أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى














المزيد.....

العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8299 - 2025 / 4 / 1 - 14:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
في عصر ما بعد الحداثة، لم يعد انهيار السرديات الكبرى مجرد تحوّل فكري أو معرفي، بل أصبح تجربة وجودية يعيشها الإنسان يوميًا. فقد أسقطت العقود الأخيرة، بفضل التقدم التكنولوجي والتغيرات الاجتماعية، كثيرًا من الأطر التي كانت تمنح الحياة معنى متماسكًا، مثل الأديان، والأيديولوجيات السياسية، والمذاهب الفكرية الكبرى. وأصبح الإنسان يواجه عالَمًا بلا مركز، حيث لا توجد حقائق مطلقة ولا غايات كونية، بل تعددية متطرفة وانفتاح غير محدود على كل شيء، مما أدى إلى تفشي أزمة المعنى.

العدمية الرقمية وتآكل اليقينيات
في هذا السياق، ظهرت العدمية الرقمية كوجه جديد للمأزق الوجودي للإنسان المعاصر. لقد خلقت الثورة الرقمية عالَمًا تتلاشى فيه الحدود بين الحقيقي والافتراضي، وبين الواقعي والوهمي، حيث تتدفق المعلومات بلا نهاية، مما يجعل أي محاولة للتمسك بمعنى ثابت أو رؤية متكاملة للحياة أمرًا شاقًا. الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وثقافة الاستهلاك المعلوماتي المستمر، لم تساهم فقط في إضعاف السرديات التقليدية، بل خلقت نمطًا من التشتت الذهني والضياع الوجودي، حيث يبدو أن كل شيء متاح، لكن لا شيء يمتلك قيمة حقيقية. وفي ظل هذه الفوضى الرقمية، تصبح العدمية تجربة معاشة، لا مجرد طرح فلسفي نخبوي كما كان الحال مع نيتشه أو هايدغر.

سقوط الأيديولوجيات وتفكك المعنى السياسي
على المستوى السياسي، شهد العالم تراجع الأيديولوجيات الكبرى التي سيطرت على الفكر الإنساني لقرون. الشيوعية انهارت، والليبرالية الديمقراطية تواجه أزمات متزايدة، والعقائد القومية تفقد قدرتها على الإلهام، فيما تتحول السياسة إلى صراع نفعي بارد يخلو من أي بعد أخلاقي أو ميتافيزيقي. هذه الحالة تكرّس فراغًا وجوديًا في المجال العام، حيث لم يعد هناك "مشروع إنساني" جامع يمكن للناس أن يؤمنوا به ويضحّوا من أجله، بل أصبحت المصالح الفردية والأنانية السياسية هي المحرك الأساسي للقرارات والمواقف.

التفكك الثقافي ونهاية اليقينيات الأخلاقية
أما على المستوى الثقافي، فقد أدى التشكيك المتزايد في القيم المطلقة إلى خلق عالم نسبي بالكامل، حيث يتم التعامل مع كل الحقائق كوجهات نظر، وكل الأخلاق كنسبية ثقافية. هذا الوضع جعل الإنسان المعاصر يعيش في حالة دائمة من اللايقين، فلا شيء يبدو مؤكدًا، ولا توجد معايير راسخة لتحديد الخير أو الشر، بل فقط سياقات متغيرة وتفسيرات لا نهائية.

هل هناك مخرج من هذا الفراغ؟
أمام هذا الواقع، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للإنسان المعاصر تجاوز هذه العدمية، أم أنها قدر محتوم لعصر ما بعد الحداثة؟ هناك مسارات متعددة لمحاولة إعادة بناء المعنى، بعضها يركز على استعادة البعد الروحي في الحياة، سواء عبر الأديان التقليدية أو أشكال جديدة من التجربة الروحانية. وهناك من يدعو إلى إعادة اكتشاف القيم الإنسانية الكلاسيكية، مثل التضامن، والإبداع، والسعي نحو الحقيقة، كوسيلة لمواجهة الفراغ. في المقابل، يرى البعض أن العدمية ليست مشكلة، بل فرصة لإعادة تعريف الذات والحرية، بعيدًا عن الأوهام الكبرى التي سادت في الماضي.

في النهاية، يظل البحث عن المعنى رحلة شخصية وجماعية في آنٍ واحد، ولا يوجد حل جاهز أو وصفة سحرية. لكن الواضح أن الإنسان لا يستطيع العيش في فراغ كامل، وأنه سيظل يسعى لإعادة بناء أسس وجوده، حتى لو كان ذلك عبر تجارب جديدة لم تتضح ملامحها بعد.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان
- تحولات السلطة والفكر: رحلة الفلسفة السياسية الأوروبية من ميك ...
- العلمانية الإنسانية: يوتوبيا زائفة أم أزمة وجودية؟
- حماس بين التصنيفات الدولية: جدلية المقاومة والإرهاب في ميزان ...
- الحرية بين وهم الحداثة وسلطة الخوارزميات: من التنوير إلى الا ...
- حفلة شاي بوسطن: شرارة الثورة الأمريكية وتغير موازين التاريخ
- ما بعد سايكس بيكو: تحرير الأمة من سجون الجغرافيا والتاريخ
- مستقبل الديمقراطية الأمريكية في ظل رئاسة ترامب الثانية: بين ...
- صناعة المعرفة في العالم العربي: بين تحديات الحاضر وآفاق المس ...
- جدلية الدين والعلم والسياسة: صراع القوى أم تكامل المسارات؟
- الفلسفة المشائية: من أرسطو إلى ابن رشد - مسار العقل والاستدل ...
- من الاستبداد إلى الإبداع: تحديات الانتقال من الدولة الديكتات ...
- تقديس الوطن: توظيف الخطاب الديني في هندسة الهوية القومية وصن ...
- فلسفة الجمال في مرآة الحداثة: تأملات في الفن والوجود
- جوديث بتلر وتفكيك وهم الهوية: الجندر بين الأداء والسلطة
- الطاو تي تشينغ: حكمة الوجود الخفي ومسار الطبيعة الذي لا يُقا ...
- جدل الدولة في الفلسفة السياسية: من فرض النظام إلى تحقيق العد ...
- العدل الإلهي بين التنزيه والمسؤولية: قراءة معتزلية في قوله ت ...
- الدين بين العقل والنقد: رحلة الفلسفة الأوروبية من التفكيك إل ...
- فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في ال ...


المزيد.....




- رسوم ترامب الجمركية ستُعلن قريبًا في -يوم التحرير-.. إليكم م ...
- أمريكا تعاقب شبكة متهمة بإرسال أسلحة وحبوب أوكرانية مسروقة ل ...
- روته: دول -الناتو- زوّدت كييف بأسلحة بقيمة تجاوزت الـ20 مليا ...
- الجزائر ـ الكاتب بوعلام صنصال يستأنف الحكم بسجنه خمس سنوات
- مصادر طبية فلسطينية: 63 شهيدا في غارات إسرائيلية على قطاع غز ...
- مباحثات مصرية أردنية حول جهود القاهرة والدوحة للتهدئة في غزة ...
- الكويت تبدأ أولى جولات قطع الكهرباء في 2025
- إعلام: 50 ألف يمني محرومون من الماء بسبب الغارات الأمريكية
- هوس العناية بالبشرة بين المراهقات.. مخاطر خفية وراء المنتجات ...
- روته: لم نناقش الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العدم الرقمي: الإنسان في متاهة ما بعد المعنى