيها للتفاوض
-
بعد قمة السيسي وماكرون والملك عبدالله.. بيان ثلاثي مشترك بشأ
...
-
مجلس الأمن الدولي يعقد اجتماعا بشأن الأزمة الأوكرانية في 8 أ
...
المزيد.....
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|