أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان















المزيد.....

سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8299 - 2025 / 4 / 1 - 14:35
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
شكّل كتاب رسالة في اللاهوت والسياسة للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 - 1677) أحد أهم الأعمال الفلسفية التي تحدّت الأسس التقليدية للفكر الديني، وأسهمت في إعادة تعريف العلاقة بين العقل والنص المقدس. ففي سياق عصر اتسم بسيطرة العقائد الدينية على الفكر والثقافة، اتخذ سبينوزا موقفًا نقديًا جريئًا تجاه الكتاب المقدس، متسلحًا بمنهج عقلاني صارم قائم على التأويل التاريخي والنقد الفلسفي العميق. كان هدفه الأساسي تحرير العقل من قيود الإيمان غير النقدي، وكشف الأبعاد البشرية التي شكّلت النصوص الدينية، بحيث لم تعد تُفهم باعتبارها وحيًا إلهيًا مطلقًا، بل بوصفها نصوصًا تاريخية تعكس سياقات زمنية واجتماعية وسياسية معينة.

لقد أدرك سبينوزا أن فهم الكتاب المقدس لا يمكن أن يتم من خلال التسليم بقدسيته دون مساءلة، بل يتطلب تحليلاً عميقًا للأسس التي بُني عليها، مما جعله يعيد النظر في مفاهيم أساسية مثل الوحي، المعجزة، وسلطة النصوص الدينية. وقد قاده هذا النهج إلى استخلاص رؤية ثورية تعتبر أن الدين، في جوهره، لا ينبغي أن يتعارض مع العقل، وأن محاولة فرض أي سلطة دينية قائمة على تأويل حرفي للنصوص المقدسة هي محاولة تُناقض طبيعة الإيمان الحر والمستنير.

يرى سبينوزا أن الاعتقاد بأن الكتاب المقدس هو نص مقدس لا تشوبه شائبة هو نتيجة سوء فهم لطبيعة النصوص الدينية. ففي رأيه، لم يُكتب الكتاب المقدس بيد إلهية، بل هو عمل بشري خضع لتأثيرات بيئية وثقافية مختلفة. ومن هذا المنطلق، يجب أن يُعامل كأي نص تاريخي آخر، حيث يكون الهدف من دراسته هو فهم الظروف التي أفرزته، وليس البحث عن حقيقة إلهية مطلقة في داخله.

أحد أهم النقاط التي يثيرها سبينوزا هو التناقضات الموجودة في الكتاب المقدس، والتي يراها دليلاً على تعدد المؤلفين واختلاف وجهات النظر التي انعكست فيه عبر الأجيال. فهو يؤكد أن النصوص المقدسة لم تُكتب بأسلوب موحّد، ولم تحافظ على نسق فكري ثابت، مما يدل على أنها تعكس مراحل زمنية متباينة وتطورات فكرية واجتماعية متباعدة. ومن هنا، فإن اعتبارها مصدرًا لمعرفة مطلقة هو، في رأيه، خطأ منهجي يجب تصحيحه.

ولعلّ أكثر الأفكار إثارة للجدل في نقد سبينوزا للكتاب المقدس هي رؤيته للوحي. فهو يرفض الفكرة التقليدية القائلة بأن الوحي هو خطاب إلهي مباشر إلى البشر، ويستبدلها بتصور يرى أن الوحي هو مجرد انعكاس لخبرات روحية وأخلاقية عاشها أنبياء ومفكرون في سياقاتهم التاريخية. وهذا يعني أن النصوص الدينية ليست حقائق نهائية، بل تعبيرات عن تجارب إنسانية يمكن أن تكون مفيدة من الناحية الأخلاقية، لكنها ليست بالضرورة معصومة أو متفوقة على العقل.

المعجزات بين الإيمان والعقل: تفكيك أسطورة التدخل الإلهي

يذهب سبينوزا إلى أبعد من مجرد نقد النصوص، ليصل إلى مراجعة جذرية لمفهوم المعجزة ذاته. فهو يرى أن الاعتقاد بالمعجزات نابع من الجهل بالقوانين الطبيعية، وأن ما اعتُبر معجزات في العصور القديمة لم يكن سوى ظواهر طبيعية لم يفهمها الناس آنذاك. ومن هذا المنطلق، يرفض سبينوزا أي تصور يجعل من الإيمان الديني قائمًا على تدخلات خارقة للطبيعة، معتبرًا أن الله لا يتدخل في نظام الكون من خلال خرق القوانين الطبيعية، لأن هذه القوانين تعبر عن النظام الإلهي ذاته.

يُشكل هذا الطرح انقلابًا على التصور التقليدي الذي يجعل من الدين نقيضًا للعلم، ويضع سبينوزا في مصاف المفكرين الذين أسهموا في تأسيس رؤية عقلانية للدين، تقوم على فهم الطبيعة ككيان منظم لا يحتاج إلى تدخلات استثنائية لإثبات وجوده. وبهذا المعنى، فإن نقد سبينوزا للمعجزات لا يهدف إلى نفي الإيمان، بل إلى تنقيته من الخرافة، وإعادته إلى مساره الطبيعي كمنظومة أخلاقية يمكن أن تتعايش مع الفهم العلمي للعالم.

الدين والسلطة: كيف استُخدم الكتاب المقدس أداة للهيمنة؟

إلى جانب نقده الفلسفي والديني، يلفت سبينوزا الانتباه إلى البعد السياسي لاستخدام الكتاب المقدس، حيث يرى أن السلطات الدينية عبر التاريخ وظّفته كأداة للتحكم في العقول، وتعزيز سلطتها على المجتمعات. فالخطاب الديني، بحسب سبينوزا، لم يكن مجرد وسيلة لنقل تعاليم روحية، بل تحول إلى وسيلة للسيطرة الاجتماعية، حيث استُخدمت النصوص المقدسة لتبرير أنظمة الحكم، وإضفاء الشرعية على قرارات سياسية تخدم مصالح فئات معينة.

في هذا السياق، يُحذر سبينوزا من خطورة الخلط بين الدين والسياسة، مؤكدًا أن الإيمان الحقيقي لا يمكن أن يُفرض بالقوة، ولا يمكن أن يكون أداة في يد السلطة لتوجيه الجماهير. ومن هذا المنطلق، يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، بحيث يبقى الدين مسألة شخصية تتعلق بحرية الضمير، بينما تخضع السياسة لمعايير العقل والمنطق.

نحو فهم جديد للكتاب المقدس: التأويل العقلاني بدلاً من التسليم اللاهوتي

على ضوء هذه الرؤية النقدية، يقترح سبينوزا بديلاً عن الفهم التقليدي للكتاب المقدس، يتمثل في مقاربة عقلانية تقوم على التأويل التاريخي للنصوص الدينية، بدلًا من اعتبارها حقائق نهائية يجب التسليم بها. فهو يرى أن الكتاب المقدس قد يحمل في داخله قيمًا أخلاقية وإنسانية يمكن أن تكون مفيدة، لكن فهمه يجب أن يتم في ضوء السياقات التي أُنتج فيها، وليس باعتباره كتابًا فوق التاريخ.

يرى سبينوزا أن هذا النهج لا يقلل من أهمية الدين، بل يعيد توجيهه نحو دوره الحقيقي كقوة روحية وأخلاقية، بعيدًا عن المفاهيم المتصلبة التي تجعل منه مصدرًا للخرافة أو أداة للسلطة. ومن هنا، فإن مشروعه الفلسفي لا يستهدف هدم الدين، بل تحريره من التفسيرات اللاعقلانية، وإعادة بنائه على أسس تتيح له التعايش مع التطور الفكري والعلمي.

تمثل رؤية سبينوزا للكتاب المقدس نقطة تحول في تاريخ الفلسفة والدين، حيث فتحت المجال أمام منهج نقدي جديد يتعامل مع النصوص الدينية باعتبارها إنتاجًا بشريًا، وليس كحقائق مطلقة. لقد كان مشروعه محاولة جريئة لتحرير العقل من قيود التفسير التقليدي، وإعادة بناء الإيمان على أسس عقلانية لا تتعارض مع التطور المعرفي للإنسان.

وبهذه الرؤية، يكون سبينوزا قد وضع الأساس لما يمكن أن يُسمى بـ"لاهوت العقل"، الذي يسمح بالإيمان دون أن يكون على حساب التفكير الحر، ويفتح المجال أمام قراءة جديدة للنصوص الدينية تتيح لها أن تظل مصدرًا للقيم الأخلاقية، دون أن تتحول إلى قيود فكرية تعيق التقدم. إن فلسفته في هذا المجال لم تكن مجرد نقد للدين، بل كانت دعوة إلى تحريره من الجمود، وجعله أكثر انسجامًا مع العقل والعلم والتجربة الإنسانية.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تحولات السلطة والفكر: رحلة الفلسفة السياسية الأوروبية من ميك ...
- العلمانية الإنسانية: يوتوبيا زائفة أم أزمة وجودية؟
- حماس بين التصنيفات الدولية: جدلية المقاومة والإرهاب في ميزان ...
- الحرية بين وهم الحداثة وسلطة الخوارزميات: من التنوير إلى الا ...
- حفلة شاي بوسطن: شرارة الثورة الأمريكية وتغير موازين التاريخ
- ما بعد سايكس بيكو: تحرير الأمة من سجون الجغرافيا والتاريخ
- مستقبل الديمقراطية الأمريكية في ظل رئاسة ترامب الثانية: بين ...
- صناعة المعرفة في العالم العربي: بين تحديات الحاضر وآفاق المس ...
- جدلية الدين والعلم والسياسة: صراع القوى أم تكامل المسارات؟
- الفلسفة المشائية: من أرسطو إلى ابن رشد - مسار العقل والاستدل ...
- من الاستبداد إلى الإبداع: تحديات الانتقال من الدولة الديكتات ...
- تقديس الوطن: توظيف الخطاب الديني في هندسة الهوية القومية وصن ...
- فلسفة الجمال في مرآة الحداثة: تأملات في الفن والوجود
- جوديث بتلر وتفكيك وهم الهوية: الجندر بين الأداء والسلطة
- الطاو تي تشينغ: حكمة الوجود الخفي ومسار الطبيعة الذي لا يُقا ...
- جدل الدولة في الفلسفة السياسية: من فرض النظام إلى تحقيق العد ...
- العدل الإلهي بين التنزيه والمسؤولية: قراءة معتزلية في قوله ت ...
- الدين بين العقل والنقد: رحلة الفلسفة الأوروبية من التفكيك إل ...
- فلسفة اللذة بين العقل والرغبة: جدلية السعادة والمعاناة في ال ...
- حدود العلم وأفق الوعي: فيزياء الكون بين الإدراك والواقع


المزيد.....




- رسوم ترامب الجمركية ستُعلن قريبًا في -يوم التحرير-.. إليكم م ...
- أمريكا تعاقب شبكة متهمة بإرسال أسلحة وحبوب أوكرانية مسروقة ل ...
- روته: دول -الناتو- زوّدت كييف بأسلحة بقيمة تجاوزت الـ20 مليا ...
- الجزائر ـ الكاتب بوعلام صنصال يستأنف الحكم بسجنه خمس سنوات
- مصادر طبية فلسطينية: 63 شهيدا في غارات إسرائيلية على قطاع غز ...
- مباحثات مصرية أردنية حول جهود القاهرة والدوحة للتهدئة في غزة ...
- الكويت تبدأ أولى جولات قطع الكهرباء في 2025
- إعلام: 50 ألف يمني محرومون من الماء بسبب الغارات الأمريكية
- هوس العناية بالبشرة بين المراهقات.. مخاطر خفية وراء المنتجات ...
- روته: لم نناقش الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - سبينوزا والكتاب المقدس: نقد النص وإعادة بناء الإيمان