أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي: التحولات الفلسفية للسلطة














المزيد.....

من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي: التحولات الفلسفية للسلطة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8304 - 2025 / 4 / 6 - 09:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود

لم تكن السلطة السياسية يومًا كيانًا مستقلًا عن السياق الفكري أو الفلسفي الذي نشأت فيه. إنما هي نتاج تفاعل معقد بين منظومات فكرية، رؤى كونية، وتصورات فلسفية حول الإنسان والمجتمع والقيم العليا. إن نظام الحكم لا يتأسس في فراغ سياسي أو اجتماعي، بل ينبثق من تصورات فلسفية عميقة حول مفاهيم مثل "العدالة"، "الحرية"، "الطبيعة البشرية"، و"المشروعية". وبهذا المعنى، فإن الفلسفة لا تكتفي بوصف السلطة، بل تشارك في إنتاجها وإعادة تشكيلها، فيما تسعى السلطة بدورها إلى التأثير في الفكر الفلسفي بما يخدم استقرارها أو يعزز هيمنتها.

أولًا: السياق الأوروبي – من الفلسفة التبريرية إلى الفلسفة النقدية

في أوروبا، تشكّلت علاقة السلطة بالفلسفة في مراحل متعددة، بدأت بمحاولات التبرير النظري للسلطة الإلهية، ثم تطورت نحو نماذج عقلانية تعيد تأسيس شرعية الحكم على قاعدة التعاقد، وانتهت إلى فلسفات نقدية تقوّض فكرة السلطة ذاتها وتكشف آلياتها الخفية.

ففي العصور الوسطى، ارتبط الحكم الملكي الكنسي بفكرة "الحق الإلهي"، حيث كانت الفلسفة المسيحية، لا سيما في أعمال أوغسطينوس وتوما الإكويني، توفّر للسلطة الدينية والسياسية غطاءً مقدسًا، يجعل من الحاكم ممثلًا للرب على الأرض. لكن هذا التصور انهار تدريجيًا مع صعود عصر النهضة، حين بدأ الفلاسفة يفككون العلاقة بين الدين والسياسة ويعيدون تأسيس الشرعية السياسية على أسس إنسانية وعقلانية.

في القرن السابع عشر، مثّل توماس هوبز نقطة تحول حين صاغ فلسفة سياسية تقوم على "الخوف" كدافع أساسي لإنشاء السلطة السياسية. في كتابه اللفياثان، تصور الإنسان كائنًا أنانيًا يميل إلى العنف، ما يستوجب قيام سلطة مطلقة تحفظ الأمن. بالمقابل، جاء جون لوك ليؤسس نظرية "العقد الاجتماعي" على أسس مختلفة، إذ اعتبر أن السلطة شرعية فقط ما دامت تحمي الحقوق الطبيعية للإنسان: الحياة، الحرية، والملكية.

أما جان جاك روسو، فقد رفض كليًا فكرة الملكية الفردية كأساس للمجتمع، وطرح مفهوم "الإرادة العامة" كقاعدة للسيادة، ممهّدًا الطريق لنقد شرعية السلطة التقليدية. وقد أثّرت هذه الأفكار تأثيرًا مباشرًا في الثورات الأوروبية، خاصة الثورة الفرنسية، التي قامت على شعارات فلسفية: "الحرية، المساواة، الأخوّة".

في القرن التاسع عشر، أتى هيغل ليرى في الدولة تجليًا للروح المطلق، مما أعاد للسلطة قدسية فلسفية ولكن بصيغة عقلانية. أما كارل ماركس، فذهب إلى النقيض، مؤكدًا أن الدولة ما هي إلا جهاز قمعي في يد الطبقة البرجوازية، واعتبر أن الفلسفة يجب أن تتحول من تفسير العالم إلى تغييره، عبر الصراع الطبقي.

وفي القرن العشرين، قدّم ميشيل فوكو نقدًا جذريًا لمفهوم السلطة، معتبرًا إياها شبكة علاقات تنتشر في كافة البُنى الاجتماعية، من المدرسة إلى السجن إلى العيادة، رافضًا حصرها في الدولة فقط. بهذا، تحولت الفلسفة من أداة تبرير للسلطة إلى أداة تفكيك لها.

ثانيًا: السياق الإسلامي – الفلسفة في ظل سلطة التقديس والصراع

في العالم الإسلامي، نشأت السلطة في سياق ديني تأسيسي، حيث مثّل النموذج النبوي صيغة مثالية تجمع بين الرسالة السياسية والدينية. ومع وفاة النبي محمد(ص)، برزت معضلة كبرى تتعلق بـــ"من له الحق في الحكم؟" ومن هنا بدأت التوترات الفكرية والفقهية حول "الإمامة" و"الخلافة"، مما أفضى إلى تشكّل مدارس عقدية وفكرية لها مواقف متباينة من السلطة.

على مستوى الفلسفة، حاول أبو نصر الفارابي أن يؤسس فلسفة سياسية إسلامية تستلهم النموذج الأفلاطوني، حيث يكون الحاكم الفاضل هو من يجمع بين العقل النشط والوحي، ويقود المدينة إلى الكمال. وفي كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة، طرح تصورًا متكاملًا للدولة المثالية، لكنه ظل تصورًا نخبوياً أقرب إلى المثال الذهني من الواقع السياسي المليء بالفتن والتنازع.

أما ابن سينا، فركز على تبرير ضرورة الدولة لضمان النظام، لكنه لم يخض بعمق في المسألة السياسية اليومية. بينما برز ابن رشد في الأندلس كمفكر نقدي دافع عن أولوية العقل، وهاجم الفقهاء الذين استغلوا الدين لتكريس الاستبداد، مما جعله في صدام غير مباشر مع السلطة الدينية والسياسية.

وفي ميدان علم الكلام، برزت التيارات الكبرى كمواقع لصراع رؤيوي حول السلطة:

الخوارج: رأوا أن الحاكم يجب أن يكون عادلًا مهما كان نسبه، وأن الأمة لها حق خلعه إن ظلم، مؤسسين بذلك لفكرة "الثورة الشرعية".

الشيعة: طوّروا نظرية الإمامة الإلهية التي تمنح السلطة بعدًا مقدسًا وتجعلها حكرًا على آل البيت.

أهل السنة: ركزوا على الحفاظ على وحدة الأمة والاستقرار، حتى لو كان الحاكم جائرًا، رافضين الثورة عليه إلا بشروط صارمة.

أما المعتزلة، فقد مثّلوا تيارًا عقلانيًا مؤثرًا، جمع بين التوحيد والعدل، واعتبروا أن الحاكم مسؤول عن إقامة العدالة، ويمكن نقده ومحاسبته، وهو موقف يعكس توازنًا دقيقًا بين العقل والدين في النظر إلى السلطة.

ثالثًا: التأثيرات المتبادلة والرهانات المعاصرة

يتضح من خلال السياقين الأوروبي والإسلامي، أن السلطة لا تنفصل عن البنية الفلسفية التي تنشأ فيها، بل هي انعكاس لها، ووسيلة لترجمتها في الواقع. وفي العصر الحديث، باتت هذه العلاقة أكثر تعقيدًا في ظل تعاظم دور الدولة، وتحوّل السلطة من مجرد قرار سياسي إلى "نظام شامل" يتغلغل في الثقافة، التعليم، الإعلام، وحتى في اللاوعي الجماعي.

في العالم العربي والإسلامي اليوم، تتجلى الأزمة في غياب مشروع فلسفي واضح للسلطة، وفي الاعتماد على أنماط حكم هجينة تجمع بين الموروث السلطاني والنموذج الغربي دون تجذير فلسفي حقيقي. وهذا ما يفتح الحاجة إلى إعادة تأسيس علاقة نقدية بنّاءة بين الفكر السياسي والفلسفة، تُعيد مساءلة مفاهيم "المشروعية"، "العدالة"، "السيادة"، و"الحرية" في ضوء واقع معولم، متعدد المرجعيات، تهيمن عليه التقنيات وتختلط فيه السلطة بالرقابة والمعرفة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوعي المقيد والوعي الحر: قراءة في أنماط التصديق الدوغمائي و ...
- فاطمة الفهرية: سيدة العلم التي شيدت أول جامعة في التاريخ
- جدلية السلطة والفكر: قراءة موسوعية في تطور الأفكار السياسية ...
- المنطق الرياضي: حجر الأساس للعقلانية والاستدلال في عصر الذكا ...
- مارتن لوثر وثورة الفكر: التداعيات الفلسفية للإصلاح الديني عل ...
- الفلسفات المادية الأوروبية: أزمات جوهرية وتحديات مستقبلية في ...
- ما بعد العلمانية: تحولات المفهوم ومآلاته الفلسفية
- جون لوك: ثورة فكرية غيرت مسار الفلسفة والسياسة
- العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى
- سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان
- تحولات السلطة والفكر: رحلة الفلسفة السياسية الأوروبية من ميك ...
- العلمانية الإنسانية: يوتوبيا زائفة أم أزمة وجودية؟
- حماس بين التصنيفات الدولية: جدلية المقاومة والإرهاب في ميزان ...
- الحرية بين وهم الحداثة وسلطة الخوارزميات: من التنوير إلى الا ...
- حفلة شاي بوسطن: شرارة الثورة الأمريكية وتغير موازين التاريخ
- ما بعد سايكس بيكو: تحرير الأمة من سجون الجغرافيا والتاريخ
- مستقبل الديمقراطية الأمريكية في ظل رئاسة ترامب الثانية: بين ...
- صناعة المعرفة في العالم العربي: بين تحديات الحاضر وآفاق المس ...
- جدلية الدين والعلم والسياسة: صراع القوى أم تكامل المسارات؟
- الفلسفة المشائية: من أرسطو إلى ابن رشد - مسار العقل والاستدل ...


المزيد.....




- بعد عزل الرئيس.. كوريا الجنوبية تحدد موعد الانتخابات الرئاسي ...
- مواصفات الهاتف المنافس الجديد من Xiaomi
- الجزائر وفرنسا: كيف يفتتح البلدان -المرحلة الجديدة- بعد أزمة ...
- جماعة أنصار الله: غارات أمريكية قتلت شخصين على الأقل في صعدة ...
- مالي والنيجر وبوركينا فاسو تستدعي سفراءها من الجزائر بعد اته ...
- ما قصة اشتعال السباق النووي بين الصين والهند وباكستان؟
- نتنياهو يصل واشنطن لمناقشة -ملفين رئيسيين- مع ترامب
- بدنيا ونفسيا.. إسرائيل تعلن عدد جنودها المصابين في حرب غزة
- الجيش الروسي يسيطر على بلدة في سومي ويدمر 100 مسيرة أوكرانية ...
- -لا يتذكر-.. أردني أن حاول فتح أبواب طائرة متجهة إلى سيدني


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي: التحولات الفلسفية للسلطة