أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - نظرية المعرفة عند ابن رشد: العقل، التجربة، والتأويل الفلسفي














المزيد.....

نظرية المعرفة عند ابن رشد: العقل، التجربة، والتأويل الفلسفي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8304 - 2025 / 4 / 6 - 10:07
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
تُعد نظرية المعرفة عند ابن رشد تجليًا فريدًا لمشروع فلسفي عقلاني أراد به الفيلسوف الأندلسي أن يوفق بين الفلسفة والدين، وأن يؤسس لعلاقة صحية بين العقل والنقل، بعيدًا عن الجمود النصي أو الانغلاق الدوغمائي. ينطلق ابن رشد من تصور معرفي عقلاني يرى في العقل أداة جوهرية لفهم الوجود، ويعتبر أن الإنسان، بما هو كائن عاقل، يمتلك قابلية فطرية لاكتساب المعرفة عبر الحواس أولًا، ثم العقل ثانيًا، في تدرج متصاعد نحو التجريد والكليّات.

يرى ابن رشد أن المعرفة تبدأ بالحس والتجربة، أي أن الإدراك الحسي هو أولى خطوات التلقي المعرفي، لكنه لا يكتفي بذلك، بل يرى أن الحواس تُزود العقل بالمعطيات الأولية، التي يعالجها ليصوغ منها مفاهيم كلية. ومن هنا يتأسس البعد العقلي في نظرية المعرفة لديه، حيث يحتل العقل مكانة مركزية بوصفه جوهر الإدراك، وغايته بلوغ الحقيقة عبر التأمل المنطقي والاستدلال البرهاني. وهذا يُميز ابن رشد عن بعض المتكلمين الذين عولوا على النقل والتسليم أكثر مما عولوا على البرهان.

في مشروعه التأويلي، يظهر ابن رشد كمدافع شرس عن تطابق العقل والشريعة، مؤكدًا أن الحقيقة واحدة، سواء أدركناها بالفلسفة أو بالدين، ومن ثمّ فإن الاختلاف بين الظاهر الديني والمضمون الفلسفي ليس اختلاف تضاد، بل اختلاف تأويل. المعرفة عند ابن رشد لا تنفصل عن التأويل العقلاني للنصوص، ولهذا نجده يدعو إلى ضرورة تأويل النصوص الشرعية إذا تعارض ظاهرها مع البرهان العقلي اليقيني، مستشهدًا بقاعدة أصولية تقول: "ما أدى إلى اليقين فهو حق، وإن خالف ظاهر الشرع". بهذا، يقيم ابن رشد نظرية معرفية تتجاوز ثنائية النقل/العقل، لتؤسس لتكامل خلاق بينهما.

كما يرتبط موقفه المعرفي بتقسيمه الشهير لأنواع الخطاب المعرفي إلى ثلاث مراتب: الخطابة، الجدل، والبرهان. ويرى أن أغلب الناس لا يستطيعون إدراك الحقيقة إلا من خلال الخطابة والموعظة، بينما يتوجه الجدل إلى أهل الكلام وأصحاب المذاهب، أما البرهان فهو أعلى مراتب اليقين، ويختص به الفلاسفة والمتأملون في الوجود. بهذا التصور، يضع ابن رشد سلمًا معرفيًا يُفاضل فيه بين الطرق المؤدية إلى الحقيقة، دون أن يُقصي أحدًا، لكنه يُميز بشكل حاسم بين درجات الإقناع وقوة الحجة.

ولا يمكن إغفال الأثر الأرسطي العميق في نظرية المعرفة عند ابن رشد؛ فقد سار على خطى أرسطو في التأكيد على أهمية التجربة والعقل كوسيلتين للوصول إلى العلم الحقيقي، لكنه لم يكن مجرد شارح للفلسفة اليونانية، بل مفكرًا مجددًا أعاد توطين الفلسفة في السياق الإسلامي، مدافعًا عنها في وجه الاتهامات بالزندقة، ورافضًا مصادرة العقل باسم الغيب. وقد اتضحت عبقريته في كتابه "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، حيث أسس لمفهوم جديد للمعرفة يجمع بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) باعتبارهما طريقين متكاملين لا متعارضين إلى الحقيقة.

إن نظرية المعرفة عند ابن رشد هي في جوهرها دعوة لتحرير العقل من التبعية العمياء للنص، دون أن تقطع صلته بالوحي، وهي بذلك تعبر عن أرقى محاولات الفلسفة الإسلامية في العصر الوسيط لتحقيق توافق بين الدين والعقل، بين الإيمان والبرهان، بين الوحي والفلسفة. وقد كان لهذا المشروع تأثير كبير في الفكر الأوروبي اللاتيني، حيث اعتُبر ابن رشد "المعلم الثاني" بعد أرسطو، وأسهمت شروحاته ونظريته المعرفية في تأسيس ملامح العقلانية الحديثة في أوروبا، في الوقت الذي حورب فيه داخل سياقه الإسلامي، نتيجة لمقاومة الفقهاء لكل مسعى يعيد الاعتبار للعقل في تأويل النصوص.

في النهاية، فإن نظرية المعرفة عند ابن رشد ليست مجرد مقولات فلسفية مجرّدة، بل هي رؤية حضارية تهدف إلى بناء مجتمع يستنير بالعقل، ويُقدّر المعرفة، ويجعل من الفهم والتأويل أساسًا للتعايش والتقدم، لا التنازع والانغلاق. ولهذا فإن إعادة قراءة مشروعه المعرفي اليوم تظل ضرورة فكرية، في ظل ما يشهده العالم العربي من أزمات فكرية ومعرفية تتعلق بمكانة العقل وحدود التأويل.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي: التحولات الفلسفية للسلطة
- الوعي المقيد والوعي الحر: قراءة في أنماط التصديق الدوغمائي و ...
- فاطمة الفهرية: سيدة العلم التي شيدت أول جامعة في التاريخ
- جدلية السلطة والفكر: قراءة موسوعية في تطور الأفكار السياسية ...
- المنطق الرياضي: حجر الأساس للعقلانية والاستدلال في عصر الذكا ...
- مارتن لوثر وثورة الفكر: التداعيات الفلسفية للإصلاح الديني عل ...
- الفلسفات المادية الأوروبية: أزمات جوهرية وتحديات مستقبلية في ...
- ما بعد العلمانية: تحولات المفهوم ومآلاته الفلسفية
- جون لوك: ثورة فكرية غيرت مسار الفلسفة والسياسة
- العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى
- سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان
- تحولات السلطة والفكر: رحلة الفلسفة السياسية الأوروبية من ميك ...
- العلمانية الإنسانية: يوتوبيا زائفة أم أزمة وجودية؟
- حماس بين التصنيفات الدولية: جدلية المقاومة والإرهاب في ميزان ...
- الحرية بين وهم الحداثة وسلطة الخوارزميات: من التنوير إلى الا ...
- حفلة شاي بوسطن: شرارة الثورة الأمريكية وتغير موازين التاريخ
- ما بعد سايكس بيكو: تحرير الأمة من سجون الجغرافيا والتاريخ
- مستقبل الديمقراطية الأمريكية في ظل رئاسة ترامب الثانية: بين ...
- صناعة المعرفة في العالم العربي: بين تحديات الحاضر وآفاق المس ...
- جدلية الدين والعلم والسياسة: صراع القوى أم تكامل المسارات؟


المزيد.....




- بعد عزل الرئيس.. كوريا الجنوبية تحدد موعد الانتخابات الرئاسي ...
- مواصفات الهاتف المنافس الجديد من Xiaomi
- الجزائر وفرنسا: كيف يفتتح البلدان -المرحلة الجديدة- بعد أزمة ...
- جماعة أنصار الله: غارات أمريكية قتلت شخصين على الأقل في صعدة ...
- مالي والنيجر وبوركينا فاسو تستدعي سفراءها من الجزائر بعد اته ...
- ما قصة اشتعال السباق النووي بين الصين والهند وباكستان؟
- نتنياهو يصل واشنطن لمناقشة -ملفين رئيسيين- مع ترامب
- بدنيا ونفسيا.. إسرائيل تعلن عدد جنودها المصابين في حرب غزة
- الجيش الروسي يسيطر على بلدة في سومي ويدمر 100 مسيرة أوكرانية ...
- -لا يتذكر-.. أردني أن حاول فتح أبواب طائرة متجهة إلى سيدني


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - نظرية المعرفة عند ابن رشد: العقل، التجربة، والتأويل الفلسفي