ملهم الملائكة
(Mulham Al Malaika)
الحوار المتمدن-العدد: 8299 - 2025 / 4 / 1 - 19:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يمكن القول إنّ سقوط الدولة العثمانية كان جزءاً من السياق الذي مهّد لنهاية استخدام الخيول والعربات، ولكن التغيير التكنولوجي في وسائل النقل كان أكبر من مجرد هذا الحدث، وكان مرتبطًا بالتطور الصناعي والتقدم التكنولوجي في الغرب خلال القرن العشرين. ومع ذلك، ما زلنا نسمع وقع سنابك الخيل، ونرى البغال الجرباء والحمير الهزيلة تنقل بإعياء أهل غزة المساكين وأشياءهم الفقيرة. هل الحصان هو كل ما تبقى لهم؟
تنطلق الحماسة العربية لخوض حروبها دائماً على صهوات الخيول والبغال والحمير، فيردد اللبناني عصام رجي بصوته الرجولي القوي:
فوق الخيل...فوق الخيل
نشد العزم...نشد الحيل
طبول تدق...وقلب يدق
ورايتنا ع نجم سهيل
وهكذا يهب الجميع إلى أجهزة الراديو والتلفاز ليناضلوا على طريقتهم، فهل ينتمي عصام رجي إلى الأردوغانية؟
وحين غنى عاصي الحلاني مفتخراً عن "خيل العرب"، هل كان يمهد لأردوغانية عربية؟ احسب أن تسطيح الأشياء بهذه الطريقة يجافي الحقائق وينأى عن الدقة. وكان لا بد من هذا التقديم الملّون بعناوين الحماسة العربية الإسلامية، من خلال المدخل "الحصاني" تمهيداً لشرح تفاصيل جديدة مثيرة للجدل عن جمهورية تركيا أردوغان الساعية إلى طمس تركيا أتاتورك التقدمية.
ويردد أغلب مراقبي المشهد الإقليمي والدولي أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يسعى إلى إعادة مجد الإمبراطورية العثمانية، وهو زعم يُثير جدلاً واسعًا، ويستدعي تحليلاً متوازنًا لسياساته وخطابه ومواقفه الإقليمية والدولية. ولعل التالية هي أبرز النقاط التي تُساعد في فهم هذه القضية:
* الرمزية العثمانية في خطاب أردوغان: يُبرز أردوغان بشكل متكرر الإرث العثماني في خطاباته، ويربطه بهوية تركيا الحديثة. وعلى الأرض جسّد ذلك في امثلة منها:
تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد عام 2020، وهو قرارٌ رأى فيه كثيرون إحياءً لرمزية الفتح العثماني للقسطنطينية، مشبهين سياساته الخارجية بدور الدولة العثمانية كـ "قوة حامية" للإسلام والمنطقة، من خلال دعمه لقضايا مثل فلسطين والمسلمين في أوروبا. كما يسعى أردوغان إلى تعزيز مكانة تركيا كزعيمة للعالم الإسلامي، وهو دورٌ كانت تلعبه الإمبراطورية العثمانية تاريخيًا.
*السياسات الإقليمية باعتبارها "عثمانية جديدة": تُوصف سياسة أردوغان الخارجية أحيانًا بـ "النيو-عثمانية"، وهو مصطلح يشير إلى محاولة تركيا استعادة نفوذها في مناطق كانت خاضعة سابقًا للعثمانيين، وأمثلة ذلك:
التدخل العسكري المتطاول في كردستان العراق، وصولاً إلى حوزة كركوك النفطية.
التدخل العسكري في سوريا وليبيا.
تعزيز العلاقات مع دول البلقان (كالبوسنة وألبانيا).
ارتفاع سطح التنسيق بين أذربيجان وتركيا وتطور العلاقات بينهما وصولاً إلى مستوى التحالف في السياسة الخارجية والتعاون العسكري والتقني والدفاعي.
وتعتمد أنقرة على مزيج من استيراد القوة العسكرية (مثل قاعدة إنجرليك الأمريكية)، والدبلوماسية الاقتصادية (مثل المشاريع في إفريقيا)، والدعم السياسي للجماعات الإسلامية. أما الفرق بين الطموح التركي "الإمبرليمي" (وهو مصطلح حديث جداً مشتق من مزاوجة وصفي الامبريالي/ الإقليمي) والواقع الجيوسياسي فيظهر في:
أنّ الإمبراطورية العثمانية كانت كيانًا متعدد الأعراق والأديان، بينما تركيا أتاتورك الحديثة (منذ 1923) فهي دولة قومية ذات أغلبية تركية. سياسات أردوغان التوسعية لا تهدف إلى ضم أراضٍ، بل إلى تعزيز النفوذ عبر التحالفات والاستثمارات، وهذا ما يقوله الداعمون له طبعاً.
لكن النظام الدولي الحالي (المبني على سيادة الدول ومنع التوسع الإقليمي) فيحدّ من إمكانية تكرار نموذج إمبراطوري قديم. تركيا اليوم تتنافس مع قوى كبرى مثل روسيا والاتحاد الأوروبي، وليس لديها موارد الإمبراطوريات السابقة.
* دوافع أردوغان بين الأيديولوجيا والمصالح الوطنية:
تعزيز الشرعية الداخلية من خلال استخدام الرمزية العثمانية، وهو ما يُعزز شعبية أردوغان لدى القاعدة المحافظة في تركيا، ويُبرزه ك "زعيم تاريخي" في مواجهة معارضيه العلمانيين.
مصالح اقتصادية وأمنية، من خلال سياساته في سوريا وليبيا مرتبطة بأمن الحدود والوصول إلى الموارد (مثل الغاز في المتوسط)، وليس بإحياء أمجاد الماضي.
الرد على التهميش الغربي، حيث يشعر أردوغان بأن الغرب (خاصة الاتحاد الأوروبي) يستبعد تركيا، فصار يبحث عن دور إقليمي بديل يعيد لها الهيبة.
*آراء النقاد والمؤيدين:
يتهم النقاد السياسيون أردوغان بمحاولة فرض هيمنة تركية جديدة تحت غطاء الخطاب العثماني، مستخدمًا الإسلام كأداة لتحقيق نفوذ جيوسياسي.
أما مؤيدو أردوغان وعقيدته فيرون أن سياسته تُعيد لتركيا دورها "الطبيعي" كقوة إقليمية فاعلة، بعد عقود من التهميش تحت حكم النخبة العلمانية.
وبالعودة إلى وقع الحوافر وقرع الطبول وهزّ السيوف والقامات (جمع قامة وهي السكين الطويلة، كما أنّه جمع قامة وهي الجسد) والخناجر، فيمكن القول بلا تردد إنّ الدولة العثمانية كانت آخر إمبراطورية كبرى تعتمد بشكل كبير على الخيول في العديد من جوانب الحياة، سواء في الجيش أو في النقل المدني. وعند انهيارها، كانت التكنولوجيا الغربية قد بدأت في السيطرة على المشهد العالمي، ما ساهم في تسريع التغيير الذي حدث في وسائل النقل.
لكن من ناحية ربط السبب بالمسبب، لا يمكن اعتبار سقوط الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين نهاية مباشرة لعصر الخيول والعربات التي تجرها الحيوانات، بل يمكن القول إنه كان جزءًا من تحول شامل في وسائل النقل وتطور التكنولوجيا في تلك الفترة.
الخيول والعربات كانت تُستخدم على نطاق واسع في العديد من المناطق حول العالم حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا، لكن مع تطور السيارات والطائرات والدبابات في الحرب العالمية الأولى، بدأت هذه الوسائل الحديثة تحل محل الخيول والعربات بشكل تدريجي في النقل العسكري والمدني. وتحوّلت تشكيلات الخيالة والفرسان في الجيوش إلى وحدات رمزية بروتوكولية في أغلب الدول، مع أن شرطة لندن ما تزال تصر على استخدام الخيول في تفريق التظاهرات وحماية أمن لندن. ولعل المدافعين عن الخيول هناك هم جزء من اللوبي الإسلامي الكبير الذي يسيطر اليوم على المملكة المتحدة عموما، وانكلترا خصوصاً!
ويمكن القول إن سقوط الدولة العثمانية (عام 1922) تزامن مع نهاية عصرٍ تاريخيٍ واسعٍ شهد تحوُّلاتٍ جذرية في التكنولوجيا والسياسة والاقتصاد، لكن ربطه مباشرةً بنهاية عصر الخيول والعربات التي تجرها الحيوانات يحتاج إلى توضيح دقيق، وتفاصيل ذلك:
*السياق الزمني المشترك:
بدأ استخدام السيارات والقطارات البخارية يتفوق على الخيول أوائل القرن العشرين، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، التي شهدت أول استخدام واسع للدبابات والشاحنات العسكرية.
انهارت الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وتفككت إلى دول قومية حديثة بموجب معاهدة سيفر (1920) ولوزان (1923).. هناك تداخل زمني بين الحدثين، لكن العلاقة ليست سببًا مباشرًا.
* الرمزية التاريخية:
اعتمدت السلطنة العثمانية على الاقتصاد الزراعي والجيوش النظامية التي كانت لا تزال تعتمد جزئيًا على الفرسان (مثل فرق "السپاهية")، بينما تفوقت عليها أوروبا في التصنيع والتكنولوجيا العسكرية.
نهاية "العالم القديم" حيث يُنظر إلى سقوط الإمبراطوريات الكبرى (كالعثمانية والنمساوية-المجرية والروسية) كنهاية لنمط الحكم الإمبراطوري التقليدي، الذي ارتبط بثقافة الفروسية والنقل البدائي، لصالح الدول القومية الحديثة والعولمة الصناعية.
* الاختلاف الجوهري:
وبشكل سريع وعام جداً فإن أسباب سقوط العثمانيين والعثمانية الفاسدة كعقيدة ونهج حياة، لم تكن تقنية بحتة (كتراجع الخيول)، بل نتجت عن تراكم عوامل عدة لسنا بصددها الآن.
ولنختم الكلام بقول منصف خلاصته أن نهاية عصر الخيول كان تحولًا لوجستياً تقنياً عالميًا ارتبط بلا شك باختراع المحرك البخاري والسيارة، وليس له علاقة مباشرة بسياسة إمبراطورية معينة.
وعلى وجه العموم، يمكن توظيف هذه المقارنة كسردية ثقافية لوصف نهاية حقبة تاريخية طويلة، لكنها لا تُفسِّر الأسباب المباشرة لسقوط العثمانيين (جيران العرب الأقرب وحماة آخر خلافة إسلامية)، والتي كانت معقدة ومتعددة الأبعاد. هل ظلمت السلطنة العثمانية والحالمين بعودتها بتأملاتي هذه؟
#ملهم_الملائكة (هاشتاغ)
Mulham_Al_Malaika#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟