التنين يمد جناحيه: حين تتجاوز الصين ميزان القوى

أوزجان يشار

الحوار المتمدن-العدد: 8302 - 2025 / 4 / 4 - 22:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    

في مشهد غير مسبوق من التحولات الجيوسياسية، لم تعد الصين تُقارن بأمريكا، بل باتت تقارن نفسها بما كانت عليه بالأمس، وبما يجب أن تكون عليه غدًا. لم تعد تخوض معركة من أجل اللحاق بالغرب، بل لتجاوزه نحو نموذجها الخاص. وبينما تنهمك إدارة ترامب في إعادة إنتاج العالم بمنطق الشركات العقارية والنفطية، تمضي الصين بهدوء نحو هندسة التوازنات الكبرى، حيث لا مكان للهشاشة ولا للأحادية.

عجز تجاري أمريكي… لم يعد ورقة ضغط

في عام 2024، بلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين نحو 295.4 مليار دولار، أي بزيادة تقارب 6% عن عام 2023، وفق بيانات مكتب الممثل التجاري الأمريكي. هذا العجز لم يعد مؤشر فشل أمريكي بقدر ما هو دليل على ترسّخ الاعتماد البنيوي على المنتجات الصينية في سلسلة الإمداد العالمية، خصوصًا في القطاعات الحيوية كالدواء والإلكترونيات والطاقة النظيفة.

مديونية أمريكية تحت الرقابة الصينية

في الوقت الذي ترفع فيه واشنطن صوتها ضد بكين، تحتفظ الصين بما يقارب 759 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية حتى نهاية 2024، ما يجعلها ثاني أكبر دائن لأمريكا بعد اليابان. هذا الرقم رغم انخفاضه مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أنه يضع الصين في موقع يمكّنها من الضغط ماليًا إذا قررت إعادة توزيع استثماراتها بشكل يهدد استقرار الدولار نفسه.

الذهب… منجم الهيمنة القادم

بينما تتفاخر الولايات المتحدة بامتلاك 8,133.5 طنًا من الذهب – وهي الكمية الأكبر عالميًا – فإن الصين تعمل بصمت على تعزيز احتياطيها الذي بلغ 2,279.5 طنًا في نهاية 2024، معززةً ذلك بصفقات سرية وتنقيب داخلي في مناطق مثل التبت ومنغوليا الداخلية. هذا التوجه يُعد جزءًا من استراتيجية لفك الارتباط التدريجي عن الدولار وتأسيس قوة مالية مستقلة تعتمد على الذهب واليوان الرقمي.

ترامب… والتدمير كاستراتيجية

حين يفرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعريفات جمركية على حلفاء بلاده – من الاتحاد الأوروبي إلى اليابان وكندا – فهو لا يعيد ترتيب التجارة فحسب، بل يهدم منظومة الثقة التي بُني عليها النظام الدولي الليبرالي لعقود. حين تُدار السياسة الخارجية من قبل شركات تنقيب وتطوير عقاري، تتراجع الدولة لحساب المقاول، ويُستبدل التحالف الدولي بالعقد التجاري.

ترامب رفع شعار “أمريكا أولًا”، لكنه حوّلها إلى “أمريكا وحيدة”، مما دفع العديد من الحلفاء للتوجه شرقًا، نحو الصين، بحثًا عن شريك لا يفرض الأيديولوجيا، بل المصالح. الصين لم تُفوّت الفرصة، بل فتحت أسواقها، ومدّت مبادرة الحزام والطريق، واستثمرت في البنية التحتية للدول الغاضبة من واشنطن، لتعيد تشكيل “خارطة الولاء الاقتصادي” للعالم.

غرينلاند وغزة… وتايوان في المرصاد

التصريحات المفاجئة لإدارة ترامب بشأن إمكانية الاستيلاء على غرينلاند أو إدارة غزة تمثل لحظة فاصلة في فهم طبيعة العقل الاستراتيجي الأمريكي الجديد: السيطرة قبل التفاهم، والضجيج قبل التوازن. لكن هذا السلوك الأحادي قد يكون، من وجهة النظر الصينية، ذريعة مثالية لاستعادة جزيرتها التاريخية: تايوان.

إذا مضت واشنطن في فرض واقع استعماري جديد في غزة أو غرينلاند، فقد ترى بكين أن المبرر الأخلاقي والسياسي أصبح قائمًا لتحريك قواتها نحو الجزيرة التي لطالما اعتبرتها جزءًا من جسدها الوطني. وفي ظل فوضى القرارات الغربية، قد لا تجد الصين لحظة أنسب من هذه للقيام بذلك.

مستقبل بدون توازن… خطر عالمي

العالم يعيش اليوم على حافة فقدان توازنه. ليس بسبب صعود الصين، بل بسبب الفراغ القيادي الأمريكي. في ظل انعدام الثقة في إدارة ترامب التي تؤمن بسياسة “التدمير ثم التعمير”، تزداد الحاجة إلى تحالفات متوازنة تشمل الصين وروسيا، ليس كتحدٍ للغرب، بل كضرورة لضمان الحد الأدنى من الاستقرار في عالم سريع الانفجار.

الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية لم تعد ترفًا، بل صمام أمان في مواجهة النزعات الفردانية التي تجر العالم نحو حروب تجارية، ثم إلى صراعات حقيقية. القوى الكبرى يجب أن تتفاهم لا لتتقاسم النفوذ، بل لتتفادى الكارثة.

الصين لا تنتظر أحدًا

في شنجهاي، لم يختر توماس فريدمان زيارة “ديزني لاند”، بل اختار “أرض الغد” الحقيقية: مركز هواوي للأبحاث والتطوير، حيث بُني أكثر من 100 مبنى في ثلاث سنوات، يعمل فيها 35 ألف مهندس على تشكيل المستقبل. الصين لا تلهو بالتمنيات، بل تعمل على تحويل كل قيد إلى فرصة.

كل شيء هناك يعمل بالذكاء الاصطناعي، من المصانع إلى الشوارع، حتى المتسولين باتوا يستخدمون رموز QR لتلقي التبرعات. هذا ليس فيلم خيال علمي، بل مشهد افتتاحي لعصر ما بعد الغرب.

⸻


الصين لا تُقلد أحدًا، ولا تنتظر اعترافًا من واشنطن. هي تُجري مقارنتها الوحيدة بين ما كانت عليه بالأمس، وما يجب أن تكون عليه غدًا. أما الغرب، فإما أن يُراجع أوراقه، أو يُخلي الطريق. فالتاريخ لا ينتظر، والخرائط يعاد رسمها هناك، حيث لا تصدر البيانات… بل تُبنى المصانع وتُعاد هندسة العالم.

#أوزجان_يشار (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات